الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | فرنسا ونظرة الجائع إلى الطعام فيما يخص المغرب

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 49"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    من دهاء الفرنسيين الذين ينتمي إليهم السفير تايانديي، أنهم بعدما وجدوا أنفسهم مرغمين على الجلاء بدء من سنة 1956 وترك البلدين للجارين، بعثروا أوراق الملكية وسلموا أطرافا من بستان الجار الأول للجار الثاني مخلفين بذلك عناصر خلاف لن تستطيع السنون الطوال محو أثاره ما دامت أثار الفرقة حول البستان المشترك معششة في أذهان الجارين، وحيث أن الفرنسيين كانوا يعرفون حق المعرفة أن البستان ليس مشتركا، وأنه بقي تحت نفوذ المغرب، فإن المرارة كانت تقطع أفئدتهم، ذلك أنه بينهم وبين البستان سياج من الإصرار المغربي على رفض الاحتلال، سياج من الصمود والأشواك والمهج والتضحيات.

فكيف يتم اختراق هذا السياج؟ وكيف الدخول إلى البستان؟

لو سألت أي بدوي عن أبسط طريقة لاختراق سياج قصد الدخول إلى بستان من غير بابه، لأجابك بأن عليك استعمال الفأس، وكذلك كان الأمر بالنسبة لحكام فرنسا.

تتمة المقال بعد الإعلان

لقد طرحت فرنسا على علمائها وضباطها: دوفوكو، وسيجونزاك، وهزي دو لامارتينيير، وميشو بيلير، وغيرهم.. هذا السؤال: كيف نجتاز السياج وندخل للبستان المغربي؟ وفي مدينة روان، ألقى البحاثة سيجونزاك محاضرة سنة 1902 عن فلسفة احتلال المغرب/البستان وقال: ((لكي ينهار المغرب، ينبغي أن نعمل فيه الفأس، وهذا القرار العنيف ليس فيه ما يخيفنا))، ورغم أننا لسنا بصدد تحليل فلسفة ابن المقفع في “كليلة ودمنة”، فإننا بالرغم منا في اضطرار لمجاراة تسلسل الأحداث كما خلفتها لنا الوثائق الفرنسية.

ولست أدري هل كان الساسة الفرنسيون في ذلك مشدودين بحكم ظروفهم البائسة إلى فلسفة الجائع الذي يتصور الحذاء قطعة من الخبز، أو العطشان الذي يحسب السراب ماء، وإنما الظاهرة التي تدعو للاستغراب هي إجماع ساسة فرنسا على النظر إلى المغرب نظرة الجائع إلى الخبز.. فبعد أن قرأنا كيف شبه السفير الفرنسي بطنجة المغرب ببستان، ونصح السياسي سيجونزاك باستعمال الفأس لاختراق البستان، جاء قطب آخر من أقطاب السياسة الفرنسية، وهو الوزير ديلكاسي، ليتمم فلسفة البستان، ففاضت سجيته، ووقف أمام البرلمان الفرنسي محللا موقف الحكومة الفرنسية من المغرب معلقا على دعاة التعجيل باحتلال المغرب، قائلا: ((عندما أصعد لهذه المنصة متكلما، فإن هؤلاء الحمقى يريدون أن أبرز لهم عقد امتياز جيد، كي يسحب الأرنب من أذنه عند العودة من الصيد، ولم أكن أستطيع أن أذيع سر مفاوضات لندن، بأن أقول لهم أنه “بدلا من أن نصطاد بدون إذن في المغرب، جاذبين إليها كل صيادي الدول الأخرى في العالم، فإنني أعمل على الحصول على تخلي الدول الأخرى صاحبة العلاقة، وبالتالي، نريد أولا إغلاق الأرض التي علينا أن نكون فيها الصياد الأوحد لدى السلطان، وفي نفس الوقت شركاءه في الملكية)).

هكذا يظهر بعد الاعتدال، وبعد التروي في دخول البستان بطريقة أكثر دهاء ومع الكثير من الاحتياطات، ورغم احتفاظ ديلكاسي في ذاكرته بالتقارب الكبير بين الأرنب في نظره، والبستان في نظر السفير تايانديي، فإننا نكاد نتصور السياسي سيجونزاك كقاطع الطريق، بقي ممسكا في يده بالفأس التي نصح باستعمالها لدخول المغرب/البستان.. فأي فرق نجده بين أحد قطاع الطريق البدائيين، وبين المحاضر الفرنسي سيجونزاك؟

على أية حال، إنني قد أجد مبررا لقاطع الطريق المجرم السفاك الساطي على ممتلكات غيره بحكم الجريمة، ولا أجد مبررا للمحاضر الأديب سيجونزاك في قاعة المحاضرات بروان.

سيجونزاك هذا، لم يكن في الحقيقة إلا عضوا في “الحزب الاستعماري” الذي كان يتزعمه أوجين إتيان، الذي كان الحسن الأول يتتبع حركاته، ودعوة مفكر الحزب سيجونزاك مؤلف كتاب: “رحلة إلى المغرب” المنطلقة من الأسلوب البدائي باستعمال الفأس في اجتياز السياج الوطني للمغرب، إنما هو مدين بها لزعيم الحزب أوجين إتيان، الذي كتب له مقدمة الكتاب وفيها يقول: ((إن من الجلي الواضح، أن مستقبل فرنسا مرتبط بالحل الذي سيعطى للمسألة المغربية)).

فاحتلال المغرب إذن، كان مصيريا بالنسبة للوجود الفرنسي، إنما كيف هو الحل الذي يراه الاستعماري أوجين إتيان ما دام دائما متروكا للظروف ولا أحد يتوق إلى حل في غير مصلحته؟

إن أوجين إتيان كان يرى أن عليه أن يفرض هذا الحل، ويجعله على مستوى أطماعه.. فقد خطب سنة 1903 متحدثا عن هذا الحل، محللا إياه بقوله: ((إن هذا الحل سيكون يوم تحل المسألة المغربية، وآنذاك فإن فرنسا ستكون قد أنهت في إفريقيا عملها الاستعماري، وستكون إمبراطوريتها كبيرة بما فيه الكفاية لإرضاء نشاطها، فستجد هناك الغذاء الضروري لرؤوس أموالها التي تستخدمها في بعض الأحيان بصورة فريدة، ومراكز لأبنائها الذين لا يجدون لهم مراكز في الوطن الأم، وأسواقا لبضاعتها وموادا أولية لصناعتها)).

هذا الخطاب القيم نشر في مجلة “اللجنة الفرنسية لإفريقيا” سنة 1903، وهو خطاب تاريخي حقا، لكنه ولاشك خطاب قذر وسخ، ما أحوج دعاة المبادئ الفرنسية إلى العدالة والحرية والمساواة، لأن يجمعوا صابون فرنسا وأوروبا لمحاولة غسله من على جبين دولتهم العظيمة.

وتزداد المرامي الاستعمارية بلورة في العقول، وتزداد طموحات فلاسفتها تبلورا على الشفاه وفوق الأوراق، بل إن الظروف الاجتماعية والسياسية الفرنسية تجاه انهزام فرنسا في المجال الاقتصادي والعسكري أمام ألمانيا، أصبحت تخالجها فكرة منبثقة من المنطق الصهيوني حول أرض الميعاد أو الأرض البديلة: المغرب، جنة عدن التي منحها الله كل شيء، ومن يشهد بهذا غير رجل ذاق طعم الاستعمار واستلذه واستأنس بمزاولة الاحتلال، وهو المقيم العام الفرنسي في تونس، روني مايي، الذي كتب إلى حكومته يسألها عن السر في التماطل فيقول: ((إن فرنسا خسرت منطقتين: الألزاس واللورين، فعليها أن تعوضهما باحتلال المغرب، إن هذه المنطقة ما بين خليج قابس وشاطئ الأطلسي متسع مريح لأكثر من مليونين من الفرنسيين)).

أما الطريقة التي يراها الدبلوماسي اللبق روني مايي، فتقتضي في نظره: ((أن نضيق الخناق على السلطان، وأن نقيم معه وجها لوجه في عاصمته الدينية القديمة، وأن نفرض عليه تحولا يجعله صديقا أكثر ما يمكن، وفي نفس الوقت علينا أن نوفق بين أعمالنا وأقوالنا باستخدام الوسائل المختلفة والمشروعة التي تمدنا بها مجاورة الأراضي الجزائرية، كإكثار المدارس الفرنسية العربية، وإرسال بعثات من تونس وتلمسان، لنبين في فاس وفي مراكش ما تعمله فرنسا كل يوم للمسلمين، والعمل بواسطة الصحف والمطبوعات وحشد أناس أشداء نشطين يتكلمون العربية ويتآلفون مع الأهالي بفضل تمرين يقضونه في الوظائف الإدارية في الجزائر وتونس)).

وأخيرا يقول مايي: ((أن نعطي للسلطان الانطباع بأن مصالحه تنطبق مع مصالحنا، وأنه ما من أحد غيرنا راغب في المحافظة على استقلاله إزاء الدول الأجنبية)).

إنه من خلال الأحداث التي عرفها المغرب فيما بعد، والتي سيأتي سردها، يتضح بجلاء أن فلسفة استعمار المغرب انطلقت من هذه السطور التي حررها المقيم العام في تونس، روني مايي، وكأننا بالدولة الفرنسية تصدر أوامرها بتنفيذ مخطط المقيم العام بالنص والحرف.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى