الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | عندما جندت فرنسا “عميلا” جزائريا في قصر السلطان

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 48"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

المدفع فرنسي والخبير جزائري

    كان هم العسكر الفرنسيين بالدرجة الأولى، اختراق أسرار السلطان، والاشتراك في مملكة الكولونيل ماك لين، واهتدى نبوغهم إلى إهداء السلطان مدفعا، وهو شيء جميل، لكن وراء المدفع رجل يستعمله، كان اختياره موفقا، فهو عربي، ومسلم ويسمى عبد الرحمان بن سديرة، خبير في فنون استعمال المدفع، لا تخطئ إصابته، ولا تبرد طلقته، إلا أنه جزائري الأصل والمولد، وبين طلقات المدافع وتدريباته، أخذ يقدم للمخابرات الفرنسية تقارير هامة من داخل القصر، بينما أصبحت خبرته ميزة أهلته لأن يحظى بالثقة السامية.

وهكذا لم ينقطع خيط باحماد، وربما لم يكن باحماد من خلال تصرفاته عميلا للاستعمار الفرنسي بقدر ما كان طموحا إلى اختيار كل الوسائل المؤدية إلى روماه، وما روماه إلا المجد والحكم والانفراد بالحكم، ثم إن مجد فرنسا وعظمتها وماضيها، عناصر تجعلها لا تؤمن بالأشخاص بقدر ما تعتمد على خدماتهم، ولا تتشبث بالمناورات بقدر ما تحرص على السير وفقا للمخططات، وليست المخططات الفرنسية لاستعمار المغرب بالشيء الهين.

تتمة المقال بعد الإعلان

الأرنب والفأس والبستان

    تقول أساطير الأولين، أن الشيطان بعد موته ذهب إلى الجحيم مستقرا به، وضاق به الحال، إذ لم يحتمل الجحيم، وبوسائله الخاصة، استطاع استئذان بواب الجحيم في التوجه للخارج لقضاء بعض الحاجات، وعندما خرج هب عليه نسيم بارد معطر من بوابة الجنة، فاتجه إلى باب الجنة حيث كان رضوان واقفا ببابها، فاستسمحه الشيطان في أن يطل فقط على الجنة، فلم يمانع رضوان، وأطل الشيطان على الجنة ثم خرج وبقي واقفا ببابها ينظر إلى البواب والبواب ينظر إليه، ثم كرر الرغبة في الإطلالة عدة مرات، فمرة يقبل رضوان ومرة يرفض.

وبقي الأمر هكذا مدة طويلة، حتى ضاق رضوان ذرعا بهذا الزائر الثقيل، وعندما تعبت أعصاب رضوان، صاح بالشيطان قائلا: يا هذا، لقد أتعبتني إما ادخل وإما اخرج، ولا تبقى واقفا هنا.

وذلك هو نفس الأسلوب الذي اعتمدته المخابرات الفرنسية مع المغرب.. فقد اعتمدت في دخولها للمغرب على عنصرين:

– أولا: احتلال الجزائر.

– ثانيا: استغلال مجاورة احتلالها للمغرب، فبعد احتلال فرنسا للجزائر، بدأت المفاوضات على تحديد الحدود.

ولم تكن فرنسا راغبة في تحديد الحدود، وبعدما تلاعبت في اتفاقية مغنية عام 1845، رغب الحسن الأول في رفع الالتباس وتحديد مناطق السيادة المغربية، وبقي هذا الموضوع محط نقاش وتساؤلات إلى أن صرح وزير الخارجية الفرنسي، واد نجتون، قائلا: ((إن عدم وجود حدود بين دولتين يكون دائما على حساب الأضعف)).

وفي سنة 1886، أي سنة بعد موت الحسن الأول، كتب وزير داخلية فرنسا في أحد تقاريره: ((هل من الحكمة الاعتراف بالسلطة المطلقة لسلطان المغرب على أرض سلطته فيها اسمية، وعلى قبائل يمكن لسياسة ماهرة ودؤوبة تسمح لنا بتطوير وسائل العمل التي توجدها لنا علاقات الجوار؟)).

وكأن الوحي الشيطاني نزل على الحاكم الفرنسي للجزائر فصرح مفسرا تواجد جيوشه على حدود المغرب قائلا: ((إن هذه الصحراء – توات – في نظرنا تشكل شيئا يشبه بحرا مشتركا بين البلدين.. إن اهتمامنا حتى الآن لا يتجاوز التل، حيث لدينا الكثير لنعمله، ونحن لا نتصور أننا سنتقدم يوما ما نحو مناطق نعتبرها غير مسكونة ولا قابلة للسكن ومجهولة ونائية جدا.

إننا نفكر كأسلافنا الأتراك، في أن نقصر احتلالنا على التل.. إن الأحداث لم تدفعنا لمحاذاة النجود البعيدة، لأنها بالنسبة لنا عتبة الصحراء)).

هذا التصريح الذي نقله المؤلف هيس، يفسر ميوعة المطامع الفرنسية، المنطلقة من فلسفة الشيطان: “إننا نريد فقط هذه الإطلالة”.

لكن، وبعد الإطلالة، جاءت عناصر أخرى تفرض الدخول، وبعد احتلال التل، ظهرت فكيك على بعد النظر، وفكيك هي بوابة توات والساورة وكورارة.

وامتص الجنرال ديلتي شفتيه قبل أن يقول سنة 1867: ((إن احتلال فكيك عملية جيدة جدا، وستكون مثمرة جدا، ويمكنها أن تقفل لسنوات عصر الثورات)).

لكن الجنرال ديلتي لم يسعد بتحقيق أمنيته.. فقد كان الحسن الأول له بالمرصاد، وهنا يظهر مرة أخرى دور عظمة الرجل الذي لم يستطع المستعمرون أن يحققوا أحلامهم في حياته، وتفتحت شهيتهم بعد موته، وبعد موته بأيام، غیرت فرنسا مخططها وكانت قد احتلت تمبكتو التي نذكر أن سكانها جاؤوا عند الحسن الأول مستنجدين.. وتنازلت فرنسا عن أطماعها في النيل المصري بمجرد موت الحسن الأول، واعتبرت أنه من الخطأ الخوض في مياه النيل، والتهاون في رمال
توات، وهي مرحلة وصفها المؤرخ الإسباني مورا بقوله: ((إن تطور الأحداث بدد الحلم المثالي بإقامة إمبراطورية فرنسية في إفريقيا الوسطى، ولم يعد بإمكان فرنسا أن تحلم بمملكة تمتد من الغابون إلى أودوك، ووجدت الجمهورية الفرنسية نفسها مضطرة للاقتصار على الشمال الغربي من إفريقيا، وأصبح المغرب مسألة حيوية بالنسبة لها)).

وتظاهر البريطانيون بالغضب، ليضمنوا المزيد من تنازلات الفرنسيين، وقال البريطانيون على لسان أحد صحفييهم: ((إن سفننا الذاهبة أو القادمة من مالطة وقبرص ومصر، ستكون على مرمى مدافع بنزرت في تونس، وعليها أن تترقب ظهور نسافة مختفية في عطفة بالشاطئ، وعلى شاطئ الأطلسي ستخرج الطرادات والنسافات من مصبات الأنهار، وستحول الوليدية إلى بنزرت أخرى ستعطل تجارتنا المحرومة)).

والكاتب يعني أن تنازل بريطانيا لفرنسا عن المغرب سيجعل مصالحها مهددة، مذكرا باحتلال فرنسا لتونس، وهي ميزات كانت فرنسا تقدرها حق قدرها، وتزيد من جشعها وطمعها في الاستيلاء على المواقع الاستراتيجية في الشواطئ المغربية، وهذا ما يبرر تضاعف الجهود الفرنسية على الصعيد السياسي العالمي للانفراد بالمغرب.

وأصبح الوزير الفرنسي ديلكاسي يشك في سلامة مخططه السياسي متسائلا عما إذا كان عسكر وهران على حق في السطو على الصيد، خصوصا عندما أصبح يلمس بعض التصلب في مواقف السلطان عبد العزيز، الذي أخذت النعرة الوطنية تخالج شبابه وذكريات أبيه الحسن الأول تقف منتصبة أمام عينيه.

وأوعز وزير الخارجية الفرنسي، ديلكاسي، إلى سفيره بالمغرب، تایانديي، بالحيطة والحذر، ولم يكن يخطر ببال أي واحد من الرجلين أن ذكريات الحسن الأول أخذت تقض مضجع ابنه عبد العزيز، وقالوا: “إن المستشارين الإنجليز ينغصون حياتنا”، وقدم السفير تايانديي تحذيرا للسلطان عبد العزيز، وتهديدا بالتواجد الفرنسي على الحدود وقال له في مذكرة مكتوبة: ((إن موقف فرنسا إزاء المغرب ليس بموقف الدول الأخرى، فلها حدودها المباشرة، والممتدة على مسافات واسعة مع المغرب، كما أن ممتلكات فرنسا تحيط بالمغرب، وينتج عن هذا مصالح مشتركة، وحقوق وواجبات متبادلة تعطي طابعا خاصا للعلاقات بين المغرب وفرنسا، ذلك لأن ما يهدد سلامة الجزائر يهدد المغرب، وكل ما يهدد استقلال المغرب التام يهدد أيضا الجزائر)).

وأضاف السفير الفرنسي تايانديي متحدثا إلى السلطان عبد العزيز بمنطق أشبه ما يكون بالمنطق الإسرائيلي الآن، فيقول له: ((إن الجزائر، وجارها المغرب، أشبه بصديقين يملكان بساتين متلاصقة وكل منهما لا يطمع في تركة الآخر، وكل منهما مستعد لأن يقدم لجاره مساعدة ودية، ولكن إذا تنكب أحدهما جانب الحكمة بأن ترك أجانب يقيمون في بستانه، فإنه يخاطر بأن يفقد سيادته على بستانه، وبإثارة قلق جاره، فإنه يجبره على اتخاذ الاحتياطات)).

إنه منطق الاستعمار، وتجسيده لأحلامه، ولكنه – على أية حال – منطق حقيقي صالح الحكمة بالنسبة للبلدين في وضعهما، لكن بعد طرد الاستعمار الأجنبي عنهما، وهو طرد لم يكن يخطر أبدا ببال السفير تابانديي، الذي رسم في تهديده للسلطان عبد العزيز حدود الجوار بين جارين مصالحهما مشتركة كالبستان.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى