المنبر الحر | الوعي المتأخر في إفريقيا
بقلم: بنعيسى يوسفي
تعرضت مجمل الدول الإفريقية للهيمنة الإمبريالية الغربية الغاشمة، فرنسية بالخصوص، التي استعبدت البلاد والعباد واستنزفت الخيرات الطبيعية ظاهرها وباطنها ردحا من الزمن، وخلفت بذلك ماضيا أسود لا زالت كتب التاريخ تنضح به، وتركت أيضا ندوبا وجروحا غائرة في نفسية الإنسان الإفريقي من الصعب جدا أن تندمل مهما طال الزمن، وحتى حينما استقلت هذه الدول نتاج تضحياتها الجسام في سبيل ذلك بالغالي والنفيس، وجدت نفسها مقيدة ومكبلة باتفاقيات عسكرية واقتصادية وسياسية مع الدولة المستعمِرة، التي انتهجت هذه السياسة للحفاظ على مكتسباتها ومصالحها في هذه الدول المستعمَرة، وتستعملها كأوراق ضغط عليها كلما اقتضت الضرورة ذلك، لكن في هذه السنوات الأخيرة يبدو أن هنالك وعيا جديدا بدأ يتشكل ويتأسس ولو بشكل متأخر، وإن كانت جذوته في الحقيقة لم تنطفئ لدى الإنسان الإفريقي الذي يؤلمه الماضي الاستعماري، الفرنسي بالخصوص، منذ أن غادر الاستعمار وبدأت تبرز بوادر قيام دول مستقلة، ورغم أن هذه النخبة السياسية تجد مقاومة شديدة من طرف فئة تتقاطع مصالحها مع مصالح الدول الاستعمارية، وترى أن أي تهديد لمصالح هذه الدول هو تهديد مباشر لمصالحها، وبالتالي، يمكن اعتبارها عقبة حقيقية أمام أي محاولة حقيقية لإنهاء الاستغلال البشع للدول الاستعمارية للدول الإفريقية المغلوب على أمرها، إلا أنها لا زالت تبذل قصارى الجهد لتقطع هذا الحبل السري المتين الذي يربطهما، وإعادة الأمور إلى نصابها، ولا زالت تشتغل لإقناعها بأن مصلحتها مرتبطة بمصلحة الوطن الأم، وخدمة أبناء الوطن أولا، وفي حقيقة الأمر، لعبت العديد من الظروف والمتغيرات دورا محوريا في إعادة ترتيب العديد من الدول الإفريقية علاقاتها مع فرنسا بالخصوص، وكان من شأن ذلك أن خلصت أولا الإنسان والسياسي والعسكري الإفريقي من عقدة الخوف والدونية التي لازمتهم منذ زمن بعيد والذين كانت تهتز فرائصهم كلما سمعوا كلمة فرنسا، وهذا أمر أساسي لا يمكن القفز عليه، فمن هنا بدأ التفكير بجدية في التخلص من التبعية العمياء لهذه الدولة التي لا تعرف شيئا غير النهب والسلب، ومحاولة بناء علاقات معها مبنية على الندية والتكافؤ في أحسن الأحوال، إذا لم تكن النية والخلفية هي القطع النهائي معها، وهذا ما لا تخفيه العديد من الدول التي سئمت من عجرفة وعنجهية فرنسا وعقدة التعالي التي تتعامل بها معها، ناهيك عن تماديها في استغلال خيرات هذه البلدان بدون وجه حق، وتحت يافطات ومسميات مختلفة، ولا مراء أن من بين المتغيرات الدولية التي ساعدت بعض الدول الإفريقية، كمالي وبوركينافاسو وغينيا والنيجر، والقائمة لا زالت مفتوحة على ما يبدو لتغيير استراتيجيات تعاملها مع فرنسا، هو: أولا: الحرب الروسية الأوكرانية التي أظهرت فرنسا ومعها رئيسها الفاشل إيمانويل ماكرون، في موقف ضعف، ولم يكن تأثيرها في الأحداث دبلوماسيا أو على الأرض يحظى باهتمام كبير، وكانت في بعض الأحيان صوت نشاز في السمفونية التي يعزفها الاتحاد الأوروبي و”الناتو” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الآمرة الناهية فيه، في ترجيح كفة الأوكرانيين في هذه الحرب، وبالتالي، أصبحت تنفذ ما يملى عليها عوض الاقتراح وتقديم البدائل والتصورات الناجعة.. كل هذه الأمور التقطتها روسيا وبدأت تقتحم قلاعا فرنسية كانت تبدو إلى وقت قريب حصينة، فبدأت بالتدخل في مالي، والذي كان من نتائجه بالخصوص أن تم طرد الجيوش الفرنسية المقيمة هناك، وثانيا: سوء تدبير فرنسا لمشاكلها وأزماتها الداخلية سواء منها المتعلقة بمسألة التقاعد، أو أزمة قتل المواطن ذي الأصل الجزائري نائل، وما تلى ذلك من تخريب ودمار للمنشآت العمومية، والطريقة الفجة والهمجية التي عالجت بها ذلك، والتي زعزعت صورتها في العالم من دولة متحضرة إلى دولة بربرية، فلم تعد تلك الدولة التي كانت تصول العالم وتجوله إبان حكم رؤساء سابقين مشهود لهم بالحنكة والتمرس، ومن بين هذه الدول بالتحديد، النيجر، التي يمكن اعتبار ما حدث فيها النقطة التي أفاضت الكأس، وضربة موجعة لفرنسا الماكرونية، حيث وجدت نفسها أمام الأحداث المتسارعة في النيجر بين مطرقة الحفاظ على مكتسباتها ومصالحها هناك والتي يبدو أن الانقلابيين في النيجر يريدون القطع معها بأي شكل من الأشكال، وسندان مواجهة التعنت النيجيري المفاجئ الذي يظهر أنه مدعم من قوى خارجية وعدم استسلامها تحت تهديداتها التي لم تعد تجدي نفعا رغم تدخلات جهات كثيرة، يبقى أهمها منظمة “الإيكواس”، التي رغم كل الأوراق التي استعملتها للضغط على الانقلابيين لإعادة الشرعية إلى البلاد، إلا أنها لم تفلح في ذلك، وما زاد الأمور تعقيدا، هو دخول الرئيس البوركينابي على الخط وتصريحه بأن أي تدخل عسكري في النيجر هو استهداف مباشر لدولته، مما يجعل بكل تأكيد منطقة الساحل والصحراء برمتها على صفيح ساخن، وعلى فوهة بركان. وثالثا: نجاح الانقلاب في بوركينافاسو المجاورة والتي كانت تعتبر أهم معقل لفرنسا في إفريقيا، واللغة الجديدة التي أصبحت تتكلم بها مع حليف الأمس الذي أمسى غير مرغوب فيه، لكن انقلاب دانيبا أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، وبعد تولي الضابط إبراهيم تراوري، دخلت العلاقات الفرنسية البوركينابية النفق المسدود، وتمخض عنها تعليق بوركينافاسو الاتفاقية التي تسمح بوجود القوات الفرنسية في البلاد.
ورغم أننا نسجل ملاحظة هامة في سياق هذه الأحداث، وهي أننا نرفض ثقافة الانقلابات التي تضرب في الصميم العمق الديمقراطي وإن كان الانقلاب آلية من آليات تخليص الشعوب الإفريقية من الهيمنة الغربية وبشكل خاص فرنسا من منطلق أن الغاية تبرر الوسيلة، إلا أنه بعد تلقين هذه الدولة المتغطرسة بعض الدروس لكي تتراجع عن غيها، فلا مندوحة من العودة إلى الديمقراطية والشرعية في هذه البلدان وإلى الحكم المدني، والذي يمكن أن يستنتجه المرء من التغيرات والتحولات الكبيرة في علاقات العديد من الدول الإفريقية بفرنسا، هو أن العالم في تغير مستمر، والعلاقات الدولية على المحك وموازين القوى لا تستقر على حال، وقبل هذا وذاك، هناك وعي إفريقي آخذ في التبلور والنضج يمكن أن يساهم في تغيير معالم الخريطة السياسية الدولية في الأفق المنظور، ويمكن القول أن ما يقع حاليا في الساحل والصحراء، هو أولى شراراته القابلة للتمدد من دون شك.