المنبر الحر

المنبر الحر | لهذه الأسباب.. كاد المعلم أن يكون رسولا

بقلم: ذ. محمد جباري

    لعل من أشهر الأبيات الشعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي، البيت القائل:                               

قم للمعلم وفه التبجيلا                كاد المعلم أن يكون رسولا

تتمة المقال تحت الإعلان

لطالما رددنا هذا البيت واستشهدنا به كلما دعت المناسبة لذلك، حتى أضحى من كثرة استعماله وترديده مألوفا ومبتذلا لدينا، دون أن نقف مليا عند المعاني والدلالات التي ينطوي عليها، فمما لا شك فيه، أن أحمد شوقي لما نظم هذا البيت، الذي سيخلد ذكرى الشاعر لاحقا على مر الأجيال المتعاقبة، لم يكن خاطرة فاضت بها ذاتية وعواطف الشاعر، لا معنى لها ولا وظيفة في المساهمة في تطور الوعي والفكر الإنساني، أو مجرد كلمات وسطور مجانية رام بها الرجل الكتابة من أجل الكتابة حبا في الظهور والخلود وحمل لقب “المثقف” أو “الشاعر”… إلخ كما نلاحظ اليوم في الساحة الثقافية على صعيد الشعر تحديدا، حيث طمرته الرداءة والخواطر الفاقدة للرؤيا الشعرية والذوق الفني والأدبي، حتى اختلط الحابل بالنابل وأصبح الشعر كفن أدبي رفيع وأصيل في الثقافة العربية، مغمورا ومستبعدا من لدن القراء قياسا بالرواية الوافدة من الغرب، والتي تشهد طفرة وازدهارا في السوق العربي، علما أن الشعر كان “دستور” العرب ومفخرة حامله، حتى أنه شكل سلاحا في المواجهة والتعيير بين القبائل في الجاهلية.. الواقع أن هذا البيت الذي يعلي من شأن المعلم ويضعه في مرتبة “المقدس”، كان حصيلة تجربة معيشية لاحظ فيها شاعرنا وسمع وشاهد وخبر وتأمل في فعل التدريس والتعليم، حتى استقر به الحال وأملت عليه الضرورة نظم هذا البيت كإنصاف وتكريم لمجهودات ومحن ومكانة المعلم الخاصة كفاعل محوري في التغيير وصيرورة المجتمع وتنميته.

لقد ظل البيت الشعري المذكور يطرق مسمعي منذ أن كنت تلميذا، حيث سمعته في أحايين عديدة من لدن بعض الأساتذة الذين تتلمذت على أيديهم، في مختلف المراحل والمستويات الدراسية، بل إن قصتي مع هذا البيت الشعري لم تنته بتخرجي من الثانوية ثم الجامعة، وإنما كان متلازمة رافقتني بعد ذلك، بيد أن العجيب والغريب هنا، هو أنه رغم هذه المسيرة والعلاقة المديدة التي قضيتها معه، لم أتمكن، بصراحة، من سبر أغواره واستجلاء معانيه ومدلولاته فعليا، وامتلاك الإجابة الوافية والشافية عن السؤال الذي طرحته على نفسي مرارا: لماذا كاد المعلم أن يكون رسولا؟

لازلت أذكر أن بعض الأساتذة كانوا يتلون علينا هذا البيت على أمل تعريفنا بمكانة الأستاذ المتميزة والفريدة في المجتمع، وواجب الاحترام المفترض حياله، وذلك في محاولة لدفع ونسف شغب وتطاولات التلاميذ على الأستاذ آنذاك.

تتمة المقال تحت الإعلان

لقد تكررت مواعيد لقائي بهذا البيت في أمكنة ومواقيت مختلفة، إذ سمعته في برامج ومواد إعلامية متباينة، وقرأته، في غير ما مرة، إما في ديوان صاحبه أو في الكتب أو المجلات أو الجرائد… ومع ذلك، كانت نتيجة فهمه والوعي به “صفر”، لكني أقول أن استعصاء الفهم هذا ليس لقصور لدي في الفهم والإدراك أو ما شابه ذلك، بل إن هناك بعض الكتابات والحكم والأقوال التي نقرأها أو نسمعها خلال لحظات من حياتنا، لا نفهمها ولا نعيها جيدا أو نقتنع بجدواها في حينها، وغالبا لا نعمل بها حتى أننا لا نكترث لها بتاتا طالما أننا لم نعشها ولم نجربها بصفة شخصية، ذلك أن التجربة والمعايشة الذاتية هي الطريق الوحيد – حسب اعتقادي – الذي يبلغنا الحقيقة واليقين والمعرفة، باعتبارها المحك الحقيقي الذي تتبلور وتتجلى فيه صدقية ما قرأناه أو سمعناه ممن سبقونا في الزمان والمكان.

وقد حصل أن غدوت أستاذا، ويا لها من مصادفة غريبة!؟ والغرابة هنا تكمن في أن تصبح أستاذا وأنت الذي كنت لا تعي معنى البيت الشعري الذي بات يهمك ويعنيك أكثر من غيرك، لكنها كانت فرصة سانحة للتقرب من هذا البيت وتفكيكه وتشريحه في محاولة للوعي به وفك مستغلقاته وترميزاته التي ظلت عصية عن أناي، حتى إذا استحضر لضرورة كان استحضارا وتوظيفا واعيا بمعانيه الرمزية ودلالاته الواقعية، التي تجد صدقيتها في يوميات رجل التعليم.

إن تجربة التدريس سمحت لنا بولوج دهاليز مهنة التعليم والتعرف على الوجه غير المرئي لهذه المهنة الشريفة، فلم يعد يخامرنا ريب في أن التعليم الابتدائي والثانوي بسلكيه، مهنة المحن والمعاناة، والسبب في ذلك، أن المدرس يتعامل مع “العقليات”، حيث يقود عددا من الأشخاص ذوي عقول وبيئات مختلفة، محاولا “قولبتهم” وتربيتهم تربية موحدة وفق منهاج وتوجيهات وأهداف وكفايات محددة، ترمي إلى إنتاج مواطنين فاعلين في مجتمعهم بطريقة إيجابية، يحملون كفايات معرفية ومنهجية ووجدانية/ قيمية معدة سلفا، تؤهلهم للتوائم ومسايرة متغيرات وحاجيات عصرهم، ولأن هذه العملية لا يقابلها التلميذ بالقبول والرحابة والاستجابة الميكانيكية على غرار الآلة، حيث لا ينخرط فيها بسهولة لعدة عوامل: سيكولوجية واجتماعية وثقافية، فإن ذلك يطرح أمام المدرس صعوبات وعوائق بيداغوجية تؤثر سلبا على صحته الجسمانية والنفسية. يقول أحد علماء النفس الكبار: “هناك ثلاثة أدوار يجب ألا يقبل عليها إنسان عاقل: وهي دور الأب ودور رجل الدولة ودور المعلم”، فمتطلبات هذه الأدوار كثيرة لا يمكن تجاهلها، والمجازفات كبيرة بحيث أن الإنسان المفكر، بطبيعته، يميل إلى الابتعاد عن المسؤوليات.

تتمة المقال تحت الإعلان

إن محنة المدرس ومتاعبه تتجلى في كونه يمارس مهمة “الإصلاح والتغيير”، أي تغيير تمثلات ومواقف وسلوكات وقيم التلميذ، والتي قدم حاملا لها إلى المدرسة، ولا شك أن التغيير ليس عملا سهل المنال، بل إنه يحتاج لمجهودات وثمن غال يتمثل في الصبر والأناة والتفهم، بحيث أن التلاميذ يمثلون عقولا وعقليات ذات محيط أسري وسوسيوثقافي واقتصادي مختلف، فكيف يمكن تنميطهم في “عقل” وثقافة وتربية واحدة؟ هنا مكمن الاختلاف والتفاضل بين الموظف الذي يتعامل مع العقليات/المدرس، وموظف الإدارات الذي يتعامل مع الأوراق والحاسوب والآلة، ومما زاد الطين بلة، ظاهرة الشغب والعنف المدرسي المتصاعد ضد أهل التربية والتعليم، والتي تقف حائلا أمام الأداء المهني للمدرس وتحصيل التلميذ، وتؤدي إلى التنفير من هذه المهنة، حيث حملت الكثير من الأساتذة والأستاذات على المغادرة الطوعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى