الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | مفاوضات الخروف والذئب بين فرنسا والمغرب

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 47"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    إن الخيال ميزة من ميزات الحضارة الفرنسية، كما أن الخلق والابتكار مجالان لا يضاهي أحد فيهما الفكر الفرنسي المبدع الخلاق.

وعلى هامش الإبداع والخلق والابتكار، لا بد من الاعتراف بأن إمكانيات الشعب المغربي في الخلق والابتكار بإمكانها تسجيل إصابات عديدة على السبق الفرنسي لو أن الظروف والعقول مهدت للمغاربة فرص النبوغ والسمو والبروز، وهنا يحق وضع تساؤل صالح للماضي والحاضر: لماذا لا يجد النابغون والأذكياء والواقعيون والمبدعون مكانا لهم في الهياكل المسيرة بالمغرب؟

إن هذا التساؤل لا يعني التنقيص من همم وذكاء وحنكة المسهمين في تسيير دفة الحكم، ولكن لو بحثنا عن المخترعين المغاربة لوجدناهم في الخارج، ولو بحثنا عن ذوي الطاقات الخلاقة لوجدناهم في الخارج، وحتى لو بحثنا في النبوغ الموسيقي لوجدنا أن مطربينا لا تبزغ نجوميتهم إلا خارج حدود وطنهم، حتى بطل الملاكمة العالمي لسنة 1979 لم يرق إلى هذه الدرجة إلا عبر طريق إسبانيا، مثلما تنازعنا فرنسا في جنسية السباق المغربي عويطة، الذي لم يبزغ سنة 1983 إلا في أوروبا.

تتمة المقال بعد الإعلان

وهناك حادثة، بالمناسبة، صادفت المرحلة التي نحن بصددها، وكانت كالمرآة الصقيلة للنبوغ المغربي، والنبوغ الفرنسي في تلك الأثناء.. ففي سنة 1897، عين باحماد – وكان كما قلنا هو صاحب الأمر والنهي – أخاه محمد بن موسى سفيرا بباريس، والمفاوض المغربي بباريس سنة 1897 كان أشبه ما يكون بالخروف الذي ذهب ليفاوض الذئب عند مصب النهر، حيث – كما تقول الأسطورة – استقبله الذئب في زي الشرف والأبهة متحليا بسامي المبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والبقية تعرفونها..

لكن السفير المغربي كان أكثر صراحة ونبوغا من مستقبليه.. فقد أحاط بالسفير بن موسى مجموعة من كبار الوزراء والمستشارين الفرنسيين الذين كانوا على علم بخبايا الأوامر الصادرة لضباطهم في وهران والكولية، وأرادوا فقط أن يسخروا منه قليلا.

وعندما قال لهم السفير بن موسى أن المغرب غير راض على تصرفات الجيش الفرنسي في نواحي توات وتدكلت، أجابه أحد الخبثاء الفرنسيين قائلا: ((… لكن قل لنا يا معالي السفير، لماذا يتزوج المغاربة عدة نساء؟ فأجابه السفير بن موسى مباشرة وبدون الاستغراق في التفكير: “لأنه لا بد من عدة نساء مغربيات لتجميع اللطافة التي تتحلى بها سيدة فرنسية واحدة”)).

إن هذا الحوار الحقيقي والمسجل في كتب التاريخ الفرنسي، يعطي فكرة صادقة عن العقلية الفرنسية المسؤولة تجاه سفير دولة مستقلة جاء ليطلب بيانات عن النوايا التوسعية للاستعمار الفرنسي، وجواب المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا يعرفون أن القضية مربوحة بالنسبة لهم.. فقد كانوا سنة 1897 متأكدين بأنهم بدهائهم وخفة دمهم، وبطريقتهم المكسوة بالابتكار والإبداع، مسجلون ولا شك الانتصار على المناورات البريطانية المنافسة.

إن السوابق المتمثلة في احتلال الجزائر، ونشاط المخابرات الفرنسية في المناطق الصحراوية المغربية، كانت تدعو الفرنسيين إلى المزيد من الدهاء والثقة في النفس، ولربما كانوا يسخرون في أعماقهم من العبط البريطاني، ثم إن الفرنسيين كانوا مصممين على احتلال المغرب مهما كلفهم ذلك من ثمن.. جزئيات كانت مخططة ومدروسة، ولكن تفاصيلها كانت تتحقق قطرة قطرة، لكنها تجمعت فيما بعد وادا جارفا أطاح بالمغرب، الهيكل المعاني، الذي كان دماغه المفكر شابا ناقص التجربة، عديم الخبرة، رغم أن هذا الهيكل الضعيف كان يخيف دهاة السياسة الفرنسية بحاضره وبماضيه، بشعبه وبأصالته.

الاستعمار اشتراكي هو أيضا

    لقد كانت ظروفا يتصارع فيها الجبن الفرنسي مع الأصالة المغربية، وتنمحي فيها الظروف الموقتة، وتضيع في جزئياتها ظروف السلطان عبد العزيز، ويتقرر فيها مصير الشعب المغربي العظيم الأبي.

لكن الجشع الاستعماري كان قويا وسافلا، لا نقولها نحن أبناء المغرب بعد ثمانين سنة لأننا سنتهم بالمغالاة، لكن قالها جان جوريس في تلك الأثناء، ووصفها مدققة في خطاب نقله أندري جوليان في كتابه عن استعمار المغرب، وهي توجز العقلية الاستعمارية في تلك الأثناء.

وبمناسبة الحديث عن جان جوريس، فإن الفرصة تتاح لمعرفة موقف الاشتراكيين الفرنسيين من السياسة الاستعمارية الفرنسية في ذلك الوقت.

إن جان جوريس، زعيم الحزب الاشتراكي ومؤسس جريدة “لومانيتي”، التي أصبحت فيما بعد لسان الشيوعيين، كان ينظر إلى الاستعمار على أنه مهمة طبيعية، فلم يكن يبخل بفصاحته المعهودة على منصة البرلمان بإسداء النصح للدول الاستعمارية، مثلما كان ميكيافيلي ينصح بلبس القفاز الحريري الأبيض قبل القيام بعملية خنق إنسان، ومما اشتهر عن جان جوريس، قوله: ((إنه على الدول الاستعمارية في جميع أنحاء أوروبا، أن تعامل الدول التي تنوي احتلالها أو تحتلها في آسيا وأمريكا، وفي إفريقيا، بمنتهى الإنسانية، وتعطي الشعوب المستضعفة كل الضمانات، وسواء كان الأمر يتعلق بالهنود المحتلين من طرف الإنجليز أو العرب المحتلين من طرف فرنسا، أو بالأجناس الإفريقية التي تتهافت عليها وتتقاسمها كل دول أوروبا، فإنه على الاشتراكيين جميعا في برلماناتنا، أن يطالبوا الحكومات المستعمرة بمعاملة الشعوب المحتلة بمنتهى الإنسانية، ويطالبوا بهذه المعاملة بدون هوادة)).

شكرا للسيد جان جوريس

    لكن هناك استثناء في خطب جان جوريس الرنانة، التي كانت شمولية واسعة الجغرافية الاستعمارية، وهذا الاستثناء هو الذي يهمنا، لأنه يتعلق بالمغرب، ويوجز المراحل التي قطعها الاستعمار الشمولي الفرنسي للمغرب في سنواته الأولى.

يقول جان جوريس: ((إن هناك فريقين أرادا الضغط على ظروف احتلال المغرب، فهناك أولا دسائس الهياكل العسكرية، وبعض المجموعات في وهران، وبعض الجنرالات الذين كانوا يطمحون إلى المزيد من الترقي، وبعض الكولونيلات الذين يريدون أن يصبحوا جنرالات، وبعض الضباط الصغار الذين يريدون أن يصبحوا كولونيلات.. إنها فعلا طموحات عسكرية وحرب عملية تنطلق من التسرب عبر حدود المغرب، وممارسة حق المتابعة ضد الثوار الجزائريين، وتبرر حسب مخططات مسبقة وصول الجيوش الفرنسية إلى فاس، ثم احتلال المغرب كله عسكريا، ويكون بذلك في إمكان هذه المجموعات العسكرية الحصول على حصاد نصر ثمين.

ومن جهة ثانية – يقول جان جوريس – هناك الوزير ديلكاسي، الذي لا يريد مشروعا سياسيا، ولا احتلال المغرب عل أيدي الجنرالات الفرنسيين، إن ديلكاسي يريد استعمار المغرب لشخصه وبصفة منفردة، إنه يريد احتلال المغرب بواسطة النخوة، معتمدا فقط على الدهاء السياسي، إنه يريد احتلال المغرب بالاستيلاء على السلطان، وبواسطة السلطان يستطيع الاستيلاء على المغرب)).

إن تصريح الزعيم المعارض جان جوريس، في عز المناورات الفرنسية لاحتلال المغرب، لا يترك – كما يبدو – أي اختيار للمغرب، فالمخطط كما هو ظاهر، شمولي، فإما احتلال المغرب بالجيوش أو احتلاله بواسطة ضعف حكمه، بينما تثبت الأحداث استعمال الأسلوبين معا، وسيتضح ذلك فيما بعد.

ولا جدال في أن الثغرة التي خلفها باحماد من بساط الأحداث، كانت تشكل ترعة كبرى في المخطط الفرنسي، خصوصا بعد أن أصبح السلطان عبد العزيز يشعر بخطر بعده عن الشعب، ويلمس الردود العنيفة للرأي العام الوطني، مالت كفة العسكر الوهرانيين، والعسكر يعتمدون بالدرجة الأولى على المخابرات، والمخابرات كانت تتمتع بباع طويل داخل المغرب في صحرائه الشرقية وفي صحرائه الجنوبية، وفي فاس وطنجة.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى