الحقيقة الضائعة | مشروع “موروكو كيسل شافت”.. وصراع الدول الأوروبية على سلطان المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 46"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال بعد الإعلان

لم يتوقف سيل الوزراء والسفراء والمبعوثين، والتوسع كشهية تزداد كلما ازداد الأكل، حتى أن الروسيين بعثوا هم أيضا وزيرا منهم في خريف سنة 1899، لتطلع الأخبار والبحث عما يمكن عمله في المنطقة، ولو كانت روسيا آنذاك تتوفر على قوة السوفياتيين في عصرنا الحاضر لتم استعمال أسلوب غزو أفغانستان منذ حوالي مائة سنة في المغرب.
ولا بد من الإشادة بالأسلوب الروسي الهادئ البارد برودة سيبيريا، والمرتبط بالعقلية السوفياتية منذ مائة سنة.. فقد وصل فعلا سنة 1902 أول أسطول سوفياتي إلى ميناء طنجة وحام حولها قبل أن يسأل رسميا ما إذا كان المغرب في حاجة إليه لينزل بشواطئه.
وكما يتم اكتشاف شاطئ جديد، أو كنز دفين، تم اكتشاف المغرب الضعيف، فكثرت المشاريع، وتهافتت الإرادات وكان أكثرها شيوعا وأكبها تأثيرا ذلك المشروع الذي تم تحضيره في برلين: “موروكو كيسيل شافت”، وأصبحت هذه الجملة تنقل على كل لسان مثلما نتناقل اليوم جملة السوق الأوروبية المشتركة، أو اتفاقية سالت، أو الحلف الأطلسي.
وكما يرتبط اسم الرئيس كارتر باسم “اتفاقية كامب ديفيد” ارتبط المشروع الألماني باسم موهر، صاحب المشروع ومخططه.
وموهر كما سبق ذكره، هو المستشار الألماني للسلطان عبد العزيز.. فماذا تعني “موروكو كيسيل شافت” (والمرجو وضع ثلاث نقط فوق الكاف الثانية)؟
إنها تعني فقط عنوانا ينص على ما يلي: ((تقسيم المغرب بين الدول العظمى على الطريقة التالية: فرنسا تأخذ توات وكورارة وتدكلت وفكيك، وجنوب واد درعة، وتتوقف عند الأطلس. إسبانيا تأخذ فاس ونواحيها حتى تازة والريف. ألمانيا، الدولة صاحبة المشروع، تأخذ الشواطئ كلها بالإضافة إلى مراكش)).. منتهى التواضع.
لكن مشروع موهر كان محط دراسات كبرى من طرف الدول الاستعمارية، وكانت له عواقب وخيمة على العلاقات الدولية، ولا شك في أنه كان ذا تأثير كبير على العلاقات بين فرنسا وألمانيا، ذلك التأثير الذي أدى إلى تدهور العلاقات الألمانية الفرنسية والصراع الكبير بين الدولتين، وهو الصراع الذي نما وكبر وأدرك درجة الحرب بين الدولتين في حرب 1914ء1918، وستأتي باقي الملفات على جزئيات الصراع الحاصل بين الدول الطامعة في احتلال المغرب، والذي كان عمليا عاملا من عوامل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
إذ أنه كان غير خاف أن الحرب العالمية الأولى كانت أسبابها تنحصر في صراع داخلي بين الدول الأوروبية على اقتسام مناطق النفوذ.
لقد كانت حرب الطاقة التي نعانيها اليوم، تكتسي في تلك الأيام شكل حرب المعادن والمصادر، وحرب المعادن تلك كانت لها الأثار الاقتصادية على شعوب العالم مثلما لحرب الطاقة اليوم أثار على شعوبنا، وقد يحتاج الشرح إلى عروض وبيانات واسعة متفرعة، وإذا كنا نعرف بالتفصيل أثار أزمة الطاقة العالمية على حياتنا واقتصادنا وظروفنا، وإذا كنا موقنين في أغلبنا أن هذه الأزمة إنما هي المنذر الحقيقي للحرب العالمية الثالثة، فإن التشابه بين ظروفنا الحاضرة وظروف أجدادنا عند اندلاع حرب المعادن وصراع الدول العظمى حولها، ذلك الصراع الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى، إنما نجده مفصلا مدققا في كتاب “الاستقصا”، حيث يجد القارئ في سرده كل أوجه التشابه التي يريدها بين تلك الظروف والظروف التي نعيشها اليوم بمنتهى الأمانة، ومنتهى الوضوح.
يقول صاحب “الاستقصا” سنة 1896 في الجزء التاسع الصفحة 207: ((.. وأعلم أن أحوال هذا الجيل الذي نحن فيه قد باينت أحوال الجيل الذي قبله غاية التباين، وانعكست عوائد الناس فيه غاية الانعكاس، وانقلبت أطوار التجارة وغيرها من الحرف في جميع متصرفاتهم لا في سككهم، ولا في أسعارهم، ولا في سائر نفقاتهم، بحيث ضاقت وجوه الأسباب على الناس، وصعبت عليهم سبل الرزق والمعاش حتى لو نظرنا في حال الجيل الذي قبلنا وحال جيلنا الذي نحن فيه وقايسنا بينهما، لوجدناهما كالمتضادين)).
ويختم الناصري صاحب “الاستقصا”، عرضه هذا بقول الشاعر:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غد عمي
فهل هناك بين حالة المغرب منذ حوالي مائة عام وحالته اليوم فرق كبير ؟
إنه لا شك أن المغرب آنذاك كان يعيش الظروف الحالكة الممهدة للحرب العالمية الأولى، التي كانت أسبابها كنوز الأرض في المغرب وإفريقيا، كما أنه لا شك أن العالم اليوم يعيش الظروف الحالكة الممهدة للحرب العالمية الثالثة، التي سببها كنوز الأرض النفطية في مناطق الخليج والجزيرة العربية، وإنما نستنتج من كل هذا، أن أهمية المغرب في تلك الأثناء، وتهديدات القوات العظمى باحتلاله، تعادل أهمية مصادر النفط في هذه الأثناء وتهديدات القوى العظمى باحتلالها.
وقد توسعنا في استعراض العضلات البريطانية في المغرب سنة 1896.. فهل كانت بريطانيا وحدها؟ هل كانت الدول العظمى وحدها في منطقة أصبحت فيما بعد خاضعة للنفوذ الفرنسي؟ إنه ليس من المؤكد أن فرنسا نزلت بالمظلة من السماء، ولكن مناورات فرنسا الشمولية هي أيضا كانت من الأهمية بمكان.
جولة في الفكر الاستعماري الفرنسي
إن الشمولية في المناورات الاستعمارية الفرنسية كانت تتميز عن الشمولية من وجهة النظر البريطانية من حيث أن الفرنسيين كانوا يخفون عن البريطانيين مخططهم، ولا ينظرون إلى الاستعمار كطريقة لممارسة الأبوة مثلما كان تصرف الإنجليز، وإنما كحتمية سياسية وعسكرية، رغم أن الحظوظ بالنسبة للطرفين كانت متعادلة.. ففي تلك الأثناء لم يكن الوضع كما هو عليه الآن ء والمقصود بالآن سنة 1896 ء حيث حقق الفرنسيون كثيرا من أغراضهم، إذ أنهم بعد ارتحالهم واستقلال المغرب، تركوا عدة مخلفات، تركوا عناصر تفرقة المغرب العربي، وتركوا لغتهم الفرنسية كلغة ثانية في مجموع البلاد، وكلغة أولى في عقول بعض حكام البلاد، بينما بعد موت الحسن الأول كان الحمالون في موانئ الدار البيضاء وطنجة يتكلمون الإنجليزية ولا يعرفون عن الفرنسية أكثر مما يعرف المغاربة عن الإنجليزية الآن، فقد كان بإمكان السفير البريطاني أن يقول للسفير الفرنسي في ذلك الوقت: لا فضل لاستعماري على استعمارك إلا بالدهاء والحيلة.
وهكذا كانت شمولية الاستعمار الفرنسي من نوع آخر، وكان العنصر الأول فيها هو احتلال فرنسا للجزائر والصراع على أشده بين الطامعين والمتناورين على حدود المغرب، والمدافع الفرنسية المصوبة نحو المواقع المغربية، في عين صالح وتينركوك وتيميمون، وفي إيكلي، وفي بشار وفكيك، وبالتالي، فقد كان الصيد محاصرا بشبكة الجيش الفرنسي، وهي ميزة لم تكن تعادلها بالنسبة للبريطانيين إلا هيبة الإنجليز وقوتهم الكبرى حتى إذا ما قورنوا في وضعيتهم آنذاك بنظرائهم اليوم، لكانت بريطانيا خليقة بالتشبيه بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا خليقة بالتشبيه بإسبانيا.
إذن، فالانقضاض الفرنسي على أطراف المغرب، في توات وكورارة وتيدكلت.. لا يمكن أن يتم إلا بإرضاء البريطانيين في واجهة أخرى.
وهناك عامل آخر كان له الثقل الكبير في إضعاف الموقف الفرنسي في توات والساورة وكورارة، وهو أن السلطان عبد العزيز لم يكن يهمهم سنه ولا وضعه الداخلي، ولا ظروف صعوده للحكم بقدر ما كان يهمهم أنه سلطان المغرب وملكه، وأنه خليفة رسول الله وأمير المؤمنين، والمصحف كما قال القدماء، لا يلثم من أجل جلدته.
وردد الفرنسيون الحكماء، كما قال شارل أندري جوليان في كتابه: “المغرب في مواجهة الاستعمار”، بأن الفرنسيين على حق عندما طلبوا من السلطان السماح لهم بفتح قنصلية فرنسية في توات.
أما في الداخل، فبينما كان الكولونيل البريطاني ماك لين يمارس السيادة على الموقف المغربي، كان الفرنسيون يرون في باحماد أملهم الكبير، ولكن هذا الأمل لم يبتسم لهم طويلا حينما تم التخلص من باحماد بطريقة التسمم، وانسحب بيدقه من اللعبة، وهناك أسلوب سياسي معروف وقديم قدم المرأة، وهو أنه إذا كان رئيس دولة ما سائرا في خطة دولة ما ودائرا في فلكها على حساب دولة أخرى، فإن الدولة الأخرى الطامعة لا يبقى لها إلا أن تتخذ من أعداء ذلك الرئيس حلفاء لها، وإذا لم يكن له أعداء، فإن عظمة الدولة الطامعة الحاسدة تتطلب خلق أعداء لذلك الرئيس وصنعهم ونسجهم ولو من الخيال.
والخيال ميزة من ميزات الحضارة الفرنسية، كما أن الخلق والابتكار مجالان لا يضاهي أحد فيهما الفكر الفرنسي المبدع الخلاق.