الحقيقة الضائعة | ما وراء “تصفية” باحماد وتسلل الجواسيس لقصر السلطان
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 45"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال بعد الإعلان

لو تذكرنا أن باحماد وأخاه قُتلا مسمومين سنة 1900، لحق لنا التساؤل: إلى أي حد كانت أيادي ماك لين مغسولة من دم باحماد، خصوصا إذا تصورنا الواقع داخل دار المخزن وغضبة أم السلطان على باحماد، ودور ماك لين ومجموعته في إمكانية تسويد صفحة باحماد؟
وكما مات الحسن الأول في ظروف غامضة مات باحماد مسموما في ظروف أغمض، وبقي السلطان عبد العزيز مع ماك لين وجها لوجه.. سلطان عمره عشرون سنة وضابط إنجليزي عمره كل المناورات الاستعمارية، وأصبح ماك لين الرجل الثاني في الدولة، وتنفس ساليزبوري الصعداء.
وكانت المرحلة الثالثة في مخطط ماك لين تحتاج إلى شيء واحد، هو رضى ماك لين نفسه، لقد أصبح السيد المطاع.
وكان على الجندي البريطاني الهارب من سجن جبل طارق، أن يعطي رأيه في تعيين بعض الوزراء، ووقع اختياره على أحد خدامه الأوفياء، رجل كان يشتغل تحت أوامره ويطيعه ويخلص له، وهو المهدي المنبهي.
وقبل السلطان عبد العزيز تعيين المنبهي في منصب العلاف الكبير، أي وزير الحرب، وبذلك أصبح ماك لين يزاول عمليا مهمة وزير الحرب.
وفي تلك الأثناء، استدعى ماك لين ثلاثين خبيرا وضابطا بريطانيا لملء الفراغ المتواجد في دار المخزن، وكاد عدد المسؤولين الإنجليز في الديوان السلطاني أن يتعدى عدد الموظفين المغاربة.
واستعجلت الظروف نجاح ماك لين، فماتت ملكة بريطانيا، واستدعي أعيان العالم لحضور حفلات تتويج ملك بريطانيا الجديد، إدوار السابع، وكان ماك لين طبعا من بين الأعيان، توجه إلى لندن وأخذ معه وزير الحرب المهدي المنبهي.
ومن نكد الدنيا أن تنشر مجلة “اللجنة الإفريقية الفرنسية” تفاصيل محاكمة جريمة جبل طارق المعروفة تحت اسم “كلوب فانتور سانديكات”، حيث تظهر جرائم مجموعة من الجنود من بينهم ماك لين، بينما يتم استدعاء ماك لين هذا لحضور حفلات تتويج ملك بريطانيا.
وأنكد من ذلك، أن تمهد الحكومة البريطانية – في إطار مخططها الشمولي لاحتلال المغرب – لإسدال ألوية الوقار والهيبة والجلال على هذا الجندي الهارب، فيستقبله الملك البريطاني إدوار السابع ويسدل عليه وشاح النبل، ويصبح منذ ذلك اليوم الذي استقبله فيه الملك البريطاني الجديد، يحمل اسم النبيل السير هنري ماك لين، برتبة كولونيل.
وفي نفس الوقت، يهديه السلطان عبد العزيز بيتا فخما في فاس في باب الحمراء، بقي المغاربة يطلقون عليه منذ ذلك التاريخ إلى اليوم اسم عرصة الكولونيل، قال صاحب كتاب “أعيان المغرب” بأنها أصبحت مدرسة ابتدائية.
إن السلطان عبد العزيز كما سيتضح فيما بعد، وهو في صحوة شبابه، يريد أن يتدارك الموقف بجدية يشهد له بها التاريخ، إنما كان يغدق العطاء على الكولونيل ماك لين لأنه كان متنفسه الأساسي في المخنقة التي وضع فيها الاستعماريون السلطان عبد العزيز، لكن ماك لين ما فتئ أن أغلق هذا المتنفس في الوقت المناسب.. فقد كلفه السلطان عبد العزيز بالاتصال بأصحاب رؤوس الأموال الإنجليز لمساعدة المغرب في عز أزمته، وسار الكولونيل ماك لين بجدية في البحث عن رؤوس الأموال باتصال مع مؤسسة “بارينج أند لاندسون”، ولكن ماك لين أجهض المشروع، لأن الحكومة البريطانية أمضت اتفاق تبادل مصر مع المغرب لفائدة بريطانيا وفرنسا، ولم تبق لبريطانيا مصالح بالمغرب، إذن، لم تبق لماك لين مصلحة في تقديم الدعم لصديقه السلطان عبد العزيز.
وما تعظيم الملك الإنجليزي للكولونيل “السير هنري ماك لين”، وتغاضيه عن ملفه الجنائي، إلا دليل قاطع على أن المؤامرة الاستعمارية الشمولية الأوروبية في المغرب كانت أكبر بكثير أو أهم بكثير من القانون الجنائي البريطاني.
من أجل جبل طارق
وزيادة في إيضاح الدور البريطاني في المناورات السياسية لاحتلال المغرب، لابد من التذكير بأن بريطانيا التي كانت عظمى، اختارت مع بداية القرن السابع عشر سياسة التوسع في العالم الإسلامي، بدعوى تبني القضية الإسلامية وحمايتها، وتحت هذا الرداء رسمت لتدخلها في المغرب الذي كان اهتمامها به يفوق اهتمامها بأطماعها في الهند والباكستان وإفريقيا الاستوائية والشرقية والعالم العربي، ذلك أن بريطانيا تعتبر جبل طارق هو صمام أمانها، وهو كل شيء بالنسبة لسلامتها، ولا فائدة في جبل طارق ولا في دوره الاستراتيجي إذا لم تكن طنجة تكمله والحكم المتواجد فيها متناسق مع الحكم البريطاني.
ورغم أن بريطانيا كانت ترضع مع فرنسا من ثدي واحد، فإن الخلافات بينهما كانت متواجدة ولكنها محصورة في طريقة الاقتسام، ورعاية الحالة الصحية للغنيمة، فقد لامت بريطانيا الحكومة الفرنسية على حرب “إيسلي” ولم تسكت إلا مقابل مصالحها في طنجة والصويرة، كما حرصت بريطانيا على إمضاء اتفاقية مع المغرب سنة 1856.
وبعد قيام بريطانيا بالدور الاستعماري الكبير في مؤتمر مدريد ومؤتمر برلين، عادت للتفاهم مع فرنسا سنة 1890، بإمضاء اتفاق واضح الفصول جلي الجزئيات، ينص فقط على تقسيم المناطق الصحراوية المغربية الجنوبية في اتجاه شنقيط بين فرنسا وبريطانيا، إذ كانت بريطانيا ترغب في احتلال طرفاية وفرنسا في احتلال موريتانيا، بينما سارعت إسبانيا لاحتلال وادي الذهب وبدون استشارة أحد دون المساس بمنطقة بوجدور الممتدة شمالا نحو طرفاية والتي كانت في الأوراق من نصيب بريطانيا.
ومن هنا تظهر أهمية الدور الخطير الذي كان يلعبه الكولونيل ماك لين في خدمة مصالح وطنه، وقد كان هذا الضابط مستقرا في صمام النفوذ، في الوقت الذي كان فيه العالم يتسابق للحظوة بإطلالة على جنبات القصر السلطاني، إطلالة المستطلع المتجسس الباحث.
لقد وصف الناصري صاحب “الاستقصا” مرحلة المناورات الشمولية الاستعمارية بقوله عن مرحلة عاشها بنفسه: ((إن مولانا عبد العزيز هو الآن على كرسي ملكه بفاس المحروسة كما ينبغي، وقد تسرب إليه جماعة من نواب الأجناس كعادتهم مظهرين أنهم قدموا للتهنئة ومرادهم خلاف ذلك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وما ظنك بمن يزعم أنه قدم للتهنئة وهو مقيم بالحضرة هذه مدة أربعة شهور يتجسس الأخبار ويتطلع العورات ويترصد الغفلات ويحصي الأنفاس عله تظهر له خلة أو تمكنه فرصة)).
رحم الله الناصري ورحم السلطان عبد العزيز، لقد كانت العورات فعلا مكشوفة من الداخل عبر التدخل الفاحش للضابط البريطاني ماك لين والصحفي البريطاني هاريس، والمستشارين الآخرين، في اللعب والتسلية.
ولعل مؤرخ المملكة آنذاك الفقيه الناصري، لم يكن يعرف الكثير عن هؤلاء الجواسيس الذين جاؤوا كي يقدموا التهاني وكانوا في الحقيقة عديدين وماكرين، وكان ظن الناصري مصيبا.
ولنستعرض سيل الزوار المهنئين، فبعد موت الحسن الأول، وصل إلى فاس وزير خارجية بريطانيا في دجنبر 1895، وجاء وزير فرنسي في يوليوز 1895، وكان الوزير الفرنسي صريحا في مقاصده.. فقد طلب أن يصبح قناصلة فرنسا فرنسيين لا مغاربة كما كان عليه الوضع فيما سبق، وحصل الوزير الفرنسي على موافقة السلطان الشاب، مما سهل على الإنجليز والإسبان مهمة تعيين قناصل من جنسياتهم، وبذلك قطع دابر السيادة المغربية فيما يتعلق بتمثيل المصالح الأجنبية، وفي أبريل 1896، وصل وزير بريطاني في زيارة “مجاملة” للسلطان عبد العزيز في مراكش، بعد أن سبقه وزير ألماني في جوان 1895، إلا أن الوزير الألماني الذي جاء لتقديم التهاني وصل إلى مرسى أسفي على متن بارجة حربية مصوبة المدافع نحو المدينة، ولم تكن مهمة الوزير فقط تقديم التهاني، وإنما كان مكلفا في نفس الوقت باعتقال مجموعة من المغاربة متهمين باغتيال أحد الرعايا الألمان في أسفي، فإن السيادة الألمانية لم تكن لها حدود.