
لن تمحى ليلة الثامن شتنبر 2023 من الذاكرة الجماعية للمغاربة ذكرى الزلزال الذي ضرب المغرب على الساعة الحادية عشر وإحدى عشرة دقيقة ليلا، بقوة 7 درجات على سلم ريختر.. والذي خلف صدمة نفسية قوية للمغاربة.. فقد اضطر الجميع دون استثناء إلى مغادرة بيوتهم إلى الخلاء حيث افترشوا الأرض وتلحفوا السماء، وسط مشاعر الرعب والهلع والفزع التي تولدت في النفوس نتيجة الهزات الارتدادية التي طالت جل المدن المغربية تقريبا، لكن منطقة الحوز، التي كانت مركز البؤرة الزلزالية، كانت مصيبتها كبيرة ومؤسفة للغاية، نظرا لما تخلف فيها من خسائر بشرية وعمرانية وانعكاسات سيكوسوسيولوجية مؤلمة وثقيلة تدمي القلوب، فلم يكن هذا الزلزال الأول من نوعه في البلاد، رغم تصنيفه من قبل مركز أمريكي بأنه أقوى زلزال يضرب المغرب منذ سنة 1900، بل سبق للمغرب أن شهد زلازل قوية إثر زلزال أكادير 1960، والحسيمة 2004، وقبل ذلك بكثير، يشهد تاريخ المغرب بأن البلاد عرفت العديد من الزلازل القوية والخفيفة، رغم كون المغرب “قليل الصواعق والزلازل” كما أكد ذلك أحد المؤرخين القدامى (كتاب “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”).
بقلم: ذ. محمد جباري
أستاذ باحث في التاريخ والفكر
ثمانية عشر زلزالا في ظرف قرنين
الزلازل شأنها شأن الظواهر الطبيعية الأخرى، تندرج ضمن الكوارث الطبيعية التي كانت من الثوابت والظواهر التي رافقت تاريخ المغرب، مخلفة نتائج بشرية واقتصادية واجتماعية ونفسية كبيرة، وفي سياق التفاعل مع زلزال 8 شتنبر، سنروم في هذا المقال استعراض تاريخ ظاهرة الزلازل في المغرب، ومخلفاتها البشرية والعمرانية والنفسية، ثم كيف تفاعل المغاربة مع الزلازل، وكيف فسروا هذه الظاهرة الطبيعية المستمرة في الزمان والمكان؟ انطلاقا من مقولة أن “معرفة الماضي شرط ضروري لفهم الحاضر”.
عرف المغرب خلال القرنين 16 و17 نشاطا قويا للزلازل، حيث بلغت 18 هزة بين قوية وخفيفة، خلفت أضرارا كبيرة في الأرواح والأبنية والنفسيات، التي تتأثر كثيرا بمثل هذه الصدمات المفاجئة، التي لا يمكن تلافيها أو التحكم فيها، حيث لا يكون الأحياء والناجون أحسن حالا ممن لقوا حتفهم، نظرا للجروح النفسية الغائرة والتشوهات التي تصيب الفرد الذي فقد عزيزا إثر هاته الكارثة. والملاحظ، أن جل الزلازل التي ضربت المغرب عبر التاريخ، كانت تصيب مدينة فاس كما تؤكد ذلك الأدبيات التاريخية.
في سنة 1620م، تعرضت فاس لزلزال قوي عند فجر يوم السبت 22 رجب، وفي سنة 1650م، كانت زلزلة بين صلاة الفجر والصبح، ثم أخرى بعد العصر ثالث شعبان، لم تسفر عن وفيات من العلماء والصالحين، وبعد عامين (1652) ضرب زلزال مدينة فاس ثم عاودها عام 1662، لكن في العام الموالي (1663)، ستشهد المدينة زلزالين عنيفين تسببا في أضرار ثقيلة، فـ((في ليلة الخميس الرابع عشر ربيع الأول، وقعت زلزلة فانهدمت دور كثيرة وغيرها، وأكثر ذلك بالطالعة، ثم ريح عظيم كذلك، ثم في خامس والعشرين رمضان، كانت زلزلة ليلا كثر فيها الهدم الكثير..))، وفي العام التالي (1664)، ضرب فاس زلزال ثم ريح قوية ورعد ومطر، وفي العام الموالي أيضا (1665)، اهتزت فاس من جديد ليلا، وفي عام 1677، عرف المغرب ثلاث هزات في ظرف شهر واحد، ولم تسلم مدينة طنجة من الهزات الأرضية، حيث ضربها زلزال عنيف سنة 1679م، وفي سنة 1680م، شهد المغرب زلزالا آخر صبيحة الـ 15 رمضان لم يسفر عن خسائر، لكن في عام 1684م، تعرضت البلاد لـ 4 زلازل في شهر واحد من 18 شعبان إلى 9 رمضان، وما هو إلا عام واحد (سنة 1685) حتى ضرب زلزال مدينة فاس ليلا.
وخلال القرن 18م، سيتراجع نشاط الزلازل نسبيا بالمغرب موازنة مع القرن 17م، لكن لا يعني هذا أنها أقل خطورة، بل إن بعض الزلازل في هذه الفترة كانت أشد عنفا وقوة على البلاد، إذ أسفرت عن خسائر كبيرة.. فـ((في سنة 1707 وقعت زلزلة عظيمة عند أذان الصبح، فمن المؤذنين من قطع الآذان ومنهم من صاح دهشا، وسقطت دور كثيرة وتعيبت، ومات بهدمها قوم كثيرون، فكانت من أشد الأمور على الناس، وفي العام 1738، وقع زلزال قوي بعد منتصف الليل، بيد أن الزلزال الأشد قوة وعنفا وتدميرا، هو الذي ضرب المغرب عام 1775)).

زلزال لشبونة العظيم الذي ضرب أوروبا ووصلت ارتداداته إلى المغرب وبث الرعب والدمار في البلاد
خصص المؤرخون المغاربة حيزا كبيرا ونصوصا مطولة للحديث عن زلزال 1775، ويعزى هذا الاهتمام اللافت والمشترك بين الحوليات التاريخية المغربية، إلى حجم الدمار الذي خلفه، ويتعلق الأمر بالزلزال الذي ضرب لشبونة بالبرتغال ودمرها عن آخرها، كما دمر أوروبا ووصلت ارتداداته القوية إلى المغرب، الذي لم يسلم منه هو الآخر، وسنبسط هنا النصوص التي تناولت هذا الزلزال وإن كانت طويلة نسبيا، لكننا نعتقد أن هذا ضروريا، لنفهم ونقترب من هذه الكارثة الطبيعة أكثر.
((في سنة 1775، وقعت زلزلة عظيمة ارتجت الأرض بها ارتجاجا فاهتزت أولا ثم مالت مشرقا ومغربا، وبقيت تضطرب وسمع صوت من الأرض يشبه صوت الرحى التي تتدحرج بالأزقة، وقد كان ما بين اهتزازها وسكونها قريب من درج سمعنا من يقول اضطرب الماء في الصهاريج حتى فاض على البيوت وتغيرت العيون، ووقف الماء في الأودية على الجري وسقطت بعض الدور بفاس القديم، فمن لطف الله أنه لم يمت بفاس إلا نفسان أو ثلاثة وسقط التراب واللبن من غالب الدور وتصدعت الحيطان وتعيبت وأخذ الناي في هدم ما تعيب منها خوف سقوطه عليهم، وفزع الناس الفزع الأكبر وفروا من الحوانيت وتركوا أمتعتهم بها وهي غير مغلوقة، وعطلت المكاتب والأدرزة والأسواق، وتدارك الله تعالى خلقه بلطفه وعفوه، أما فيما يتعلق بمدينة سلا، فإن البحر مال لأقصاه وهرب فخرج الناس ينظرون، فولى إلى ناحية البر وعرج عن الأرض نحو مسافة، وغرق فيه جميع من وجد خارج المدينة، فمات الجميع ودفع ما في سواحله من الفلك والقوارب فوجد قاربا أبعد من البحر بأكثر مسافة على ظهر الأرض.. كما أن بعض الجبال تصدع منها جبل صغير في قبيلة فشتالة إقليم تاونات، ولم يهدأ نشاط هذا الزلزال، حيث تواصلت ارتداداته القوية على المغرب، فبعد 26 يوما وقعت زلزلة أخرى بعد صلاة العشاء شديدة جدا أشد من الأولى، إلا أنها لم تطل بل هدئت بسرعة، فسقطت دور من فاس واشتد رعبهم، أما مدينة مكناسة، فقد تعرضت لخسائر فادحة، حيث انهدمت ووقعت صومعة مسجدها الأعظم إلى أساسها وتهدم كثير من المساجد ومسجد قصبة السلطان الأعظم، ومات بالهدم خلائق كثيرة بمكناسة وأحصي منها نحو العشرة آلاف ومن لم يحص لا يعلمه إلا الله، ووقع من ذلك أمر هائل وخرج من بقي في المدينة إلى الفضاء وضربوا الفساسيط والأخبية والخزائن والقياطين ومن لم يقدر اشترى الثياب والخنشة، ولولا أن حاكمها منه من الخروج عنها أمر قاضيها لخلت وبقيت براحا، ثم لما طال الحال وتنوسي بعض ذلك، زال روعهم ورجعوا لها وأخذوا في تخميل (أي إزالة التراب والأنقاض) التراب من الدور والبحث عن الأمتعة، وتمول من ذلك قوم وافتقر آخرون ثم أخذ الناس بعد ذلك في البناء)).
يظهر من هذا النص أن الزلازل كسائر الكوارث الطبيعية، تضطر الناس إلى الهجرة الجماعية ومغادرة المنطقة المنكوبة، فقد غادر أهالي مكناسة مدينتهم نحو الخلاء ولم يعودوا إليها إلا بعد أن هدأ روعهم واطمأنت نفوسهم من زوال الخطر، وذلك استجابة لغريزة البقاء والتشبث بالحياة التي تميز الإنسان بصفة عامة، وهذا معناه، أن الزلازل ترتبط في الذهنيات بإخلاء المنازل وهجرها كسلوك احترازي ضد خطر الموت، فمثلا، موقع “أندوشر” بالأندلس، أصبح خلاء وخرابا وبقي مهجورا لثلاث سنوات بسبب الزلزلة التي ضربت الأندلس عام 1171م.
ولم يخرج أهل فاس عن هذه القاعدة، حيث بمجرد شعورهم بالزلزال ((اشتد روعهم وقصدوا أيضا البراحات والمساجد مدة خوفا من عودتها (الزلزلة) مرة أخرى، ثم بعد ذلك هدأوا، وكان من لطف الله بفاس أنه لم يتهدم الكثير من دورها ولم يمت بها إلا القليل، ولكن تعيب كثير من جدرانها، ومن لطف الله بأهل سلا وأهل الرباط، أنه لم يمت أحد منهم)).
ويروي الناصري، أن ((هذا الزلزال كان قويا، حيث تعرضت مكناسة وزرهون للهدم، وخلف عددا كبيرا من القتلى، بلغت في صفوف العبيد لوحدهم نحو خمسة آلاف، وربما تعود هذه الحصيلة الثقيلة في الدمار والقتلى، إلى المدة الطويلة التي استغرقها الزلزال والتي قدرت بـ ربع ساعة (15 دقيقة)، والتي كانت كافية لتشقق الأرض وفيضان البحر الذي خرب المناطق الزراعية، ودمر المراكب والسفن، وأجبر الجالية الأوروبية بالمغرب، على الفرار إلى الكنيسة وترك مساكنهم مفتوحة دون أن تتعرض للسرقة)).
لم يتوقف النشاط الزلزالي عند هذا الحد، فقد استمر يهز المغرب بشكل متلاحق، حيث تعرضت البلاد لهزتين خفيفتين في السنة الموالية (1756)، وفي عام 1761 ثم في عام 1771 قبيل الفجر، لكن يبدو أن هاته الهزات لم تكن قوية بما يكفي لتجعل المؤرخين يسهبون في سردها.

الزلازل بوصفها كارثة طبيعية.. بين التفسيرات الغيبية والتصورات الخرافية
شكلت الظواهر الطبيعية تحديا معرفيا للعلماء والفقهاء المغاربة والمسلمين عموما، حيث تراوحت تفسيراتهم بين الخرافي أحيانا والغيبي الديني أحيانا أخرى، فابن البناء المراكشي يقدم تصورا خرافيا للزلازل، عندما اعتبر أن الزلزلة التي تحدث في شهر فبراير دليلا على خصوبة العام، أما عند الفقهاء، فالزلازل عقاب إلهي بسبب كثرة المعاصي والمناكر، وذلك تأسيسا على النصوص الدينية التي تؤطر خطاباتهم، يقول الطبري، أن “الزلازل من تجلي الله تعالى للأرض لتخويف عباده”، ويقول ابن عباس: “خلق الله جبلا يقال له قاف محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها، فمن ثم تحرك القرية دون القرية”، وعن أبي هريرة قال: “قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يُقبضَ العلمُ وتكثُرَ الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثُرَ الهَرْجُ (أي القتل)” أخرجه البخاري، ويحكى أن الأرض زلزلت على عمر بن الخطاب فقال: “أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتُموه والذي نفسي بيده لئِن عادت لا أساكنكم فيها أبدا”.
تكشف هذه النصوص إذن، أن الكوارث الطبيعة ومنها الزلازل بطبيعة الحال، لا تعدو أن تكون عقابا سماويا للإنسان جراء المعاصي والشرور وانحرافه عن السبيل السوي، لذلك فقد اغترف الفقهاء والسلاطين من هذا الخطاب في تفسير الأزمات الطبيعية، فعندما ألغى السلطان مولاي سليمان المواسم، ربط علاقة مباشرة بين تفشي المناكر ونزول المصائب لذلك يقول: ((إن البدع والمناكر إذا فشت في قوم أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت العلات، وشحت السماء، وسبحت النقماء، وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، ونقصت بركة الزروع، لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد ويسد طريق المنافذ))، وعلى نفس المنوال يقول مولاي عبد الرحمن: ((.. ومع شيوع هذه الحوادث الفظيعة والبدع الشنيعة، فلا غرابة في حبس الأمطار وارتفاع الأسعار واستيلاء العدو الكافر على كثير من الأقطار))، وفي رسالة للسلطان مولاي الحسن الأول يقول فيها: ((.. وما سلط الله القحط على قوم إلا لتمردهم)).. هذا الخطاب نفسه يؤكده الفقيه عبد القادر الفاسي في رسالة عام 1868 قائلا حول ظاهرة المجاعة: ((الجوع قاهر بالسطوة الإلهية وإن كنا مستحقين لجميع ما يحل بنا لما نحن عليه من العصيان والمخالفة)).
على الرغم من عدم ورود الزلازل في هذه الخطابات، بيد أنها تنسحب عليها أيضا باعتبارها من ضمن الكوارث الطبيعية التي ألمَّت بالمغرب، لكن الملاحظ هنا هو أنه أمام عجز الإنسان المغربي عن إيجاد تفسير علمي لمسببات الكوارث الطبيعية، فإنه يذهب إلى تبني تصورات ميتافيزيقية وغيبية لهذه الظواهر باعتبارها تجليا لغضب الله، وبالتالي، فإن الانفراج يقتضي من الإنسان التوبة والرجوع لله، ولهذا نلاحظ أن الناس في أوقات الكوارث الطبيعية، يلجؤون إلى المساجد والأضرحة، قصد الاستغفار والابتهال والتضرع لله طلبا للمغفرة والرحمة ورفع البلاء.