الحقيقة الضائعة | بداية الحقد الفرنسي على المغرب والسيطرة على محيط السلطان
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 44"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
المناورات الشمولية
شمولية المناورات الاستعمارية لاحتلال المغرب انطلاقا من سنة 1894، لم تكن من طرف واحد هو الاستعمار، أو تجاه طرف واحد هو المغرب، بل كانت شمولية متكاملة في اتجاه متعاكس.
كانت شمولية المناورات تستهدف المغرب كله لا جزء منه، مثلما كان عليه الحال أيام الحسن الأول، وكانت أيضا صادرة عن الاستعمار بأشمله: بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا.. فقد كانت مرحلة خليقة بأن تسمى مرحلة الكل للكل.
لقد وضع المستعمرون أيديهم فوق بعضها وقرروا الدخول للمغرب كله من توات إلى شنقيط مرورا بطنجة.
وبعد شهور قليلة من موت الحسن الأول، أصبح التفكير جديا في تنفيذ مقررات مؤتمر برلين، وسارع رئيس الحكومة البريطانية، اللورد ساليزبوري، إلى التصريح على رؤوس الملأ بأن الوقت حان، وقال: ((إن اقتسام المغرب بين الدول لا بد وأن يتم في نفس الوقت الذي نقتسم فيه تركيا)).
وإن دل هذا التصريح على شيء فأقل ما يدل عليه هو أن المغرب وتركيا يتمتعان بنفس الهيبة، ويشكلان على النصرانية نفس الخطر، وأن الحكم صدر في حقهما معا ولا راد لإرادة الاستعمار.
ومما لا شك فيه، أن حكما كهذا صادرا عن سياسي داهية كرس السنوات الطوال من حياته في ممارسة النبوغ السياسي، لن يجد صعوبة كبيرة في تحقيق آماله، باحتلال دولة مات ملكها الذي كان مهاب الجانب من طرف ساليزبوري، وأصبح يحكمها سنة 1895 شاب صغير عمره أربعة عشر عاما.
فالأمر في نظر ساليزبوري وغيره، لا يعدو أن يكون مجرد الوصول إلى الغايات الاستعمارية الكبرى في المغرب مقابل بضع قطع من الشكولاتة أو بعض اللعب الحديثة.
ولعل هذا هو المنطلق الذي كان يرمي إليه اختيار أصغر أولاد الحسن الأول، مولاي عبد العزيز، لارتقاء عرش المغرب.. لقد كان هو المرشح المناسب في الوقت المناسب.
وكان المخطط بعيد المدى، والمراحل المرسومة طويلة الآماد، وعندما يبلغ السلطان عبد العزيز سن الرشد، وعندما يتمكن من الفهم، أو يدرك سر الموقف، تكون سنوات طويلة قد مكنت دهاقنة الاستعمار من قطع المراحل المخططة، وبلوغ الأهداف المرسومة.
ويتساءل المرء: لماذا هذا التطاول من طرف رئيس الحكومة البريطانية بينما فرنسا هي الراغبة الأولى في احتلال المغرب؟ ذلك لأن بريطانيا أولا كانت هي القوة الاستعمارية الأولى في العالم، وأنها كانت مرتبطة بالمخططات الفرنسية بعقود والتزامات، ثم إنها كانت مشحونة الصدر بحقد دفين يرجع إلى الهزيمة التي كبدها إياها الحسن الأول عندما مرغ عظمتها في رمال شاطئ طرفاية، وطردها بدون هوادة، وأنزل علمها من على ميناء طرفاية، وأخيرا، فهناك المبرر الأكبر، وهو أن ديوان السلطان عبد العزيز وشؤون الوصاية عليه، كانت في تلك الأثناء منطقة نفوذ بريطاني يتربع على عرشها ضابط إنجليزي، هو الكولونيل هنري أوبري ماك لين.
هنري ماك لين
إن مدلول المواطنة لا يمكن على الإطلاق معادلته أو مقاربته أو تأويله بأي شيء آخر أشبه به سموا ونبلا والتزاما.
فالمواطن إنسان في خدمة بلده.. إن نجح رفع من قدرها، وإن فشل دفع ثمن فشله، وتلك ضريبة المواطنة.
لهذا كانت كل الأحداث التي عرفها العالم شاهدة على مدى القرون والأجيال، أن الإنسان في غير وطنه قادر على أن يقدم كل شيء، عاجز على أن يقدم شيئا واحدا، هو المواطنة لغير وطنه.
ولعل نموذج ماك لين يجسم هذا المبدأ في عهد الحسن الأول، الذي ربما توسم خيرا في إنسان أجنبي جاء يعرض خدماته، ويتعهد بخدمة الحسن الأول، ومصلحة المغرب، ويتبجح بقدرته على ضرب المناورات الأجنبية ضد المغرب، فأطعمه الحسن الأول من جوع وآمنه من خوف، وأسدل عليه أردية الثقة، وكان هو الجندي الهارب هنري ماك لين.
كان ماك لين مثل الأفعى التي قرأنا عنها في قصص الأطفال، أنها كانت تموت بردا وتدعو للشفقة، وما إن أدفأتها القلوب العطوفة واستردت أنفاسها، حتى عادت لأصلها أفعى سامة تنفث الموت وتسوم العذاب.
فعندما كان الحسن الأول يقاوم المناورات البريطانية في مؤتمر مدريد، ومؤتمر برلين، ويتهدد البريطانيين في نشاطاتهم الاستعمارية في المغرب، ويجند الجيوش لمحاربة احتلال البريطاني ماك كنزي لطرفاية، وكان في أشد الحاجة لخبير يعرف شؤون الإنجليز، سمع عن وصول جندي بريطاني هارب من سجن جبل طارق، جاء إلى دار المخزن يضع خدمته المتواضعة وخبرته العسكرية بين أيدي جلالة الحسن الأول، وأهله نشاطه وولاؤه وخبرته، وكذا سرعته في التحدث بالدارجة المغربية وتطبعه بالطباع المغربية، لأن يحظى بالثقة السامية وبإعجاب المحيط الملكي، وكان المنافقون وضعاف الإيمان ممن يتواجدون في بوابات كل القصور، يرددون بلسان واحد: الله يرد ماك لين للإسلام.
وارتبط هنري ماك لين بصداقة كبرى مع الحاجب باحماد، و”صادف الشن غطاءه” كما يقولون، ولكن عبقرية ماك لين ما كان لها أن تجتاز حدود الطاعة والامتثال في حضرة ملك عظيم مثل الحسن الأول.
وبقي ماك لين يدرب الجيش الملكي على استعمال الأسلحة الحديثة التي كانت تتوارد على المغرب في عهد الحسن الأول، مثل “الوينشيستر”، ورشاشة “مارتيني” التي كانت تطلق 16 طلقة نارية متتابعة.
وكان لا بد من إعطائه مرتبة أعلى من الجنود ليتمكن من تدريبهم، فمنحه الحسن الأول لقب “قايد”، ثم برهن ماك لين عن قدرة إضافية على البناء والخبرة في بناء الحصون، فمنحه الحسن الأول إمكانيات إضافية مادية ومعنوية، وأصبح بإمكانه البحث عن مساعدين، ولم يكن من باب المصادفة أنه عندما كلفه الحسن الأول ببناء حصن مدينة الرباط، أن يستأذنه في إحضار مهندس ألماني لمساعدته في إنجاح هذا المشروع العظيم.
لكن مشاريع ماك لين كانت من نوع آخر، خصوصا عندما أصبح من كبار المحظيين بالسفارة البريطانية بطنجة، يتردد عليه الوزير البريطاني ويطلب وده بينما وضعت المخابرات البريطانية دائرة حول اسمه، لأنه الرجل المناسب في المكان المناسب.
ومن خلال المحادثات الطويلة المتكررة بين القايد ماك لين والحاجب باحماد، أصبحت مشاريع ماك لين تعرف الازدهار.
ولم يكن موت الحسن الأول أمنية بالنسبة للمناورين الاستعماريين وحدهم، بل إن ماك لين أصبح يرى مملكة يتولاها باحماد سدرة المنتهى بالنسبة إليه، وعندما نودي بالمولى عبد العزيز سلطانا على المغرب، واستولى باحماد على النظام، أصبح الجندي البريطاني، القايد ماك لين، هو صاحب الأمر والنهي في دار المخزن.
وكانت تلك نهاية المرحلة الأولى من مهمة ماك لين بالمغرب وبداية المرحلة الثانية.
أما المرحلة الثانية، فقد كانت داخلة في إطار المناورات الشمولية ومخططات وتعليمات الرئيس البريطاني ساليزبوري، والقاضية باقتسام المغرب وإلهاء سلطانه الصغير السن.
وأصبحت المهمة الأولى لماك لين هي تسلية السلطان وتزويده باللعب، ومزاولة أنواع الألعاب الرياضية الفتانة آنذاك، من ركوب الدراجة، والقفز على الخيول، والتنس، وخصوصا كرة القدم.
وطبيعي أنه في ظروف كهاته، يصبح اللاهي آخذا بلب الملتهي، بينما باحماد منشغل في شؤون المجد والعظمة، وأصبح ماك لين يحتاج إلى مساعدين.
وحكومة صاحب الجلالة في لندن لا تبخل على الجندي الهارب المتابع من طرف محكمة جبل طارق، بكل ما هو في حاجة إليه من خبراء ومستشارين.
وبينما كان ماك لين يزاول مهامه بكل نجاح في إلهاء السلطان ونصح باحماد، كانت المناورات الشمولية الاستعمارية في طريقها، إذ كانت تطبع أعمال ماك لين نفسه.
فالدول المتفقة على مخطط تقسيم المغرب تعتبر ماك لين مندوبا عنها هي أيضا، مكلفا بمهمة من طرفها هي أيضا، وهكذا عندما دعم ماك لين جانبه بمستشارين، دخل يوما على السلطان عبد العزيز بشاب إنجليزي جذاب يتكلم العربية بطلاقة، صحفي نشيط مراسل لجريدة “التايمز”، يسمى هاريس، افتتن به السلطان واختاره صديقه الوفي، ثم أحضر شابا آخر خبيرا في شؤون التسلية، يسمى سبيني، فكان رد فعل الألمانيين أن الديوان الملكي أصبح تحت رحمة الإنجليز، فأرضاهم ماك لين بإدخال شاب ألماني يسمى موهر، وعندما استقر الصديق الألماني في محيط السلطان، وصل إلى المغرب طبيبان إنجليزيان للحرص على صحة السلطان وهما الطبيب لينغ والطبيب فيردون، لكن هذين الطبيبين لم يمارسا الطب إطلاقا، فقد كانا في الواقع خبيرين في شؤون التسلية واللعب، وإطلاع السلطان على غرائب الساعات الموسيقية وآلات التصوير، وبالمناسبة، غطى ماك لين على تقليصه لنفوذ الفرنسيين في المحيط السلطاني بأن أحضر المصور الفرنسي جان فاير، للتخصص في المحيط السلطاني في شؤون آلات التصوير.
وانتهت المرحلة الثانية في مهمة ماك لين بنجاح كبير، وأصبح سيد الموقف في القصر لولا أنه كان يصطدم في بعض الأحيان بعجرفة صديقه الحميم باحماد، الوصي على العرش.
وأصبح ماك لين يتمنى أن يتخلص من باحماد ليصل إلى المرحلة الثالثة من مهمته.