الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | عندما قرأ ليوطي وصية الحسن الأول

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 43"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    يتوقف الفهم وتعسر الرؤيا عندما يكون الظلام مطبقا أمام عيون المرء وهو في مكان مجهول لا يعرف موقعه ولا مواقع القدم فيه، مثلما تنهار عظمة الجيش الكبير في موقف يجهل فيه الضباط الكبار أي شيء عن التركيب الجغرافي للمنطقة، ويعجز المعماري عن تحمل مسؤولية إقامة بنيان على أرض لا يعرف التركيبات الجوفية لها.

كذلك يبقى من باب المستحيل واللامعقول أن يصدر جيلنا الحاضر أحكاما، أو يتقدم له خطوة واحدة في موقف يجهل المراحل التي حضرت له والظروف المحيطة به، والأحداث التي أدت إليه.
ونحن في المغرب، في الثمانينات الأخيرة من القرن العشرين، نتحمل كبارا وصغارا مسؤولية الوقوف صفا واحدا أمام أحداث ملكت علينا لبنا واستقطبت عواطفنا، وأثقلت كاهلنا، وأرغمتنا على تعطيل مسيرة تنميتنا، خليقون بأن نكون على بينة من كل الجزئيات المرتبطة بهذا الواقع، والخلايا المتساكنة في هيكله وتحليل قدرتها على الصمود في وجه الإعصار، على ضوء ما تعرضت له من ظروف وعوارض.

ولقد أبت الأقدار إلا أن تضع الكيان المغربي في إطار محدد مصون، قريب العهد واضح المعالم، جلي الملامح، عمره مائة سنة، مفصلة مجزأة منشرحة القسمات، محللة التركيبات، لماعة المعالم، أسدلت عليها إشعاعات الحضارة والتقدم البشري خلال قرن من الزمان أردية من نور الوضوح، واحتفظت بها الوثائق والكتب والتقارير مثل الصور الشمسية لا تشوبها ظلال، ولا تطمس معالمها غيوم.
وإذا كانت مرحلة ما قبل المائة سنة من تاريخ المغرب السياسي مطبوعة بالدرجة الأولى بمخلفات ناطقة، ومنشآت تقفز إلى الأبصار، ومآثر تفصل بين الحق والباطل، فإن عصر الحسن الأول كان الحد الفاصل بين مرحلة الغموض ومرحلة الوضوح.

تتمة المقال تحت الإعلان

وهل هناك برهان على الفصل بين مرحلة الغموض ومرحلة الوضوح أكثر من الحسن الأول نفسه، وهو أول ملك في تاريخ المغرب خلف لنا صورة شمسية له، بينما لا نعرف عمن سبقوه إلا رسوما تقريبية لهم، ضائعة بين الخيال والغموض بينما صادف عهده الفاصل بين مرحلة الغموض ومرحلة الوضوح توصل العقل البشري إلى اختراع آلة التصوير، والتقاط صورة فوتوغرافية لهذا الرجل الذي تجلى فيه الفرق بين عهدين، لأنه لم يخلف إلا صورة تعريفية واحدة كانت وكأنها الحد الفاصل بين مرحلتين.

ومثلما خلف لنا صورته الفوتوغرافية، خلف لنا صورة تعجز عن استيعابها أي آلة تصوير، لأنها أكبر من أي صورة، وأعظم من أي إطار.. إنها صورة المغرب العظيم، مغرب الحسن الأول.

وبقيت صورة المغرب العظيم، مغرب الحسن الأول، مثل صورته الفوتوغرافية الفريدة، مبعثا للهيبة ومدعاة للوقار.

تتمة المقال تحت الإعلان

ورغم أن المناورات الاستعمارية سجلت بعد موته تلك الغلبة التي حققها الروم في بضع سنين – وما أربعون سنة في عمر شعب تعداد أمجاده عشرة قرون إلا كحلم ليلة – فإن هيمنة الحسن الأول لم تنحصر عند أفئدتنا وطموحنا وإيماننا، وإنما غزت أفئدة المستعمرين أنفسهم وحطمت طموحاتهم، وزعزعت إيمانهم.

فبعده بسنوات، جاء ليوطي ليمحو أثار الحسن الأول، ويستغل ضعف من خلفوه، ويستغل ظروف من خانوا الحسن الأول، ويقفل مصانع الحسن الأول، ويفرض الإرادة على من راهنوا على احتلال مغرب الحسن الأول، وكما أن كل شيء إلى زوال، فإن ليوطي كان مرغما قبل زواله، أن يخلف للتاريخ ولأبناء دولته الدرس الذي استخلصه بعد عمر طويل، وأهم مما يتركه المرء من منجزات وأعمال وثروات ما يخلفه قبل موته من استنتاجات، والتجارب تقاس بعواقبها.

واستنتاجات مغامرة ليوطي، الداهية العظيم، ومروض المغرب الجبار، قدمها في خطبة وداعه بكل شجاعة ومروءة ومرارة، حينما وقف خطيبا تحت سماء مزمجرة باكية من شهر أكتوبر سنة 1922، مدشنا مسجد باريس بمحضر أقطاب الدعوة الإسلامية، من أفغان وهنود وترك ومصريين وفرس وفلسطينيين، وبمحضر تلميذه وخديمه محمد المقري، مطيحا بعجرفته، وملقيا على الأرض بنجوم مارشاليته، ونازعا قبعته أمام عظمة الإسلام المتجلية في رفض الشعب المغربي للاحتلال الفرنسي، ومؤكدا للفرنسيين أنهم مخطئون في محاولاتهم لاحتلال شعب مسلم مثل شعب المغرب.

تتمة المقال تحت الإعلان

وكان المارشال ليوطي أشبه ما يكون بالعالم الذي أمضى حياة طويلة مريرة في استكشاف معدن عميق الغور مظلم المسالك، خرج بعد سنوات طوال من الانتظار ليقول لجميع المنتظرين: لقد كنت مخطئا، فإني لم أجد إلا الأحجار الصم.

كذلك قال ليوطي غير بعيد من منبر مسجد باريس: ((إن فرنسا ارتكبت غلطا فادحا باحتلالها المغرب، لأن هذه الدولة لن تكون في يوم من الأيام مملكة مستعمرة، مثلما لن تكون فرنسا في يوم من الأيام مملكة إسلامية)).

وخاف المارشال ليوطي أن تهزأ منه المعارضة الفرنسية أو أن لا يأخذ الحاضرون قوله مأخذ الجد، وبحث في مراجعة قواميسه ومذكراته، فلم يجد أمتن برهانا ولا أقوى حجة من الاستدلال بفلسفة الحسن الأول.
وبكل شجاعة المارشال الفرنسي، وعظمة المستعمر النصراني، فاجأ الحاضرين بقوله: ((لقد صدق الحسن الأول حين قال: “ليبلغ بعضكم البعض أن الأيام صعبة وأن الحذر والحيطة وحدها تنفعكم إلى أن تتمكنوا من أن تردوا للكفار ما عملوه فيكم من شر”)).

تتمة المقال تحت الإعلان

ويشهد التاريخ أن استنتاج المارشال ليوطي، بعد عشرين سنة من ممارسة المناورات الاستعمارية في المغرب، لم يكن خاضعا لمشيئة الخبراء الفرنسيين والدهاة الاستعماريين، وإنما كان مطبوعا بمشيئة الحسن الأول، خليفة رسول الله، ومنفذ إرادة الله.
إن وصية الحسن الأول كما سردها المارشال ليوطي، بقيت دستورا للشعب المغربي المسلم، ورسالة حملتها الأجيال المغربية وهي تواجه المناورات والاستعمار الاقتصادي والفكري، والاحتلال العسكري.

ولقد كان خليقا بالاستعمارين الفرنسي والإسباني أن يتعظا باستنتاج ليوطي سنة 1922، ويجنبا نفسيهما عناء الاستمرار في المغامرة، ويتفاديا ابتلاع هذا الحوت العظيم، ولكن مشيئة المناورين والمخططين ضربت صفحا بنصائح المارشال ليوطي، وانقادت وراء الشهوات والأغراض والمصالح والمشاريع إلى أن تأكدت أن هذا الحوت أكبر من أمعائها، ولم تهضمه أجهزتها، فتخلصت منه ولكن إربا إربا بعد أن طالت عملية الهضم العسير قرابة أربعين سنة فقط.

لقد استدل ليوطي بقول الحسن الأول ولم يورد أي شيء عن عبد القادر الجزائري مثلا، لأن ابتلاع الجزائر في حدودها المعروفة سنة 1880 كان يسيرا، لأن التركيب الوطني الجزائري كان لزجا رطبا نتيجة انصهار الشخصية الجزائرية أمام تيارات الغزو العثماني، بينما المغرب الذي أوقف الغزو العثماني عند حدوده، بقي مطبوعا بأصالته متشبثا بإسلامه، صلبا متماسكا، مما جعل مخططات الخبراء الاستعماريين لغزوه أشبه ما تكون بعمليات رش هذا الجسم القوي بمركبات كيماوية في كل أطرافه، علها تتسرب لأعماقه وتفككها. 

تتمة المقال تحت الإعلان

وعندما فشلت محاولات القيادة العسكرية بوهران في احتلال الأطراف الصحراوية للمغرب في توات وتدكلت وكورارة، والإسبانية والإنجليزية والألمانية في الساقية الحمراء وشنقيط، غيرت أسلوبها مع موت الحسن الأول، ووضعت مخططا شموليا بحجم ضخامة المغرب وشساعة أراضيه، وامتداد أطرافه، واهتدت إلى أن بتر المغرب من أطرافه الصحراوية إنما هو مضيعة للوقت.

إن الاحتلال يجب أن يشمل المغرب كله، فأكدوا بذلك وحدة المغرب وتكامله، وأذابوا الصحراء في الكيان المغربي، وبذلك اعترفوا بالوحدة الترابية المغربية، ودخلوا في المرحلة الجديدة.. مرحلة الدخول إلى الصحراء من بوابتها الكبرى، فاس، بعد تكريس رهيب لسياسة المناورات الشمولية.

يتبع

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى