
حققت الإمبراطورية المغربية أوج ازدهارها على عهد المرابطين والموحدين، حيث سيطرت على مجال شاسع يمتد من طرابلس شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن أودغست جنوبا إلى الأندلس شمالا، وتجلت القوة المغربية في هذا الإبان، في الانتصارات الساحقة التي حققها المرابطون في موقعة “الزلاقة” سنة 1086م بقيادة يوسف ابن تاشفين، ثم في معركة “الأرك” على عهد الموحدين سنة 1195م ضد المسيحيين بالأندلس.
بقلم: ذ. محمد جباري
أستاذ باحث في التاريخ والفكر
بعد الانتصارات السابق ذكرها، لم يستطع المغرب الحفاظ على هذه التألقات العسكرية والاستمرار على نفس الوتيرة في اللاحق من الاستحقاقات العسكرية في علاقته بالآخر النصراني، حيث تعرض سنة 609هـ/ 1212م لهزيمة نكراء أمام الإفرنج، شكلت مرحلة فارقة وحاسمة في معادلة الصراع بين المسلمين (المغاربة والأندلس) والممالك المسيحية بشبه جزيرة إيبيريا.. فمنذ هذه اللحظة المشؤومة، أخذ الوهن يدب في الجسد المغربي والأندلسي طبعا، لقد كانت هذه النكبة المسماة في الأدبيات التاريخية بـ”العقاب”، دافعا واضحا لاندفاع الإفرنج نحو الاستحواذ على الكثير من الإمارات والمدن الأندلسية، وقد كتب أحمد المقري في هذا الصدد نصا حدد فيه أسباب هذه الهزيمة قائلا: ((.. وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس، بل والمغرب جميعا، وما ذاك إلا لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيات(…)، ولم تقم للمسلمين قائمة تحمد)).
هكذا تعرضت الدولة المرينية هي الأخرى للهزيمة في معركة “طريف” سنة 1340م، حيث ((رجع السلطان أبو الحسن مفلولا(…)، واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة، وثبتت قدمه إذ ذاك ببلد طريف)).
يبدو إذن، أن المغرب الذي كان على الدوام “المساند الرسمي” للأندلس، ومنطلق كل العمليات العسكرية ضد الحملات والتهديدات الكاثوليكية، حيث ساهم إلى حد كبير في دفع الهجمات الصليبية، وتأخير السقوط الحتمي لـ”الفردوس المفقود” حتى عام 1492م، بات هو كذلك في مرمى التوسعات والأطماع الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) خلال القرن 16م.
الوطاسيون.. تفكك سياسي وهشاشة اقتصادية
بعد انهيار الدولة المرينية بمقتل آخر الملوك المرينيين سنة 1465م، تولى وزراءهم بنو وطاس حكم المغرب مع بداية القرن السادس عشر الميلادي، بيد أن الوطاسيين تميزت مرحلتهم بالضعف والتفكك السياسي، حيث لم يقدروا على بسط نفوذهم على جميع التراب المغربي وضمان وحدة البلاد تحت مظلة إدارة مركزية قوية، الأمر الذي جعل المغرب عرضة للتمزق والتجزئة السياسية.. ولعل هذه الوضعية هي التي يجملها مارمول كاربخال في كتابه “إفريقيا” قائلا: ((كان في المغرب، في هذه الفترة من الزمان، عدة أمراء يتقاسمون السيادة، ذلك ما جعل الكثير من الحواضر تنفرد باستقلالها، ولم تكن حينئذ لملوك بني وطاس ما يلزم من السلطة لبسط نفوذهم)).. وهكذا انحصر مجال السيادة الوطاسية في “مملكة فاس”، أي النصف الشمالي من المغرب، فيما بقيت المناطق الأخرى في منأى عن السلطة المركزية.
ولقد أثر هذا الوضع سلبا على الوضعية الاقتصادية والمالية للدولة، التي تميزت بقلة الموارد والمداخيل الجبائية، وفي هذا السياق، يقول الحسن الوزان: ((إن لملك فاس مملكة كبيرة، ولكن ليس له سوى دخل صغير لا يكاد يبلغ ثلاثمائة مثقال، ولا يصل إلى يده حتى خمس هذا المبلغ))، وذلك ما حدا بالملوك الزمنيين – كما يصفهم الحسن الوزان – إلى فرض جبايات أخرى، مما أدى إلى توتر العلاقة بالسكان الذين أثقل كاهلهم بالضرائب، و((نتج عن هذه الحال أنه لم يعد هناك رجل عالم شريف يقبل أن يقيم علاقات عائلية مع الملوك الزمنيين، أو يأكل معهم على نفس المائدة، أو بالأحرى أن يقبل منهم عطية أو هدية)).
من هنا، ساهمت الوضعية السياسية المتسمة بالضعف والتفكك والتجزئة، وكذا محدودية وهشاشة البنية الاقتصادية للدولة الوطاسية، في تقاعس وقصور المغرب عن مدافعة ورد التهافت الإيبيري على سواحله.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الملكة إيزابيلا دعت في وصية لها – بعد سقوط الأندلس – إلى تمسيح شعوب ما وراء البحار، لاسيما الإفريقية منها، ولعل الإجراءات والسياسة التي نهجها ملك البرتغال مانويل (1495-1521م)، بعد توليه الحكم، تعتبر أصدق تعبير عن الوفاء والتجسيد الفعلي لوصية إيزابيلا، حيث سعى إلى نشر العقيدة المسيحية، علاوة على توسيع حدود مملكته من خلال احتلال الثغور المغربية وتحصينها ببناء العديد من القلاع المنيعة، وقد كان لتفوق البرتغال في ركوب البحر دورا في تحصيل هذا الغرض في إطار الاكتشافات الجغرافية، ومن ثم ((شرهوا لتملك سواحل المغرب الأقصى، فهجموا عليها(…) حتى تمكنوا منها(…)، فقويت شوكتهم، وعظم ضررهم على الإسلام)).
هكذا تعرض المغرب للغزو الإيبيري، حيث استفردت إسبانيا بالسواحل المتوسطية (مليلية وباديس)، فيما اهتمت البرتغال بالسواحل الأطلسية، إذ جثمت على كل المدن الساحلية من القصر الصغير شمالا إلى ماسة جنوبا.. فما كان رد فعل المغاربة تجاه هذا الغزو؟ وما طبيعة هذا الرد؟
الدولة السعدية.. انتصار وادي المخازن ودلالاته “الجيوسياسية”
لم يستسلم المغاربة للاستعمار الأجنبي.. فبمجرد استيلاء العدو على الثغور المغربية، تبارى المغاربة، على تباين فئاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم القبلية، في الحض على الجهاد والترغيب فيه أحيانا، والمشاركة فيه تارة أخرى.
في إطار غيرتهم الوطنية والدينية على ما أصاب البلاد المغربية من طمع وغلبة عدو الدين، توجهت القبائل السوسية إلى رجل من الأشراف بمنطقة تاكمدارت (جنوب المغرب)، يدعى محمد القائم بأمر الله، بغية مبايعته على القيام بأمر الجهاد والمقاومة، ومن هنا تأسست الدولة السعدية سنة 1511م على يد محمد القائم بأمر الله كرد فعل مباشر على الاحتلال الأجنبي للمغرب.
رهان الجهاد وتحرير الثغور المغربية الذي تأسست بموجبه الدولة السعدية، تمت ترجمته في الانتصار غير المتوقع الذي حققته هذه الأخيرة على حساب إمبراطورية البرتغال بقيادة الملك سباستيان، في معركة “وداي المخازن” سنة 1578م، حيث أسفرت هذه المعركة عن دلالات ونتائج على عدة أصعدة: سياسية تتمثل في تولي أحمد المنصور العرش، وتوافد الرسل والسفراء من مختلف الدول لتهنئته على الانتصار العظيم، أما على المستوى البشري، فقد خلفت هذه الوقعة خسائر بشرية ثقيلة، حيث قتل ثلاثة ملوك، ناهيك عن نحو ثمانين ألفا بين قتيل وأسير جميعهم من النصارى، كما حصَّل المغرب أموالا سَنِيَّة من خلال فداء الأسارى، ومن جهة أخرى، فقد تزايدت سمعة ومكانة المغرب الدولية كبلد انتصر على أعتى وأقوى دولة آنذاك، ويتعلق الأمر بالإمبراطورية البرتغالية، التي تم احتوائها – عقب الهزيمة الشنعاء – من لدن جارتها إسبانيا. ولعل ما يؤكد هذه الصورة المتلألئة التي بات المغرب يتبوأها في المخيال الدولي، هي الرسالة التي بعثها السلطان العثماني إلى أحمد المنصور السعدي، يعرض عليه عقد حلف بين الطرفين لمهاجمة إسبانيا العدو اللدود للعثمانيين، بما يعنيه ذلك من أن العثمانيين ينظرون للمغرب – بعد انتصاره في معركة وادي المخازن – كرقم صعب ودولة ذات وزن وكلمة في العلاقات الدولية والتحالفات الاستراتيجية.
على ضوء ما سبق، يتبين أن الغزو الإيبيري للمغرب إبان القرن 16م، كان نتيجة تظافر عوامل داخلية وأخرى خارجية، وضعت المغرب الوطاسي في موقف المستسلم للأمر الواقع إزاء التهافت الإيبيري على سواحله المتوسطية كما الأطلسية، باعتباره الهدف الثاني للهجمة الصليبية الكاثوليكية بعد استرداد الأندلس من أيدي المسلمين، لكن سرعان ما انتكست هذه النجاحات التوسعية التي حققها الإيبيريون، حينما أنزلت الدولة السعدية بالبرتغاليين – المباركين من لدن البابا – في معركة “وادي المخازن” هزيمة شنيعة، أعادت للمغرب مجده وسمعته الدولية، ومن جهة أخرى، شكلت سببا مباشرا في أفول شمس الإمبراطورية البرتغالية التي جابت العالم آنذاك من شرقه إلى غربه.