الحقيقة الضائعة | تفاصيل إخفاء وفاة السلطان الحسن الأول على الشعب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 41"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
التاريخ يشهد أن باحماد ومن معه نظموا عملية وضع جثمان الحسن الأول على المنصة، وأوهموا الجنود أنه حي وأنه يترأس استعراضهم، ولم تنته العملية عند هذا الحد.. فقد حمل باحماد وأعوانه جثمان الملك العظيم في الموكب الرئيسي حتى وصوله إلى سطات، بينما كان من المقرر أن يتوجه الموكب الملكي إلى فاس عبر الشاوية وجنوب تادلة.
واتجه باحماد وهو سيد الموقف، إلى سطات، حيث نصب الخيام وضرب الافراك، ثم استدعى أعيان سطات وعلماءها إلى الخباء الملكي وسط الافراك، ففوجئوا بجثمان الحسن الأول ممدودا، وإذا بالحاجب باحماد واقفا بجانبه وبين يديه قلادة الملك وهو يبكي قائلا: ((لقد أسلم أنفاسه الأخيرة منذ لحظات(…) وها أنتم ترون، لقد سلمني قلادة الملك، وأمرني أن أسلمها لولده الأصغر مولاي عبد العزيز، فاشهدوا على هذا)).
وكان الأعيان أمام الأمر الواقع: أن الركب الملكي وصل حسب ما شهدوا وعلى رأسه مولاي الحسن، وعندما دخلوا للسلام عليه فوجئوا بموته، وبالقلادة في أيدي باحماد.
وشهدوا.. وتم إعلان وفاة الحسن الأول رسميا في سطات.
وذهب باحماد بدهاء كبير في خططه وتنظيمه حتى أن وصول جثمان الحسن الأول إلى الرباط كان يوم الجمعة، حيث اتجه إلى المسجد وعزى الحاضرين في وفاة الحسن الأول وأقام الصلاة باسم المولى عبد العزيز، وبصيغة أخرى، فإنه وضع الرأي العام الوطني أمام الأمر الواقع.
وتفادى باحماد بذكاء استشارة علماء فاس ومراكش، واعتمد على شهادة أعيان سطات، وخطب باسم السلطان الجديد في الرباط قبل أن يتوجه إلى فاس.
فكيف مات الحسن الأول دون أن يخلف وصية، أو يشهد العلماء والأعيان الذين كانوا يرافقونه، أو يخرج عن موته أي خبر!؟
ثم هل يبقى الالتزام بحسن نية باحماد وبالثقة في تصرفه بينما الجميع يعرف أن الحسن الأول كان يكلف في كل المهام الصعبة العسكرية والمدنية، ابنه الأكبر مولاي امحمد؟
وهل يبقى الالتزام بحسن نية باحماد وهو الذي مر وهو في طريقه إلى فاس، عبر مكناس، حيث اعتقل الابن الأكبر للحسن الأول مولاي امحمد، الضابط والسياسي المحنك، ووضعه في السجن؟
وكيف يتم تفسير حملة الاعتقالات التي قام بها باحماد في صفوف أعوان الحسن الأول ورجال ثقته؟
وإذا كانت سياسة الحسن الأول تجاه القوات الاستعمارية معتمدة ومشخصة في عبقرية الدبلوماسي العجوز، السياسي الداهية المفضل غرنيط، فلماذا أصدر باحماد أوامره لقوات شرطته باعتقال العجوز المفضل غرنيط وزير الخارجية؟
إن جزئيات السيناريو، مهما كانت سلامة تصرفات باحماد فيها، هي أقرب ما تكون إلى المؤامرة منها إلى أي شيء آخر.
إنها تساؤلات هامة وخطيرة لم تجد لها جوابا منذ وقوعها، وبقيت الألسنة تتجمد والأقلام تجف عند وصولها إلى هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ المغرب، مرحلة الخروج من عهد المجد في عهد الحسن الأول إلى عهد الانهيار فيما بعد.
وشاءت الأيام في عهد الحسن الثاني أن ترسل الأضواء ولو خافتة على هذه المرحلة، وكان لجلالة الملك الحسن الثاني فضل السبق إلى اختراق جدار الغموض ولأول مرة في تاريخ المغرب.
وفي الواحد والعشرين من شهر ماي 1980 (أي مائة سنة بالكمال بعد أيام الحسن الأول)، ألقى الحسن الثاني خطابا بمناسبة إجراء استفتاء لتعديل الدستور وإحلال سن الرشد بالنسبة للملك في سن السادسة عشر بدل الثامنة عشر كما كان سابقا، فرجع بشعبه إلى المرحلة التي نحن بصددها وأرسل أضواء ذات أهمية بالغة على هذه الفترة الغامضة من تاريخنا، وها هي هذه الإشعاعات كما قدمها الحسن الثاني عن فترة موت الحسن الأول:
((سأحدثكم عن جانب من جوانب تاريخ المغرب قل من يعرفه، والذي رويته شخصيا عن ثلاث من عماتي مسنات، بنات مولاي الحسن رحمة الله عليهم كلهم، وهن للا أم كلثوم رحمها الله، وللا نزهة رحمها الله، وللا شريف الله يرحم الجميع، وهن أخوات مولاي عبد العزيز.
وكما تعلمون، فإن مولاي عبد العزيز كان أصغر إخوانه، ولم يترك له مولاي الحسن البيعة، ولكن في أحد الأيام، كان خارجا من المحلة جاء لزيارته، فأخذ له مولاي الحسن الركب ليصعد مولاي عبد العزيز على الفرس، وأخذ بلجام فرسه على أن أخرجه عن وثاق المحلة.. فهل معنى هذا أن مولاي الحسن أراد بذلك أن يأخذ البيعة لابنه؟ أو فقط أخذها الناس وأرادوا أن يطبقوا القياس ويقولوا: حينما اتكأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأمره أن يصلي بالناس وصلى وراءه، فكان ذلك كافيا.
المهم إنني ما أظن أن مولاي الحسن بعمله كان يقصد أن يبايع مولاي عبد العزيز من بعده. لماذا؟ لأن أعمال العقلاء منزهة عن العبث.. فليس مولاي الحسن الذي قضى طول حياته وهو على ظهر فرسه سيأتي في الأخير ويضع في كفة الشيء الذي لم يقض أثناءه أكثر من شهر في قصر من قصوره، ويضع في كفة أخرى شابا أنيقا ذكيا، ولكنه صغير السن.
وربما لأغراض ما، أظهر احماد وضخم ذلك العمل الذي قام به مولاي الحسن إزاء مولاي عبد العزيز وأعطاه أكثر من حجمه.
وهنا تأتي روايات عماتي رحمهن الله:
فأم عبد العزيز كانت اسمها أم سيدي رقية، ولما أدخل عليها احماد في الرباط مولاي عبد العزيز منصورا، كان الناس يزغردون وهي تبكي وتقول له حرام عليك يا احماد، حرام عليك يا احماد، ليس لك الحق لأن تعرض ولدي لهذا الخطر ولا أن تعرض مصالح الناس للهلاك.
طيب انطلاقا من هذا، ماذا وقع؟
وقع أن مولاي عبد العزيز وجد بعد احماد، المنبهي، وليس هذا بأحسن من ذلك؟ فمولاي عبد العزيز كان عمره 14 أو 15 سنة، وكانت قد ظهرت الدراجة فأركبه الدراجة، وكان قد ظهر القطار الصغير فاشترى له القطار الصغير، وباختصار، أتوا له بجميع الملاهي، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله في سن كان من المستحيل علينا أن نحكم عليه أنه أخل بالأمانة، فليس في سن البلوغ والمراهقة يتوجه الإنسان إلى العمل ويترك الملاهي، بل سيقع العكس)).
إن القارئ بلا شك سيقدر أهمية هذه الإيضاحات كما صرح بها الحسن الثاني بعد مرور مائة سنة بعد عهد الحسن الأول، وهي بيانات من شأنها أن تزيد ما ورد في هذه الفترة وضوحا وجلاء، بينما يبقى باحماد من خلالها موضع شكوك كبرى، وما أعظم وصف عمات الحسن الثاني وهن يروين له كيف كانت الملكة الأم للا رقية تردد: ((حرام عليك يا احماد..))، وما أهول الموقف، وربما ما كان أضعف سيدة القصر أمام غطرسة ونفوذ باحماد، الرجل الذي فرض إرادته حتى على سيدات القصر.. فما بالك بشؤون المغرب الأخرى.