الحقيقة الضائعة | عندما اخترقت المخابرات الأجنبية بلاط السلطان المغربي
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 40"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
بينما كانت أمجاد الحسن الأول مرتبطة ارتباطا عضويا وتكامليا بوالد الحاجب باحماد، وقد كان الأب مواطنا طموحا في بوابة القصر الملكي، فأصبح سيدا للمغاربة بعد الحسن الأول، وهو موسى بن أحمد، الحاجب، ثم الوزير الأول وصاحب الأمر والنهي.
وواكب موسى بن أحمد أفواج النصر والجدية والعظمة في عهد الحسن الأول منذ سنة 1873، بعد أن مات المولى محمد بن عبد الرحمان الذي كان في خدمته بنفس الوفاء والعهد.
ولما مات موسى بن أحمد سنة 1879 بالكوليرا، أي ست سنوات بعد صعود الحسن الأول لأمجاد المسؤولية، دفنه بجوار والده الملك محمد الرابع بضريح مولاي علي الشريف بمراكش وفاء وتقديرا وإجلالا.
إلا أن موسى بن أحمد في إحدى لحظات ضعفه، كان قد أغرم بفتاة يهودية فتزوجها وأنجبت له ولدا اسمه احماد، كان من النبوغ والدهاء بحيث أنه كان فارضا شخصه، وكان فعلا خليقا بخلافة أبيه، والخلافة في المناصب داخل القصور شيء يجري به العمل حاليا فما أدراك بهذا الامتياز منذ مائة سنة، لكن ومرة أخرى، يكون الحسن الأول مفرقا بين العاطفة والواجب، ويقرر مباشرة بعد موت صديقه وأمين سره ووزيره الأول وحاجبه موسى بن أحمد، أن هذه المسؤولية وهذه الثقة وهذا النفوذ الذي كان يتمتع به موسى بن أحمد، أكبر من أن يتحمله رجل واحد، فأسند الحجابة للابن النابغة الذكي أحمد بن موسى (باحماد)، وأسند الوزارة الأولى لمحمد الجامعي ابن خال باحماد.
ولم يغفر أحمد بن موسى، باحماد، البتر من نفوذ كان يرى نفسه أحق به كاملا.
وفي أوساط يكون فيها المنصب والجاه بمثابة الروح من الجسد، ويفقد فيها الشخص كل عقله كلما افتقد مظهرا من أحد مظاهر الانحناء والخنوع، فأحرى مزية التحكم المطلق في جهاز الدولة بأكملها، فإنه يصبح الجمع بين الإخلاص والاستمرار في العمل، ضدان متناقضان بالنسبة للشخص المفجوع في جاهه.
ولست أدري كيف وثق الحسن الأول في باحماد خمسة عشر عاما، بعدما شعر -ولا شك – بنار الغيظ تلتهب بأحشاء باحماد، وهو الذي يعرف حق المعرفة أن الانتقام وجبة تؤكل باردة.
ولو رجعنا بضع صفحات إلى الوراء وتصفحنا أوضاع اليهود في المغرب وتعقبهم بالقوات الأجنبية ورغبتهم في إقامة دولة في المغرب قبل “دولة إسرائيل”، لعرفنا نوع التركيب البيولوجي للحليب الذي أرضعته اليهودية زوجة موسى بن أحمد وليدها احماد بن موسى.
ولا حق لنا في إهمال ردود فعل الرأي العام الوطني الذي كان يتتبع الأحداث ويعرف أن الوزير الأول تزوج بيهودية، وأن اليهودية أنجبت ولدا اسمه أحمد، وأن اليهودية دين قبل كل شيء، وأن لها طقوسا وتقاليدا.
وهو رأي عام ما كان لباحماد أن يقبله وهو الرجل القوي في المغرب، مغرب لم يكن خاضعا لظروف خالية من وسائل التوجيه الإعلامي.
ورغم أن الرأي العام الوطني في ذلك الوقت، مثلما هو اليوم، منزه عن كل ميز عنصري، حيث كان اليهود، ولازالوا، عنصرا حيا من العناصر المغربية، فإن أوضاع المغرب آنذاك، وتحركات العنصر اليهودي وطموحاته في إقامة دولة يهودية محمية بالنفوذ الأوروبية بتوجيه من الوجيه روتشيلد، كانت تغلب على الأفكار.
فهل كان باحماد متفقا مع الحسن الأول في سياسته؟ بينما الذي بنى قصر الباهية في مراكش لابد وأن يكون رجلا على مستوى طموحاته وأمين سر الملك – وهو المنصب الذي أصبح باحماد يمارس مسؤولياته في السنين الأخيرة من حكم الحسن الأول – وهو كل شيء، هو الرجل الثاني صاحب الأمر والنهي، إذن، فقد كان على اتصال دائم بالقوات الدولية بضغوطها، وبمغرياتها وبدهاء دبلوماسيتها.
لقد استطاع الفرنسيون في عز حكم الحسن الأول الزج بعملائهم في البلاط الملكي وترشيح العناصر المحضرة للمستقبل لأن تحظى بثقة الحسن الأول، وليس من باب الصدفة أن يكون من بين الطلبة الذين بعثهم الحسن الأول للتخصص في الهندسة بفرنسا، طالب اسمه الجيلالي اليوسفي، الذي رشح بعد رجوعه، لمنصب كاتب متخصص في اللغة الفرنسية بالديوان الملكي وما هو في الحقيقة إلا الرجل الذي حضره الاستعمار الفرنسي ليلعب دورا انفصاليا هاما في تاريخ ما بعد الحسن الأول، وهو في الواقع بوحمارة، المشهور باسم “الروكي”.
كما أن الديوان الملكي كان محشوا بعناصر أخرى مثل الصديق الحميم والجليس المختار، الجيلالي اليوسفي، وهو الكاتب المهدي المنبهي الذي ستؤهله خدماته مع الاستعمار الفرنسي ليصبح رجل دولة بعد موت الحسن الأول في ظل حكم باحماد، إلى أن أصبح وزيرا للحرب (أية حرب)، وهو الذي سرق ميزانية الدفاع الوطني وهرب إلى الخارج.. إنه نموذج العناصر التي أقحمت بها المخابرات الأجنبية في ديوان الحسن الأول.
ولنضع أنفسنا في جراب السفير الفرنسي، وجراب السفير الإسباني، وهما يرغبان في احتلال المغرب متأكدين أن الوصول إلى هذه الغاية لا يمكن أن يتحقق مادام الحسن الأول موجودا على مسرح الأحداث، ويرغبان أيضا في تعويض الحسن الأول العظيم، بشخص أضعف منه، أو بلا شيء، بصبي مثل.. طفل.. مثل مولاي عبد العزيز، أصغر أبناء الحسن الأول، ليتمكن الأقوياء الراغبون المحتلون من تحقيق أهدافهم، إذن، فالاتفاق مع “رجل ثقة” طامع أولا في حكم المغرب بطريقة غير مباشرة، وراغب في الانتقام من ملك جرده من مسؤوليات هي في نظره “حق من حقوقه”، هو أمر من السهولة بمكان وهو بمنتهى البساطة، أو في تعبير عن مبدأ ما يسمى في عصرنا الحاضر بالمؤامرة.
لست أدري هل كان الأمر يتعلق بمجرد مؤامرة، أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد صدفة؟ ولو كان الأمر كذلك، لكان فعلا من باب غرائب الزمان:
– أن تكون القوات العالمية في أزمة؛
– أن يكون المغرب سبب هذه الأزمة؛
– وأن يموت ملك المغرب صدفة؛
– وأن تحل الأزمة؛
– وأن ينصب على المغرب ملك عمره أربعة عشر عاما؛
– وأن يصبح باحماد هو كل شيء في المغرب أمام صغر سن ملك المغرب وضعف نفوذه؛
– وأن تتحقق كل أهداف الاستعمار تحت حكم الملك الصغير وفي ظل نفوذ الوزير الأول الذكي.. فهل هذه مؤامرة أم مجرد صدفة؟
لا أحد يدري.. إنما المهم.. هو أن سيناريو سينمائي كبير عرفه المغرب، وكان واجبا علينا أن نراجعه، ونعيد استعراضه وكأننا أمام جهاز الفيديو نرى أحداثا مسجلة، ونستعرضها وحدنا في بيتنا دون أن يكون الآخرون مرغمين على مشاهدتها.
السيناريو عمره عشرات السنين، وكانت مراحل إخراجه كما يلي:
الحسن الأول في قصره بمراكش ينصب عمه مولاي عثمان، عاملا على الحوز وسوس والساقية الحمراء، ثم يطلع على تطورات أعمال المقاومة في وادي الذهب، ويرتاح إلى الأخبار الواردة من ابن أخيه خليفته في وادي درعة وزيز وتودغى، وفركلا، والساورة.
ثم يستقبل وفدا من تمبكتو جاء – كما ذكرنا سابقا – لمطالبة ملك البلاد بالتدخل لحماية تمبكتو على الحدود الجنوبية الشرقية من الغزو الفرنسي، ويتخذ مع الوفد القرارات اللازمة.
ثم يقرر التوجه إلى الشمال قاصدا فاس على رأس جيوشه مكللا بألوية النصر، شاعرا ببعض التعب، لكن أي شيء مستعجل، ما كان يدفعه للسفر لو كانت حالته الصحية متدهورة، فقد قضى ستة شهور في مراكش التي وصلها في عز البرد والثلج والشتاء في دجنبر 1893.
ويتشكل الموكب الملكي في فاتح ذي القعدة 1311 هجرية الموافق لرابع جوان 1894.
وهنا تبدأ الأحداث الغامضة.
لقد كان الطريق الملكي معروف المراحل محدد الأزمنة والأمكنة، وبعد ثلاثة أيام من السير، وصل موكب الحسن الأول إلى عقدة وادي أم الربيع، في قبيلة بني موسى حيث استقبله قائد “أولاد زيدوح” الذي دخل الحسن الأول بيته للمبيت به،
وكان الموكب الملكي يصل تباعا كعادته، والخيام تنصب، وخلف الأقبية كانت النساء والأطفال والخدم والحشم، وعرف الموقع حركة ونشاطا كالذي يجري عادة في كل مواقف الركب الملكي.
وفي الصباح، يخرج الحاجب باحماد من حضرة الملك فيلقاه الناس بالتهليل والتحيات المعتادة، فيقف فيهم متسلحا بشجاعته، ويأمر بتنظيم استعراض عسكري، ويمر الجنود والفرسان وجرارو المدافع أمام المنصة الملكية التي كان الحسن الأول ممدودا فيها في وضع المستريح، وينتهي الاستعراض، فيقف باحماد ليأمر الجنود بالتحرك والاتجاه إلى الرباط مرددا قولته: “إن سيدنا يأمركم بالتوجه إلى الرباط، فاسبقوه”.
هذا هو المظهر.
أما المخبر، فهو الحقيقة المرة.
إنه في تلك الليلة من رابع ذي القعدة 1311 الموافق لسابع جوان 1894، التحق الملك العظيم بربه.. والله وحده أعلم بالطريقة التي اختاره بها لجواره.