الحقيقة الضائعة | اتهام باحماد بتسميم ملك المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 39"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
إن الظروف الحاضرة للعالم كله، والدروس المعاصرة لأحداثه، مشحونة بما فيه الكفاية بأمثلة القادة الذين أطيح بهم أو اغتيلوا بمختلف الوسائل، وسائل المخابرات المعروفة، ويحدث هذا في عصر لا تجرؤ فيه على التصريح بأنها قررت احتلال دولة أخرى، فأحرى حينما أعلنت ندوة مدريد وندوة برلين عن قرارها باحتلال إفريقيا واستغلال خيراتها.
ولننطلق من الاحتمال الأوحد الذي توصل إليه قادة الدول العظمى بما فيها فرنسا وإسبانيا، وهو أن احتلال المغرب والتغلب عليه عسكريا هو شيء مستحيل في حياة الحسن الأول، وهو احتمال واضح جلي من خلال ما ورد في الحلقات السابقة من أحداث وشهادات، ومن وثائق ومراسلات.
بقي إذن:
– إما انتظار موت هذا الرجل، فتحضير خلف له على مستوى الطموحات السياسية هو شيء من الأهمية بمكان، لكن.. من ينتظر؟
– وإما اغتياله، وتنصيب خلف له يكون على مستوى طموحات مؤتمر برلين.
وهنا يصطدم المستعمرون مع حقيقة مزعجة بالنسبة لهم، وهي أن التاريخ لم يسجل مطلقا أنه تم اغتيال ملك واحد في الدولة العلوية.
ولماذا اغتيال ملك هو من صلب الشعب، في خدمة الشعب، وعبد من عباد الشعب والوطن؟
وهل نسينا قولة المولى إسماعيل لجنوده: ((أنا وأنتم عبيد كتاب الله))؟
إنه لا شك أن عظمة المولى إسماعيل كانت تكمن في فلسفته النبيلة لوقف حياته في خدمة الشعب والوطن، فقدم نفسه قائلا: ((أنا وأنتم عبيد كتاب الله))، وهو تعبير عاد إلينا أيام الحسن الأول، وعاد في عهد الحسن الثاني، الذي صرح يوم 18 مارس 1980، أثناء حفلة بمراكش بمناسبة سفره إلى مدينة الداخلة، فقال مجددا عهد المولى إسماعيل: ((عليكم أن تعلموا أنه فيما يخص الحسن الثاني الذي سن سنن الحرية والديمقراطية في هذه البلاد، أن الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن قد فقد حريته منذ أن أصبح أسير قسمه أو كما تقول العامة “عبد مشرط الحناك” لبلده ولشعبه.
فكما أعتز وأحمد الله أن خلقني مسلما عبدا لله، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره أن اختارني لأكون عبدا لهذا الشعب ولهذا الوطن، ولكن الحسن الثاني هذا العبد لوطنه وشعبه، يأمل شيئا هو أن يتحقق في رعاياه المثل القائل: “إن الناس على دين ملوكهم”، فأملي أن يكون العشرون مليونا من المغاربة اليوم وغدا ودائما، عبيدا لبلدهم أسرى لوطنهم، خداما لشعبهم فاقدين وبطواعية واختيار، حريتهم في سبيل علمهم وقسمهم، أن يموتوا روحيا وجسميا في خدمة بلدهم وفي الدفاع عن حوزتها)).
إنه رغم أن الاغتيال كان منذ مائة سنة بضاعة متداولة، فإن التخلص من الحسن الأول كان أصعب من احتلال المغرب، بينما الاستعماريون كانوا لا يتصورون احتلال المغرب دون تصفية الحسن الأول.
وإذا استنتجنا من الأحداث المسرودة مسبقا، أن الاستعماريين الفرنسيين والإسبان والإنجليز والألمان، أعلنوا عن قرارهم باستعمار المغرب، ولم يربطوا تنفيذ هذا القرار بإرساليات عسكرية موحدة، وإنما نذكر، بواسطة الخبراء والجواسيس والباحثين، أي أنهم اختاروا طريق الحرب الباردة بدل الحرب الساخنة، اتضح لنا جليا أن نفس الأسلوب هو الكفيل بالتخلص من الرجل الذي لابد من التخلص منه.. فهل أعلنت القوات الاستعمارية الأوروبية حربا باردة على الحسن الأول في قصره، في حياته الخاصة؟
إن الحاشية المحيطة بالملك، أو برئيس الجمهورية، أو بزعيم الوطن، أو بقائد الجيش، كانت في العصور الخوالي وفي عصرنا الحاضر، ميدانا يعادل في خطورته بالنسبة لمن تسلط عليه أضواء النفوذ، ميدانا آخر للعمليات الحربية.
ألم يتم أخيرا اغتيال رئيس أكبر جمهورية آسيوية وأقواها وأعظمها مخابرات، في كوريا الجنوبية، من طرف رئيس مخابراته، وبتنسيق محكم مع الكاتب الخاص لرئيس كوريا المغتال؟ وما للأمثلة من حصر..
إن أصابع الاتهام – بعد فوات الأوان – وجهتها أفكار المؤلفين الفرنسيين الذين كانوا معنيين بوضعية الحسن الأول، وكانوا عارفين بالخلفيات والجزئيات، وكانوا مخططين ومتتبعين وخرجوا بالاستنتاج المقبول مبدئيا، بل إن المؤلف مارتان مصر في استنتاجاته وهو الذي عاش الفترة كلها، على تأكيد وجهة نظر الخبراء والجواسيس الأجانب في الطريقة التي لقي بها الحسن الأول ربه، وهي أن الحسن الأول مات مسموما من طرف أقرب الناس إليه، حاجبه احماد بن موسى المعروف باسم باحماد، وتوسع مارتان، المؤلف الفرنسي الكبير لتاريخ المغرب، في هذا الموضوع، وإنما يتطابق احتمال مارتان مع الواقع مع الأزمة التي كانت تعاني منها السلطات الفرنسية والمخابرات الفرنسية والقيادة العسكرية في وهران، والقيادة العسكرية الإسبانية في سبتة وفي وادي الذهب، والتي كان روحها الحسن الأول.
وتواكب الأحداث التي أعقبت موت الحسن الأول المؤلف الفرنسي في استنتاجه، وتثبت أن عواقب موت الحسن الأول كانت متطابقة ومخططات المخابرات الفرنسية والإسبانية.
وبعيدا عن احتمالات المؤلف الفرنسي، لنلق نظرة على الشخصية الخاصة للحسن الأول.
لقد كان شابا يافعا ذكيا محبوبا من طرف جده الملك عبد الرحمان، الذي لم يسند إليه أي منصب، لأنه بدون شك كان صغيرا.. كان الحفيد المحبوب، وكتب التاريخ تتحدث عن عناية المولى عبد الرحمان بحفيده، إذن، فقد كان عمره خمسة عشر سنة على الأكثر عندما توفي جده المولى عبد الرحمان سنة 1859، وأسند إليه أبوه الملك محمد بن عبد الرحمان، بعض المهام، ثم أهم المهام، لكن أباه لم يبق أكثر من أربعة عشر عاما، وبالتقريب كان عمره ثلاثين عاما عندما أصبح ملكا للمغرب الذي حكمه واحدا وعشرين عاما. إذن، فقد مات وعمره خمسون سنة، في عصر كان الناس في أغلبهم يناهزون المائة.
ورجل يقضي حياته على صهوة جواده لابد أن يكون قوي البنية، سليم التكوين، بالغا أوج الصحة في سن الخمسين.
هذا مجرد احتمال، أما الواقع، فهو أخطر من هذا بكثير.
من هو باحماد ؟
إنه إذا كانت أصابع المخابرات الفرنسية متجهة بالاتهام إلى باحماد، أقرب المقربين إلى الحسن الأول، كالرجل الذي خلص عليه ببرودة، وهذا ما اتفقت على التلميح إليه كل كتب التاريخ الفرنسية، فمن يدري؟ ربما أرادت فرنسا بث الشكوك حول شخص باحماد أو اتهامه أو إلصاق التهمة به وحده، فلربما تكلفت بتسميم الملك العظيم أياد أخرى وما كان أكثرها، واتهام باحماد – على أية حال -مسؤولية خطيرة، وإنما تدعو الأمانة الأدبية إلى سرد الأحداث وترك التأويل لاستنتاجات القراء، وخطورة هذه المسؤولية هي التي خرج منها الأستاذ عبد الوهاب بنمنصور أثناء إشارته لهذه الفترة في كتاب “أعلام المغرب” بقوله في سطر واحد: ((مات السلطان مولاي الحسن الأول في صورة سيأتي الوقت للكشف عن أسرارها ومخبآتها))، ذلك لأن الحقيقة فعلا لا يعلمها إلا الله.
ولنقرأ على سبيل الاستنارة، ما كتبه المؤلف الكبير المولى عبد الرحمان بن زيدان، صاحب “إتحاف أعلام الناس” عن باحماد، وكلنا نعرف أن حرية التعبير آنذاك لم تكن بالشيء المعروف، مما جعل المؤلف يوجز ظروف الحكم بين أيدي باحماد بكلمتين هما ((لما خلا الجو))، وهو تعبير يعني الكثير.. يقول بن زيدان عن باحماد: ((… ثم لما خلا الجو للمترجم (يعني باحماد)، وطأطأت له رؤوس العتاة وتمهدت له البلاد واستبعد سراة العباد، وجبيت له الأموال الطائلة، صرف مهمته لتشييد القصور وغرس الجنان بفاس ومكناس ومراكش، وأنشأ بمراكش جنانا متسع الأكناف سماه “أجدال”، وغرسه بأنواع الأشجار والأزهار، وأنبع له عينا خاصة به، وعمل صهريجا يجتمع فيه الماء للسقي منه، ومن قصوره المدهشة بمراكش، قصر الباهية)).
إنه تلميح لقليل من الكثير، ذلك أن الجو لم يخل ولا لخلوه مدلول إلا بعد وفاة سيد البلاد جلالة الحسن الأول، وعرفت البلاد بعد موته من الأحداث ما أهله لاستبعاد سراة العباد، وهي ظروف مر عليها الناصري في كتاب “الاستقصاء” مرور الكرام، بينما أمجاد الحسن الأول كانت مرتبطة ارتباطا عضويا وتكامليا بوالد الحاجب باحماد، وقد كان الأب مواطنا طموحا في بوابة القصر الملكي، فأصبح سيدا للمغاربة بعد الحسن الأول، وهو موسى بن أحمد، الحاجب، ثم الوزير الأول، وصاحب الأمر والنهي.