الحقيقة الضائعة | عندما سقطت الجزائر ومصر وليبيا ولم يسقط المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 38"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

ابتداء من 16 مارس 1886، انطلقت المقاومة المسلحة في الصحراء وسجلت في التاريخ أروع صفحات الجهاد، وتعد بالعشرات تلك المعارك التي حصلت على شواطئ وادي الذهب، لمنع الإسبانيين من النزول.
ورغم أن الجيوش الإسبانية كانت قد بنت سنة 1884 حصنا في رأس الداخلة اسمه مركز “فيلا سيسنيروس”، بعد أن أنزلت رجالها فيه بالأزياء المدنية وتحت اسم التجار، ثم تحولوا سريعا إلى جنود محتمين بالمركز، فإن جيوش ماء العينين كانت تقوم بمحاصرة هذا المركز وتصليه من النيران ما يزخر به تاريخ الاحتلال الإسباني، وفي نفس الوقت تمنع الجنود الإسبان من النزول في الشواطئ، وبالمناسبة، فقد كانت هذه المرحلة هي التي حولت ماء العينين، العالم الفقيه، إلى ماء العينين المحارب الكبير.
وسيلاحظ القارئ باستغراب أن الإسبانيين تشبثوا بهذا المركز، ولم يطردوا منه رغم الضربات التي تلقوها والتي سيأتي الحديث عنها، بل إن القارئ سيشك في صحة تلك الهجمات وسيتساءل لماذا لم يطرد المغاربة جنود الإسبان من “فيلا سيسنيروس”؟
لهذا أهيب بالقارئ أن يلقي نظرة على خريطة المنطقة، ليلاحظ أن “فيلا سيسنيروس” أو ما يسمى بالداخلة، هي عبارة عن لسان أرض في البحر على طول خمسين كيلومترا في أرض ضيقة داخلة في البحر على شكل ألف همزته هي الداخلة، التي بنى فيها الإسبانيون “فيلا سيسنيروس”، وبدون قوة بحرية ضاربة وضخمة، لا يمكن إطلاقا لا في ذلك الوقت ولا اليوم، الحفاظ على الداخلة، وهذه القوة البحرية كانت وقتذاك متوفرة لدى الإسبانيين.
وانحصر الإدماج الإسباني لمنطقة وادي الذهب في النفوذ العسكري للجزر الخالدة، على مجرد قرار مكتوب في الأوراق.. فقد كانت الأزمات الاقتصادية الإسبانية والوضعية الاجتماعية المنهارة، تحول دون إسبانيا وإلقائها بقوات كبيرة لفرض احتلالها.
إلا أن إسبانيا اضطرت في نهاية سنة 1885، إلى إرسال جيش جرار بقيادة القبطان شاكون، لرفع حصار أولاد دليم عن مركز “فيلا سيسنيروس” الداخلة.
وخابت آمال الإسبانيين في النزول بشواطئ وادي الذهب، فلجئوا إلى طريقة أخرى، حيث اختاروا أحد عملائهم المغاربة وهو محمد المدني، وهو ريفي الأصل من شمال المغرب، وبعثوه على رأس بعثة إسبانية متنكرة لدراسة الظروف العسكرية لأولاد دليم.
وهنا نرى جليا أن الإسبان نقلوا عن الفرنسيين نموذج شريف وزان الذي بعثوه من وزان إلى توات، فاختار الإسبانيون محمد المدني وبعثوه من الريف إلى وادي الذهب معترفين بذلك أن كل نفوذ الصحراء لا يمكن أن يتحقق إلا على أيدي زعيم من الشمال.
كما زار المدني مركز الشيخ سعدون ابن ماء العينين، للتأكد من كميات جنوده وعتاده، كما عمل المدني الريفي على شراء بعض الضمائر، فقد كان مرفوقا بالتاجر الإسباني بونللي، الذي كان محملا بحقائب الأموال، يصرف بدون حساب.
ولم يكن الحسن الأول يعرف أن الإسبانيين يتوفرون على عميل آخر متواجد في المنطقة يسمى أحمد ولد محمد عايدة، الذي أمضى مع وفد من “التجار” المغاربة الريفيين والإسبان، اتفاقا يرحب بالاحتلال الإسباني للمنطقة.
وكان تصرف ولد عايدة مثل الخرم في السفينة، وعندما بلغ الخبر الحسن الأول، شكل بعثات مدنية وعسكرية وبعثها إلى سكان المنطقة، كما بعث فرقا عسكرية أخرى لدعم المقاومة المتواجدة في المنطقة.
وكان السباق بين الحسن الأول وبعثات العلماء والصحفيين و”التجار” الإسبان لطلب الدعم من الدول الأوروبية لاحتلال إسبانيا لوادي الذهب.
طالب سوري يحارب الإسبان في وادي الذهب
وفي 24 مارس 1887، هوجمت المواقع الإسبانية بعنف كبير في منطقة الداخلة، وأصبحت المنطقة منطقة حرب، دخلت فيها قبائل أولاد دليم، أولاد بوسبع، والعروسيين وجنود ماء العينين، والبعثات العسكرية الواصلة من مراكش، ولم يتخلف عن الجهاد لا كبير ولا صغير، وأكبر برهان على إعلان التجنيد العام، أن فرقة من المجاهدين ترأسها طالب سوري الجنسية جاء للدراسة على ماء العينين ويسمى محمد أيوب، أطلق على نفسه اسم “محمد الصابر”، وانطلق في صفوف المجاهدين وهو الذي يرجع إليه الفضل في إغراق باخرتين إسبانيتين هما باخرة “تريس دي مايو” وباخرة “الأمارياس”.
أصبح إغراق البواخر الإسبانية قبل أن تصل للشواطئ تقليدا مارسته القبائل المجاهدة، مما دعا إحدى الشركات المؤسسة للمجمع الاقتصادي الإسباني وهي “الشركة التجارية الإسبانية الإفريقية”، إلى إعلان إفلاسها رسميا.
وعندما تواردت على الحسن الأول أخبار إفلاس “الشركة الإسبانية الإفريقية”، تأكد أن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد لحماية التراب الوطني.
وقتها شعر بالاعتزاز وغطت وجهه مسحة من الانشراح، وقرر السفر إلى الشمال لمراجعة الموقف في واجهات أخرى، ولكن مشيئة الله اختارته لجوار ربه في تلك الأثناء، بعدما اطمأن إلى صمود المغرب في وجه الاحتلال الإسباني. ومات وهو يعلم حق العلم أن الإسبان لازالوا متجمعين في مركز هو ثكنة عسكرية تسمى “فيلا سيسنيروس”، وأن الصحراء وشنقيط مجندة وراءه للدفاع عن حوزة التراب الوطني، وأن الوضع في الصحراء الشرقية كما تركه بعد خروجه من تافيلالت، حيث لا يجرؤ الفرنسيون رسميا على مواجهة مراكز نفوذه. مات إذن، وهو مطمئن إلى استمرار مملكته في وحدتها مواجهة للتحديات العالمية وعتو قواتها الكبرى.
قد يؤاخذ على بعض القراء أن الحماس الوطني والاختفاء وراء بعد العهد بالأحداث، يدفعني إلى إعطاء الحسن الأول في أيامه الأخيرة هالة من المجد أكبر من الواقع، ولهذا فضلت في ختام هذا الفصل تقديم وثيقة توجز الأمر الواقع.
ففي “الكتاب الأحمر” للزعيم الكبير محمد علال الفاسي، وفي صفحة 245، نجد الوثيقة رقم 90، وهي من الوثائق الرسمية للحكومة الفرنسية، تلخص بكل أمانة حقيقية وضع الحسن الأول تجاه الإسبان في السنة الأخيرة من حياته.
الوثيقة هي رسالة مكتوب عليها “سري” جدا، كتبها المسيو سوهارت، القائم بأعمال السفارة الفرنسية بطنجة، إلى المسيو ديفيل، وزير خارجية فرنسا، مؤرخة بطنجة في 15 أكتوبر 1893، وفيها يقدم الدبلوماسي الفرنسي لوزير خارجيته تقريرا عن مناقشة دارت بينه وبين السفير الإسباني في طنجة، يقول الدبلوماسي الفرنسي: ((إن السفير الإسباني أكد لي أن الوضعية أخذت اتجاها سيئا، إن المعلومات التي يتوصل بها السفير الإسباني تؤكد أن السلطان الحسن الأول ينفذ نصائح الشخصيات الدينية التي لا تسمح له بعدم تأييد الريفيين أو معاقبتهم، والإسبان في هاته الحالة مضطرون للانتقام لشرفهم وإعلان الحرب على المغرب وعدم التوقف في عملياتهم العسكرية عند الريف وحده)).
هذه المعلومات التي يتوصل بها السفير الإسباني، وهذه “الوضعية التي أخذت اتجاها سيئا” إنما تهم إسبانيا في الريف وفي الصحراء طبعا، ويكفي أنها سيئة بالنسبة للإسبانيين لنفهم بديهيا أنها في صالح الحسن الأول في أكتوبر 1893، أي بضعة شهور قبل موته.
ولهذا بعث برسالة إلى البابا ليون الثالث عشر، في سنة 1888، مطالبا بتدخله لمنع المحاولات الإسبانية من احتلال الصحراء المغربية.
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
تقدم الأحداث الجليلة التي عرفتها المنطقة خلال المرحلة التي كان فيها الحسن الأول ملكا على المغرب، البرهان القاطع على أن الرجل عاش في ظروف لا مثيل لها في تاريخ الإسلام المعاصر.
وتتلخص هذه الأحداث في أن الدول العظمى في العالم وعلى رأسها القوات الأعظم آنذاك، فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا، اتفقت كلها واكتسبت دعم ثمان دول أوروبية أخرى ودولة الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل ابتلاع المغرب، وتقاسمت الدول الأعظم فيما بينها مناطق النهش، وأعطت لقرارها الوحشي هذا صيغة القانون من خلال مقررات مؤتمر مدريد، ومقررات مؤتمر برلين.
وتشهد الأحداث التي يزخر بها تاريخ المنطقة، بأقلام مؤرخين وسياسيين ودبلوماسيين ومغامرين، على أن هذه الدول كلها عجزت عن تحقيق أهدافها في حياة الحسن الأول.
ولنتفحص الوجه الآخر للصورة، فقد احتلت فرنسا الجزائر بسهولة، واحتلت ألمانيا أطرافا من إفريقيا واحتلت بريطانيا أطرافا أخرى منها، وكانت إسبانيا خبيرة في شؤون الاحتلال، إذ كانت أغلب مناطق أمريكا خاضعة لها، واحتلت هي أيضا مناطق في إفريقيا، وسقطت تونس، وسقطت مصر، وسقطت ليبيا، فكيف لم يسقط المغرب، رغم الإعلان الرسمي على منصة برلين ومدريد، أن المغرب أرض مفتوحة للقوات الأوروبية في المخطط الاستعماري الشمولي.
أحب من أحب وكره من كره، وكذَّب من كذَّب وصدَّق من صدَّق، فإن الأمر – ولا شك – لا يرجع لتمائم علقها الفقهاء بالمغرب على أفواه المدافع، ولا لإشفاق إنساني فرنسي وإسباني وبريطاني وألماني على شعب المغرب، وإنما الأمر هو بما لا يدع مجالا للشك ولا للاحتمال، يتعلق بإرادة الحسن الأول، وشعب الحسن الأول، وإنما أراد شعب الحسن الأول فاستجاب القدر.
وأكبر عربون على أن الأمر يتعلق بإرادة الحسن الأول، هو أن كل مخططات برلين ومدريد تم الوصول إليها بعد موته.
إنه بعد موت الحسن الأول، أصبح المغرب الصامد، الجبار، الحر، العنيف.. أشبه ما يكون بحلوى سائلة الجنبات، أو بهيكل من الزبدة تحت أشعة الشمس المحرقة.
فبعد الحسن الأول، كانت القوات الفرنسية والإسبانية تدخل المغرب من أبوابه المفتوحة، رغم المقاومة العنيفة للشعب المغربي في توات، وفي الساقية الحمراء، وفي الريف، وفي سوس، وفي كل مدن المغرب وقراه، جباله وسهوله.
كان لا بد لمقاومة المغرب من رمز كان هو الحسن الأول، ومات الحسن الأول وبقيت المقاومة، لكن الرأس المفكر أضعف من أن يكون على مستوى الإرادة الشعبية.
وأمام هول الأحداث والتقديرات، يفرض التساؤل نفسه: ماذا وراء الغموض الذي أحاط بموت الحسن الأول؟
وهذا الشك أو التشكك في هذا الغموض، ليس بديهيا أو محتملا، وإنما هو مفروض، وأن اختفاء رجل الموقف في ساعة الحسم ليس فقط حدثا بديهيا أو مفروضا، فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم موتة طبيعية، حلت مشاكل أعدائه نسبيا مؤقتا، نزلت الآية الكريمة ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)).
هذا المقال ليس لقيدوم الصحافة المغربية،مصطفى العلوي رحمه الله هو طه حسين المغرب،وكاتب هذا المقال هو كاتب صحفي من أيها ليس طه حسين المغرب