الحقيقة الضائعة | عندما توحدت أوروبا كلها في العداء ضد المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 37"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
مؤتمر برلين 1884
قد نتساءل ما دور الشركات الجغرافية في الموضوع السياسي والاستعماري؟ والجواب هو أن المستعمرين الإسبان إنما كانوا يضربون على وتيرة الاستعمار العالمي، المسواة على نغمة العصر: احتلال إفريقيا.
لقد أخذ المستعمرون الإسبان تسمية جمعيتهم من اقتراح الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، هي أساس الاحتلال العسكري، وكان موضوع الندوة بالحرف، ولا نستغرب، هو “استغلال إفريقيا”، وتوسعت الندوة إلى دراسة الأساليب الكفيلة بتفادي قيام حروب بين بعض الدول الأوروبية يكون سببها “استغلال إفريقيا”، أي تنظيم صفوف الوحوش تجاه الغنيمة.
وتوصلت الندوة إلى اتفاق مبدئي ينص على أن ((كل متسرب باحث أو دارس لمنطقة من المناطق، فإن تلك المنطقة هي ملك خاضع لنفوذ دولته))، وبصيغة أخرى: ها هي إفريقيا، وها نحن الأوروبيون، لننقض عليها، وكل من حصل على قطعة من حلواها، فهي له ولدولته، وتكفي مراجعة تقارير هذه الندوة، وما أعقبها من تحليلات ومخططات، لنفهم إلى أي حد كان تدهور الأفكار، وانحطاط الأخلاق عند الأوروبيين الذين كانوا أشبه ما يكونون بقطاع الطرق الذين يسطون على القوافل، تماما كما نشاهد في أفلام “الويستيرن” اليوم.
وفي 15 نونبر 1884، ترأس المستشار الألماني الذي كان يسمى رجل الحديد والنار، بيسمارك، افتتاح أعمال مؤتمر برلين، بحضور وفود عن ألمانيا، النمسا، بلجيكا، الدانمارك، إسبانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، إنجلترا، تركيا، إيطاليا، هولندا، البرتغال، روسيا، السويد، والنرويج، لإمضاء اتفاق برلين الذي يشخص وينفذ فكرة الإمبراطور ليوبولد الثاني.
ولأخذ فكرة عن مؤتمر يرأسه بيسمارك، يكفي أن نعرف أن هذا الرجل لم يتناقض مع نفسه يوما، ولم يتورع عن تبني سياسة الاستعمار والتوسع.. فقد كان في مؤتمر برلين كالذئب الذي يترأس ندوة الخرفان، لماذا؟ لأن السيد بيسمارك الذي يمتاز بأنه المستشار الألماني الوحيد الذي منع حرية الصحافة، سبق له قبل أن يخطط لاحتلال إفريقيا، أن احتل قطعتين من فرنسا نفسها سنة 1870، وهما اللورين والألزاس، وذلك بعد أن احتل النمسا وأدمجها في ألمانيا، واحتل طرفا من الدانمارك.
وبهذا الموجز عن فلسفة بيسمارك في الحياة، نكون قد عرفنا أي نوع من المرق طبخ فيه مصير المغرب، وعلى هذا الأساس تأسست الجمعية الاستعمارية الجغرافية الإسبانية وحضرت، بتنسيق كبير من رزنامة الاستعمار الأوروبي في برلين، مشروعها الجهنمي لاحتلال الصحراء الغربية.
وبعد أيام من إمضاء اتفاقية برلين في بداية نونبر 1884، كانت إسبانيا أول منفذ لنصوص الاتفاقية.
ففي 26 نونبر 1884، كتبت الحكومة الإسبانية إلى الدول الممضية على اتفاق برلين، تعلمها بأن دراساتها جاهزة، وأن علماءها وخبراءها متواجدون في منطقة وادي الذهب، وأنها بالمناسبة تعلن أن المنطقة حماية إسبانية.
وعرضت الشركات الإسبانية على ألمانيا المساهمة في استغلال وادي الذهب، وإعطاء يد المساعدة في احتلال هذه المنطقة، ورفض بيسمارك، لا إشفاقا على المغرب، وإنما رغبة منه في عدم الدخول في مناطق هي “محط صراع بين إسبانيا وإفريقيا”، فيما بعث الملك البلجيكي عروضا إلى إسبانيا لمساهمته في غزو منطقة وادي الذهب، استمرت الاتصالات والمناورات إلى أن أعلنت الحكومة الإسبانية، في 6 أبريل 1886، أن منطقة وادي الذهب من الكويرة إلى بوجدور أصبحت تحت نفوذ الحاكم العسكري لجزر الكناري.
في هذه الفترة، حصلت حادثة اختطاف الخبراء الألمان في الصحراء الغربية وتسليمهم للحسن الأول في مراكش، وكتابة الوزير المغربي للشؤون الخارجية المفضل غرنيط، متسائلا أمام الرأي العام البريطاني: إذا كان المعتقلون الألمان بين أيدي الملك الحسن الأول، فمن يحكم المنطقة إذن؟
لكن إذا كان الحسن الأول هو سيد المنطقة فعلا، فكيف يقف متفرجا على هذه المناورات دون أن يصدر من المهاجمين المستعمرين أي تقدير لرد فعله؟
والحقيقة، أن الحسن الأول أصبح يجد نفسه في حرب دبلوماسية مع الدول الأوروبية الطامعة كلها، وهي حرب أعلنوها أول مرة عند اتفاقهم ضده في مدريد 1880، ثم أكدوها في اجتماعهم تحت رئاسة بيسمارك في برلين سنة 1884، فهو مطالب إذن، بفتح واجهات عسكرية ضد ألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وبلجيكا، والبرتغال، وضد إنجلترا، وضد هولندا، وبالتالي، فقد كان الحسن الأول وحده ضد كل دول العالم الكبرى.
وهي وضعية تجعل ظروفنا سنة 1980 بالمقارنة، أكثر تحسنا وأسهل مواجهة مما كان عليه معارضو المغرب ومناوئوه منذ مائة سنة، آنذاك كانت الدول العظمى كلها تناوئ المغرب، أما اليوم، فإن الدول التي تتآمر على المغرب وتناوئه هي كل الدول الضعيفة الجائعة الجاهلة(…)، مع العلم أنه وقتها لم يكن هناك مجلس أمن، ولا هيئة أمم ولا جامعة عربية، ولا مؤتمر إسلامي.. باستثناء العلماء الذين اجتمعوا في مكة بعد احتلال الجزائر، وأصدروا فتوى يعتبرون فيها الجزائر جزء من الأمة الإسلامية رغم احتلالها.
ولنتصور الحسن الأول في قصره والأخبار تتواتر عليه:
– القوات الفرنسية تتهدد توات والساورة.
– القوات الإسبانية تهاجم وادي الذهب.
– القوات البريطانية تفكر في استعادة طرفاية.
– القوات الألمانية تحوم حول أكادير.
– المدافع الإسبانية تقصف الصويرة.
الإنجليز يعترفون بالسيادة المغربية على الصحراء
إن رئيس الدولة في ظروف كهاته، إنما يكون مطالبا بالحزم الكبير والدهاء البالغ متسلحا بالوحدة الوطنية لمواجهة المناورات ورد الهجمات، متوفرا على جهاز دبلوماسي عظيم للعب بأوراق المشاكل السياسية العالمية، وإثارة المشاكل بين الدول المهاجمة، وإذا لم تكن هذه الإمكانيات متوفرة لرئيس الدولة، فإن الاختيار الباقي لديه، هو رفع راية بيضاء على قصره والاستسلام.
ولكن الحسن الأول كان من الصنف الأول، وتلك كانت مشكلة المستعمرين، الذين أصبحت عنايتهم متوجهة إلى البحث عن وسيلة لتسليم الملك في المغرب لرجل ضعيف يرفع الراية البيضاء على قصره، وذلك ما شرعوا فعلا في التخطيط له حسبما سنتطرق إليه فيما بعد.
أما الحسن الأول، فقد فضل التحدي ومواجهة هذه الدول كلها، واتجه بالدرجة الأولى إلى شعبه، الشعب مصدر القوة، مصدر النفوذ، ومعقد الآمال.
وخلافا لما قد يتبادر إلى الذهن من قراءة جزئيات المخططات الإسبانية في الصحراء الغربية، فإن الحسن الأول لم يكن غائبا على الإطلاق.
وعندما جند سبعين ألف رجل وبعثهم إلى سوس لتحرير ميناء طرفاية من الاحتلال البريطاني ورفع العلم المغربي عليه، وحوله إلى ميناء لوصول النجدات المغربية إلى المنطقة الصحراوية، فإنه سجل الإصابة الأولى، وفرض احترامه على البريطانيين احتراما بقي راسخا ومهيبا، انتهى بالاتفاق المغربي البريطاني الذي هيأه الحسن الأول ولم تمهله المنية لإمضائه، وأمضاه خلفه في 13 مارس 1895، بين حكومة ملك المغرب وحكومة المملكة البريطانية، ينص فيما يتعلق بالمناطق التي كان الإنجليز يطمعون فيها على ما يلي:
((1- إن مناطق وادي درعة وبوجدور هي ملك للمغرب، وإذا قررت الحكومة المغربية السماح للشركات البريطانية بإقامة بعض المشاريع التجارية، فإن هذا لا يعني أي تدخل في سيادة المغرب على المناطق الواقعة بين وادي درعة وبوجدور.
2- وبناء على هذا الاتفاق، تتعهد حكومة المغرب بأن لا تتنازل عن أي قطعة من هذه المناطق لأي دولة من الدول دون موافقة بريطانيا)).
ثم إن الحسن الأول بعد تلقينه الدرس التاريخي للبريطانيين، اتجه إلى ترسيخ نفوذه العسكري في المناطق الصحراوية، وتسليح القبائل الصحراوية، وتزويدها بالإمكانيات للضرب بعنف على أيدي ورؤوس كل من سيطؤون بأقدامهم أرض الصحراء، وكان هذا الحل هو الحل، فإن الطامعين لا يتوقفون إلا عندما يجدون أطماعهم تتكسر على صخرة قوية.
وبعد أن اطمأن على أن كل المنشآت العسكرية قد استقرت، خرج من مراكش وتوجه إلى الحدود الصحراوية للمرة الثانية، ووصلها في 16 مارس 1886، وكانت رحلة تاريخية مرت في ظروف عصيبة، لأن المناورات الأجنبية في الداخل كانت تعادل حجمها على الحدود.