الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | وزير خارجية المغرب “يهزئ” الدبلوماسية البريطانية سنة 1889

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 36"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    يتذكر الحسن الأول أن الإسبان أرادوا استغلال هذا الاتفاق أسوء استغلال عندما بعثوا سنة 1865، أي ثمان سنوات قبل أن يصبح الحسن الأول ملكا على المغرب، بعثوا رجل نفوذهم جوكان كاتيل، في رحلة إلى بوجدور، حيث قام بدراسة سياسية للمنطقة، وفتح الطريق لبعثات أخرى لقيت من المغرب المعارضة المطلقة.. معارضة استمرت سنوات عديدة، حتى طرحت أمام أنظار الحسن الأول عندما وصل إلى بوابة قصره عميد السمارة، الشيخ ماء العينين، ممسكا بأغلال وسلاسل ربط في أطرافها أربعة من الأسرى الإسبان، ضبطهم ماء العينين متلبسين بتهمة التدخل في شؤون إقليم الساقية الحمراء، وكان هذا في سنة 1883، أي في عز المناورات الاستعمارية ضد المغرب، مما جعل الحسن الأول يفرض ذعائر على الأسرى الإسبانيين أدوها قبل أن يطلق سراحهم.

وهي معارضة استمرت حينما أراد النبيل البريطاني، السير وليام كويبي كرين، امتحان رد الفعل المغربي على ما اتفق عليه المستعمرون في اجتماع برلين الذي عقد في سنة 1884 كما سيأتي فيما بعد، فتصدى النبيل البريطاني للدفاع عن سبعة أسرى ألمان اعتقلهم جنود ماء العينين في إقليم الساقية الحمراء، وكتب النبيل البريطاني إلى الحكومة المغربية يشكك في نفوذها على المنطقة، ومستعملا الأسلوب المتحايل المعروف بإطلاق أفكار ودعايات مبتورة للحصول على الصيغة الحقيقية، فانطلقت رسالة النبيل البريطاني من تقديره بأن ماء العينين خارج عن نفوذ الملك، وأنه ليس للحسن الأول نفوذ على القوات المتواجدة في وادي الذهب، فأجابه الوزير العجوز للشؤون الخارجية، السيد المفضل غرنيط، في 26 فبراير 1889، يقول له في رسالة نشرت في كتب التاريخ بجميع اللغات: ((إنكم تدعون أن القوات العالمية لا تعترف بالنفوذ المغربي للمناطق الواقعة جنوب واد درعة، فلتعلموا أن هذه القوات تعرف هذا حق العلم، وبعثت رسائل للسلطان تؤكد هذا الاعتراف.

والحجة البالغة على هذا النفوذ، هي أن الأسرى الألمان السبعة تم تسليمهم لحكومة السلطان، ولو لم يكن له نفوذ على هذه المنطقة فكيف كان له أن يتسلم هؤلاء السبعة من النصارى؟)).

إذن، فقد كان الحسن الأول فارضا نفسه وسياسته وإرادته ووحدة بلاده.

ونعود سريعا للنهل من معين أمجاد الحسن الأول وهو يواجه المخططات الإسبانية المفضوحة لغزو الصحراء الجنوبية، بعدما تعلمنا من خططه في مواجهة وضعية الصحراء الشرقية، ومخططاته في القضاء على المناورات الاستعمارية داخل التراب الوطني.

مؤتمر مدريد 1880

    والذي يقفز للأعين هو أن كل التحركات الإسبانية كانت موازية ومطابقة للمخطط الاستعماري الدولي، الذي كانت مدريد مسرحا له في إطار اتفاقية مدريد، التي كان المغرب مضطرا للدعوة إليها وفقا لتفاحش الفوضى الدولية في تسليم الجنسيات الأجنبية لضعاف الإيمان من المواطنين المغاربة.

ولم تسفر جلسات مؤتمر مدريد التي انفضت يوم 3 يوليوز 1880، عن أي نتيجة بالنسبة للمغرب.

فإن الاستعمار تكلم لغة واحدة، وكان متفقا على مخطط واحد بينما كان المغرب الممثل في شخص وزير خارجيته بركاش، لا يمثل إلا واحدا مقابل اثنتي عشر دولة هي: فرنسا، ألمانيا، النمسا، بلجيكا، إسبانيا، الولايات المتحدة، بريطانيا، إيطاليا، هولندا، البرتغال، السويد، والنرويج.

إن مؤتمر مدريد الذي أراد المغرب أن يجعل منه مناسبة لفضح الفوضى الاستعمارية بالمغرب ووضع حد لها، حولته القوات الدولية المتعددة الأحلاف، إلى مؤتمر للاتفاق على ضرورة حماية المصالح الدولية بالمغرب.

وانفض المؤتمر، وعاد كل وزير وكل ممثل للدولة المشاركة إلى دولته وفي حقيبته نسخة من اتفاق مدريد، وفي عقله تأويل يطابق المخططات الاستعمارية لكل الدول المشاركة في المؤتمر.

وكان التأويل الفرنسي يتطابق ومخطط فرنسا في غزو الصحراء الشرقية، وكان التأويل الإسباني يتطابق والمخطط الإسباني في احتلال الصحراء الغربية، وكان التأويل المغربي يتطابق والفهم الواقعي والإيجابي لمواقف الدول.

وفهم الحسن الأول أن المعركة إنما هي في بدايتها، وأن ما عاناه مدة عشرين سنة من الملك، إنما كان تمهيدا لبداية المؤامرة.

تفاصيل احتلال الصحراء الغربية

    لقد سبق الحديث في سياق التغلغل الاستعماري الفرنسي في وهران، عن تزعم النائب الفرنسي أوجين إتيان، لـ”الحزب الاستعماري” وضغطه على البرلمان الفرنسي لإعلان الحرب على المغرب واحتلال توات والساورة كطريقة وحيدة لاستغلال مناجم الفضة في الإقليم الصحراوي الشرقي.

فلا داعي لاستغراب الحسن الأول، مثلما لا داعي لاستغرابنا، إذا وجدنا أن الإسبانيين نقلوا عن الفرنسيين نفس المخطط، ونفس العناصر، لتحقيق نفس الأهداف في الساقية الحمراء، مع فارق بسيط وهو أن الإسبان كانوا يطمحون إلى فرض نفوذهم على شواطئ الساقية الحمراء ليحولوا المنطقة البحرية إلى بحيرة خاضعة لنفوذهم يمتلكون غربها وهو الجزر الخالدات، ويعملون كل ما في وسعهم لامتلاك شرقها وهو الصحراء الغربية.

وكان الإسبانيون وهم يمارسون مناوراتهم وهجماتهم واتصالاتهم واتفاقياتهم، يواجهون الدولة المعنية، وهي دولة الحسن الأول، وكل كتب التاريخ الفرنسي والإسباني والإنجليزي والإيطالي والبرتغالي تنقل نفس الأحداث، وتتحدث عن نفس العناصر والأشخاص.. فلماذا يا ترى لم نجد أي واحد منهم يتحدث عن أطراف معينة أخرى؟ وهل ورد من أي واحد منهم حديث عن شيء اسمه الشعب الصحراوي؟ وهل ثبت أن أي مؤلف أو رحالة أو ضابط عسكري إسباني تحدث عن طرف آخر، أو فاوض طرفا آخر غير حكومة الحسن الأول؟

ألم يتم نقل الجواسيس الألمان الأسرى من بوجدور مخفورين بجنود ماء العينين حتى فاس لتسليمهم للسلطان مركز النفوذ الشرعي في الدولة، كما كتب ذلك الوزير المفضل غرنيط إلى الحكومة البريطانية في حين حصول الحادث؟

تعددت الأسباب والاحتلال واحد

    إن ملخص التحركات الإسبانية في طريق احتلالها للصحراء الغربية، كان ينطلق من وصية الملكة الإسبانية إيزابيلا الكاثوليكية، بالدعوة إلى تنصير الشعب المغربي وفرض الديانة المسيحية عليه غسلا لما يعتبره الإسبان “عار الاحتلال الإسلامي لإسبانيا عدة قرون”.

واتضح للمسؤولين الإسبان أن دولة المغرب أقوى وأعظم من أن يفرض عليها أي جيش مهما بلغ عتوه، دينا غير الإسلام، وانطفأت شعلة الدعوة المسيحية الإسبانية نهائيا في أيام الحسن الأول.

واتخذت شعلة أخرى مطبوعة بالطابع الاستعماري الاقتصادي طريقها إلى الوجود سنة 1878، حيث أعربت إسبانيا عن رغبتها في التعاون مع المغرب، والحصول على ميزات اقتصادية.

لكن مجموعة من السياسيين والاقتصاديين الإسبان، نواب مدن مالقة وقادس، كانت لا تحبس ريقها أمام ما تزخر به شواطئ المغرب الجنوبية من خيرات سمكية، وانبرى الوزير الإسباني المفوض بطنجة، السنيور روميا، لتزويد الصحف الإسبانية بمقالات ملتهبة كلها دعوة إلى أفكار إيزابيلا الكاثوليكية، وعلى طريقة النائب الفرنسي إيتيان، انبرى نائب إسباني آخر في البرلمان، إلى ضرورة احتلال الصحراء الغربية، وكيف لا يدعو لذلك وهو الرئيس المدير العام للشركة الإسبانية للصيد البحري والتجارة المسماة “أطلس”؟

بينما كان العسكريون في سبتة ومليلية مثل العسكريين الفرنسيين في وهران، يدعون إلى تقوية الوجود العسكري الإسباني في هاتين المدينتين وجعلهما منطلقا لاحتلال مزيد من الأراضي المجاورة لسبتة ومليلية، وبذلك يتم شغل الحسن الأول عما يجري ي الصحراء الغربية وشواطئها من تحركات إسبانية مكشوفة ومفضوحة، لو حصلت مثيلاتها اليوم لهب الرأي العام الدولي لفضحها، لأنها كانت أقرب إلى القرصنة من أي شيء آخر.

أما الاستعماريين الإسبان، فقد كانوا يتسابقون إلى تأسيس الشركات التجارية للصيد البحري، ثم يتم تجميع الشركات الصغيرة في شكل مجموعات اقتصادية تدعمها الأبناك، وبالتالي، تصبح المصالح الاقتصادية في مدريد خير مدافع عنها. لقد أسس المركيز فيلوما وكالي “شركة الصيد الكاناريو إفريقية”، ثم تأسست شركة أخرى في برشلونة تحمل اسم “الكومبانية الإسبانية الإفريقية”، واتفقت الشركتان فيما بينهما، وانضم إليهما “الجهاز البحري للبواخر” الذي يرأسه لوبيز، وأسفر هذا الاتفاق عن تأسيس “الشركة الإسبانية العابرة للمحيط”، التي يدعمها البنك العام لمدريد برئاسة موريط.

وهذا المركب العظيم لـ”التروست” الإسباني، إنما كان الصورة الصغيرة للأطماع الإسبانية في إفريقيا، وإفريقيا في العقلية الإسبانية هي الصحراء الغربية وشواطئها المواجهة للجزر الخالدات، بل إن هذا “التروست” لم يكن في الحقيقة إلا المهد الذي تربت في أحضانه العقلية الاستعمارية الإسبانية.

لكن الحسن الأول لم يكن يضره في شيء أن تتأسس شركات مهما كان عددها في إسبانيا، مادام الأمر لم يتعد هذه الحدود.

فقد كانت المناطق الشاسعة في الساقية الحمراء ووادي الذهب محروسة بأبنائها بينما يتولى جنود المغرب اعتقال كل من تسول له نفسه النزول على أرض المغرب أو الدخول له عن طريق أخرى غير الموانئ المعروفة والمحروسة.

وإذا كان الأمر يدعو للمناورة، فإن الحسن الأول لا يعدم وسائله الكبرى، وطرده للاستعماري ماكنزي من طرفاية إنما كان تنبيها لغيره ممن يحسبون الحسابات.. إلى أن حصل الحادث الذي أكد العزم الإسباني على الإقدام على تنفيذ أحلامهم.

ففي خريف 1883، أي بعد ثلاث سنوات على اتفاق مدريد، عقدت “الشركة الجغرافية في مدريد” مناظرة للجغرافية التجارية والاستعمارية، وأسفرت هذه المناورات على تأسيس “شركة الإسبانيين الأفارقة المستعمرين” أو بصيغة أخرى صورة طبق الأصل لـ”الحزب الاستعماري”، الذي أسسه كما أسلفنا أوجين إيتيان في باريس ووهران.

وعقدت “الشركة الحزب” يوم 30 مارس 1884، تجمعا كبيرا في مسرح الحمراء في مدريد، واستمر المؤتمر في أبحاثه ودراساته إلى أن عقد جلسة أخرى في جوان 1884، لتحرير ملتمس رفعوه إلى البرلمان الإسباني “الكورتيس”، يطالبه فيه بتقديم الدعم لـ”الشركة الإسبانية الإفريقية”، لتنفيذ برامجها في إفريقيا باحتلال شواطئ وادي الذهب.

وبالمناسبة، أسس التجمع صحيفة للدفاع عن أفكاره والضغط على الرأي العام الإسباني.

وبعد سنة من تقديم الملتمس الاستعماري إلى “الكورتيس” الإسباني، دخل الحزب الجديد في تنفيذ مشاريعه، حيث كلف إيميليو بونيللي، بالقيام برحلة إلى وادي الذهب على رأس بعثة تجارية وسياسية وصلت إلى وادي الذهب يوم 28 نونبر 1884، للبدء في إمضاء الاتفاقيات التجارية مع بعض أعيان المنطقة، الذين كان بعضهم عملاء للإسبان محضرين مهيئين لهذه الغايات مثلما كان للفرنسيين عملاء أمثال بوعمامة والكندافي.

يتبع

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى