الحقيقة الضائعة | أصول العلاقات بين الشيخ ماء العينين والحسن الأول
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 35"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
كان الشيخ ماء العينين، ولازال أحفاده إلى اليوم، سيد المواقف وصاحب النفوذ الروحي والعسكري والاقتصادي المطلق على المنطقة الممتدة بين وادي السنغال ووادي نون، مستمدا نفوذه مباشرة من السلطان، ومتنازعا هذا النفوذ مع أمراء الترارزة الذين كانوا ينافسونه في هذه القوة وفي ارتباطه بالعرش بينما كان همه الأول، فرض نفوذه الروحي على سكان الشمال في فاس ومراكش.
وماء العينين أصلا هو الشريف مولاي أحمد محمد الفاضل، أطلق عليه الناس اسم ماء العينين حبا ووفاء واعتزازا لا يضاهيه إلا ماء العينين، والماء أغلى شيء في الصحراء فأحرى ماء العينين.
ولد الشيخ ماء العينين في إحدى خيام الصحراء سنة 1838، وخلف هذا التاريخ المجيد العظيم بجانب ثلاثمائة كتاب ألفها في العلم والفقه والميتافيزيقيا.
ومولاي أحمد الفاضل أحد تلامذة الزاوية القادرية – فلننظر إلى التبادل الكبير في الاتجاه المعكوس – تتلمذ عليها في مولاي بوعزة، وفي “بقية”، وعندما أنهى تعليمه بهذه الزاوية، توجه إلى مسقط رأسه لتأسيس زاويته “الكودفية” وأسلوبه الخاص في تلاوة الذكر، ونظرياته الجديدة في تطوير وسائل الدعوة للإسلام، وتخصص في الصوفية وألف الكتب العديدة، واختار للدعوة لآرائه، قلب المناطق الصحراوية استراتيجيا في موقع يتوسط المنطقة التي اختارها لاستقراره، بالتقريب ما بين وادي نون ونهر السنغال، حيث وضع ترحاله عند وادي سمارة الواقع بين وادي الغاز ووادي الساقية الحمراء.
ولم يكن ماء العينين محمد الفاضل عالما فقط، فقد كان العلماء منذ مائة سنة مجاهدين في سبيل الدعوة للإسلام، ولا يمكن أن يكون العالم مجرد رجل يتكلم ويتكلم، ويعلق ويفسر، وإنما العالم هو الذي يقرن القول بالعمل، ولذلك كان ماء العينين عالما مجاهدا مقاتلا فارسا، وسيد قومه.
في سنة 1973، ألف الكاتب البريطاني ستيوارت، كتابا عن موريتانيا وصل فيه إلى الاستنتاج الحتمي، وهو أن “الثورة العربية في نهاية القرن التاسع عشر كانت متمثلة في الشيخ ماء العينين في السمارة والشيخ محمد علي السنوسي في جغبوب بليبيا”.
وقد خلف في بداية مهمته العظمى، عدة أولاد كان لهم الدور الفعال في حمل رسالته وتبليغ أمانته، أشهرهم وأعظمهم، الشريف سعد بوه، الذي اختار تبليغ رسالة أبيه والدعوة إليها في شنقيط.
وأحمد الشمس، الذي اختار الشمال فأسس في مدينة فاس زاوية كان أبوه الشيخ ماء العينين ينزل بها عندما يأتي لمقابلة الملك أو تقديم الولاء أو الهدايا في الأعياد، كما نبغ من أولاده مولاي أحمد الهيبة، الذي ذاع صيته تحت اسم مولاي الهيبة في شمال المغرب، وكانت له مع الاستعمار حروب سجال.
وقد عايش ماء العينين عصر الحسن الأول، وكانت المراسلات فيما بينهما لا تنقطع، وهذا ما يفسره ذلك الاهتمام الخاص الذي كان يوليه الحسن الأول للجزئيات الحساسة في مناطق الساقية الحمراء، التي كانت روحيا تحت تأثير ماء العينين، فنجد الحسن الأول يصدر ظهيرا محفوظا في الوثائق الملكية اليوم تحت رقم 473، ينص على ما يلي:
((يعلم من كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره، أننا بحول الله جددنا لحملته مجاط المعروفين بأصحاب المعيزات، حكم ما بأيديهم من ظهيري سيدنا الجد رحمه الله، ومولانا الوالد قدسه الله، المتضمنين توقيرهم واحترامهم والبرور بهم وإكرامهم، فلا تخرق عليه عادة ولا يحدث في جانبهم نقص أو زيادة، والواقف عليه من عمالنا وولاة أمرنا يعلمه ويعمل بمقتضاه.
الحسن الأول)).
وقبيلة أصحاب المعيزات مشهورة في الساقية الحمراء.
وكانت هذه الرسالة مؤرخة سنة 1875، بينما بعث الحسن الأول رسالة أخرى سنة 1878، وبالضبط مؤرخة بـ 10 ربيع الثاني 1295، موجهة إلى الشريف الشيخ الحبيب بن بيروك التكني، شيخ قبائل التكنة المشهورة في إقليم الساقية الحمراء، والتي لا شك أن جذورها منطلقة من منطقة تاكنت في شنقيط غير بعيد من نهر السنغال، يقول الحسن الأول:
((وبعد،
فلقد وصلنا كتابك وعرفنا ما فيه، ووصل ولدك أصلحه الله ومن وجهت معه، ونابوا منابك في المثول بحضرتنا العالية وتجديد العهد بها، وأدوا ما وجهت معهم من الهدية كثر الله خيركم وشكر بكم وعوضكم خلفا، وعلمنا ما ذكرت من التزامك خدمة جنابنا العالي بالله بالنصيحة والقلب والقالب، فقد جريت في ذلك على نهج والدك وصالح سلفكم أصلحك الله ورضي عنك، فإن داركم دار صحبة وخدمة ونصيحة، ولا نزال نراعي محبة أسلافكم وخدمتهم مع أسلافنا الكرام.
كما علمنا ما نبهت عليه في شأن المصالح الثلاثة التي ظهرت لك مما بينت فائدتها، وصار منا ذلك على بال ونحن على بصيرة في ذلك، وقد عزمنا على التوجه لتلك النواحي بأنفسنا إن شاء الله، بقصد تفقد مصالحنا وترتيب أمورها، وما أخرنا عن التوجه في هذا الوقت إلا ما بلغنا عنها من حبس الأمطار، وقلة الخصب، وارتفاع الأسعار، ونحن على نية ذلك عند ظهور الخصب بها وتيسر المرافق، وحينئذ ننظر في ذلك، وما شرح الله له الصدر نأذن لك فيه بحول الله، وقد طالعنا ما كتبت في شأنه من مطالبك في كتاب كاتبنا السيد موسى بن أحمد ونفذنا لك ذلك كله، والسلام.
الحسن بن محمد)).
وهذه الرسالة تفسر الآمال التي كان يعقدها الحسن الأول على زيارة الساقية الحمراء، وإنما يفسر بكل صراحة العائق بينه وبين القيام بها، معطيا تفاصيل جلية عن الأسباب التي تمنعه من هذه الزيارة، مما يبرهن به لسكان التكنة في الساقية الحمراء، على أن لديه جهازا يتتبع أخبار دولته بكل جزئياتها بما فيها احتباس الأمطار.
فكيف يخطر على البال أن يهتم ملك الدولة بأحوال الطقس في إقليم من أقاليم دولته ويتغافل عن أحوال الطقس السياسي؟ وكيف سيكون رد فعله إذا سمع أن هناك خطرا يهدد واحدة من هذه الأقاليم؟
بداية المناورات الإسبانية في الساقية الحمراء
لقد كانت المناورات الاستعمارية الإسبانية تطفو على وجه الأحداث في نفس السنة التي كاتب فيها السلطان أحد شرفاء الإقليم، يبادله الود والوفاء، حينما وصلته رسالة من عامله في الساقية الحمراء، الحبيب بن مبارك الوادنوني، الذي كان يمارس مهمته السلطوية كعامل مسؤول حريص على فرض النظام وحماية الإقليم، ويعتقل كل المتسلطين والأجانب المتجسسين، توصل برسالة من القنصل الإسباني في الصويرة – موجهة إلى العامل – ينصحه بالكف عن اعتقال الرعايا الإسبان المتجولين في الساقية الحمراء، فاستغرب العامل وصول أوامر إليه من قنصل دولة أجنبية، واستغرب أيضا ما جاء في رسالة القنصل الذي يدعي أن سلطان المغرب محمد الرابع، أب الحسن الأول، قد تنازل لإسبانيا عن ذلك الجزء من الوطن، وكتب العامل إلى الحسن الأول موضحا استغرابه وطارحا أسئلته، فأجابه الحسن الأول فورا بالرسالة التالية، وهي مؤرخة بثالث محرم 1294 الموافق لسنة 1878، يقول الحسن الأول في رسالته المحفوظة بالوثائق الملكية تحت رقم 486:
((وبعد،
فقد وصلنا كتابك، وعرفنا ما أخبرت به من كتب قنصل الإسبان بالصويرة لك بالقبض على الخارجين منهم في الساحل، وكتبهم لك أيضا بأن تحت أيديهم كتاب سيدنا الوالد قدسه الله بأنه رفع يده عن ماسة ووادي نون والصحراء، ولا يتكلم فيها، وتركهم يفعلون مع أهلها ما يشاؤون، وطلبت بيان ما يكون عليه عملك في ذلك.
أما تسليم سيدنا رحمه الله المسلمين مطلقا، أحرى من هم من رعيته، فلا أصل له، ولم يكن، وحاشى وكلا، ومعاذ الله أن يصدر منه ذلك.
وأنتم عندنا بالمنزلة التي كان فيها أسلافكم عند أسلافنا قدسهم الله، لأن داركم دار خدمة ومحبة خلفا عن سلف، فلا يفوتكم بحول الله، وحتى من جاد منكم عن تلك الجادة ورجع، نقبله ولا نسلمه، والسلام.
الحسن بن محمد)).
فكيف سيكون رد القنصل الإسباني عندما يبلغه عامل الحسن الأول، بأن هذا الأخير ينكر بتاتا أي تنازل لأبيه عن أي شبر من أراضي مملكته للإسبان؟
والحسن الأول كان يعرف ما تتركه قراراته ومراسلاته من أصداء في أوساط الإسبان، ولكنه كان يركز قراره على نصوص دولية معترف بها، فلم يكن بالطائش ولا بالرجل الذي يتخذ القرارات جزافا وتحت تأثير العواطف.
إنه يعرف حق المعرفة مدلول الفصول التي يتضمنها اتفاق 28 ماي 1767 بين ملك المغرب وملك الإسبان، والتي تنص على أن “المملكة المغربية تسمح للرعايا الإسبان بإصلاح مراسي الشواطئ المتواجدة في منطقة واد نون”، والإصلاح لا يعني إلا اتفاقا تجاريا يقضي بتقديم خدمات قبلت إسبانيا القيام بها في أرض خارجة عن نفوذها.
وربما ينطلق الإسبانيون والقنصل الإسباني في الصويرة، من نصوص الاتفاق الثاني، اتفاق 26 أبريل 1860، والذي أمضي في تطوان، وينص بالحرف على ما يلي: ((إن المغرب يسمح للإسبانيين بإقامة منشآت للصيد البحري في المنطقة)) وهذا لا يسمح للإسبان بمزاولة أنشطة دفعت العامل إلى اعتقال بعض جواسيسهم.