الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المناورات الإسبانية في الساقية الحمراء ووادي الذهب

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 34"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    كان الحسن الأول في دجنبر سنة 1893، على موعد في مراكش مع المارشال الإسباني مارتينيز كامبوز، ولذلك قطع رحلته إلى الصحراء الشرقية، حيث كان راغبا في مواجهة مرتزقة الاستعمار الفرنسي.

ولكن ثقل مهامه وكبر آماله أنساه وعكته في تافيلالت بعد نقاشه الحاد مع العامل المتخاذل باحسون، وأنساه الانحراف الحاد الذي أصابه وهو في طريقه إلى مراكش يجتاز جبال الثلج على صهوة جواده، أنساه صحته وأنساه المثل القائل: “العقل السليم في الجسم السليم”، وأنساه حتى الحديث النبوي القائل: “إن لبدنك عليك حقا”.

ولكنه فوجئ عند وصوله إلى تلوات، بأن عميد قبائل كلاوة، أحمد المدني الكلاوي، قد قدم من براهين الوفاء ما لا يضاهيه شيء.. لقد كان أحمد الكلاوي يعبد الطرق للركب الملكي، ويزيل الثلوج ويرتب المواقف، وفي تلوات استقبل أحمد الكلاوي ومعه أخوه الصغير التهامي الكلاوي، استقبلا الحسن الأول بحماس ما له نظير. التهامي الكلاوي الذي كان له مع الحسن الثاني ومحمد الخامس تاريخ كبير..

ولم يكن الحسن الأول بالرجل الذي يتجاوز أو يتناسى، فقبل أن يغادر تلوات عين أحمد الكلاوي نائبا لعامل الإقليم، وأهداه مدفعا من أحدث المدافع في ذلك الوقت، مدفع من نوع “شنايدر” وصناديق من الأسلحة الخفيفة والعتاد.

إن هداياه كانت تعبر عما يخالج صدره وكأنه يقول للمحظيين: “تسلحوا إن العدو يتهددكم”.

لقد كان مستعدا كامل الاستعداد في مراكش، رغم المتاعب والصعاب، لفتح واجهة جديدة بكل شجاعة وجرأة، واجهة المناورات الإسبانية في الصحراء الجنوبية، الساقية الحمراء ووادي الذهب وشنقيط.. فهل كان محقا أم مخطئا؟

هل كان محقا في ربط مصيره بالصحراء الشرقية والجنوبية، ووحدة التراب الوطني، أم كان مخطئا في الاستهانة بالأمراض التي تنهك جسمه منذ حادثة تافيلالت ووعكة تنية الكلاوي؟

المهم بالنسبة للتاريخ.. بالنسبة لنا، أنه كان مخطئا في الاستهانة بصحته، لأن إصابة تافيلالت ووعكة مراكش هي التي أودت بحياته وحرمت الأمجاد المغربية من رجل كان محقا في كل تصرفاته، وعندما أقول أودت بحياته، فإنني أفتح قوسا كبيرا، لأن غموض ظروف موته إنما كانت مرتبطة بضعف صحته كالأسد الجريح يسهل اصطياده.

لقد أعطى للمارشال الإسباني كامبوز أربعة ملايين من الريال تعويضا للقتلى الذين حصدتهم بنادق الريفيين في ضواحي مليلية، وطارت أفواج الحمام التي كان كامبوز قد أحضرها معه محملة برسائل الاتفاق، ووصلت أفواج الحمام إلى مدريد تنقل الخبر السعيد، خبر حصول إسبانيا على ثمن جنودها الذين ماتوا في حربهم مع الريفيين، لكن الحسن الأول فتح مع المبعوث الإسباني ملف المناورات الإسبانية في الصحراء الجنوبية، وكان ملفا ضخما للغاية.

الملف الإسباني المغربي سنة 1880

    ربما فرضت علينا الظروف الحاضرة للواقع السياسي المغربي، أن نتحدث بتحديد عن المناطق الصحراوية فنشير إلى أنها شرقية أو غربية، أما منذ مائة سنة، فقد كان التعبير يختلف: الصحراء هي ما حوالي سجلماسة وتافيلالت، أما في الشرق، فهناك توات والساورة، وأما في الجنوب، فهناك شنقيط والساقية الحمراء.

وكان السكان يعرفون بانتمائهم لقبائلهم، فشرقا الخنافسة والغنانمة وغيرهم، وجنوبا أولاد دليم والشناقطة وغيرهم، ومن هذه الزوايا، كان الحسن الأول ينظر إلى رعاياه ويحدد مواقعهم ويقرر الخطوط العريضة لتنظيم شؤونهم.

ولا شك أنه، وهو الرحالة الكبير الذي وضع عرشه على صهوة جواده، كان يتوق إلى زيارة كل أرجاء مملكته، وهو الذي سار في جديته وعظمته على طريق جده المولى إسماعيل.

وإنما سار على طريق ذلك الملك العظيم الذي طبقت سمعته الآفاق، والذي خلف المملكة الواسعة المترامية الأطراف، وربما كان الحسن الأول يستلهم منه العظمة أو يطمح إلى أن يكون على المستوى، خير خلف لخير سلف.

ولعل المولى إسماعيل كان أكثر نشاطا وحركة من الحسن الأول، إذ أنه بعد أن أسس جيشا تعداده مائة وخمسون ألف رجل مكونين في أغلبهم من الصحراويين الذين كان لونهم الأدكن يجعل العامة تسميهم بالعبيد، وهو لقب ارتبط بالأوائل منهم على عهد السلطان أحمد المنصور السعدي، وزاد عليهم المولى إسماعيل الكثير من أبناء عمومتهم، وعندما أراد الدفع بهم إلى الجهاد، أبى إلا أن يزيل من قلوبهم وأفكارهم مركب النقص الذي نتج عن تسميتهم بالعبيد، فجمع رؤساءهم وضباطهم وأحضر كتاب “صحيح البخاري” ووضعه أمامهم ووضع يده عليه وقال لهم: ((أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب، فكل ما أمر به نفعله، وكل ما نهى عنه نتركه وعليه نقاتل)).

وأصبح المولى إسماعيل وجنوده منذ ذلك اليوم عبيدا لـ”صحيح البخاري” وأطلق عليهم منذ ذلك اليوم جيوش البخاري، وهم الذين كان لهم شأو عظيم رافق المغرب في إدارته وسلطته ونفوذه، ولازالت أثاره باقية إلى اليوم.

ثم إن المولى إسماعيل ذهب أبعد من الحسن الأول، ذهب إلى أبعد نقطة في جنوب مملكته، حيث وصل إلى الخليج العذب المعروف بخليج الشمام جنوب إقليم شنقيط، حيث أشرف بنفسه على تجديد هياكل السلطة على ضفاف نهر السنغال، ووزع ظهائر التعيين التي بقي الحائزون عليها يتوارثونها أبا عن جد، وقبل أن يغادر المولى إسماعيل إقليم شنقيط، أبى إلا أن يزيد علاقته بهذا الإقليم البعيد متانة، فاختار زوجة له من هناك، بنت أحد كبار الزعماء الموريتانيين، الشيخ بكار رئيس المغافرة في قبيلة البراكنة، وهي السيدة خناثة، وهي سيدة عالمة صالحة أبهرت عصرها بعظمة تفكيرها، وبتأليفها لكتاب “التعليق على الإصابة في أخبار الصحابة”، وهو ما أهلها لأن تنال المكانة الأولى في قلب المولى إسماعيل، وقلوب المغاربة، لأنها خير نموذج للعلم في موريتانيا، فأهلها مجدها لأن تكون في القصر الملكي بمكناس أم الشرفاء، وتعطي للتاريخ المغربي الملك المولى عبد الله، جد الحسن الأول، وبذلك كان الدم الشنقيطي يسري في عروق الحسن الأول، فما أحراه بزيارة مواقع مجد جده المولى عبد الله، وجدته السيدة خناثة بنت بكار.

وقد كانت آمال الحسن الأول متمثلة في كثرة اهتمامه بإقليم شنقيط، ومراسلاته إلى توات كانت توازيها مراسلاته إلى شنقيط وما قبله أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب، وهي أثار لازالت مرسومة على الواقع الموريتاني إلى اليوم، لخصها أحد أبناء المنطقة المرموقين، الشيخ محمد بن الشيخ ماء العينين الشنقيطي الإدريسي في كتابه: “الجأش الربيط” بقوله: ((لما كان زمن السلطان مولاي الحسن الأول، رحمه الله تعالى، أتى بنفسه وجنده في العقد الأول من هذا القرن الرابع عشر، حتى وصل واد نون ودرعة وسجلماسة، وبعث سراياه إلى الضواحي حتى بلغت الساقية الحمراء محل والدنا المقدس رضي الله عنه، فأتته وفود القبائل العربية الشنقيطية ناشرين أعلام الفرح والسرور مذعنين لطاعته متشرفين بخدمته، فانقشعت بغرته الغيوم، وزالت بتدبيره الهموم، وجدد بأوامره الرسوم، وفعل من المصالح المتعددة ما هو معلوم)).

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى