الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المصالح الشخصية خطر يهدد الدولة

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 33"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    كان وصول الحسن الأول لتافيلالت حدثا ارتبكت له كل مخططات القيادة العسكرية في وهران، وكانوا موقنين بأن زيارته لقبور أجداده إنما هي خطة ودهاء، وأن مهمته كانت تتوقف في توات حيث كان متجها لإعلان الجهاد، والأحداث التي سبقت وصوله لتافيلالت، تزيد في الاقتناع بأنه كان يستعد للحرب والتوجه إلى توات.

فبالإضافة إلى الخمسة عشر ألفا من الجنود الذين رافقوه من فاس، كان وهو في طريقه إلى تافيلالت يمارس عملية تجنيد مرعبة كتب عنها بنفسه في رسالة أذاعها على الرأي العام ونشرها صاحب “الاستقصاء” وفيها يقول الحسن الأول:

((توجهنا والسعادة تقدمنا والميامين تحفنا، وصحبة ركابنا الشريف من جيش آيت مرغاد قدر كثير العدد، قوي المدد، مشتمل على ألوف من الخيل والأبطال، وليوث الحرب والنزال، إلى أن وصلنا إلى قصر السوق، فوجدنا به جيش خدامنا آيت عطة، في انتظار جنابنا الشريف لمصاحبة ركابنا السعيد المنيف، وهم في عدد عديد، وقوة ما عليها مزيد، يقربون الأربعة آلاف فارس وكلهم ليوث عوابس، ومعهم من رماة إخوانهم عدد كثير معتبر وكأنهم سيل إذا انحدر، فنهضوا مع جنابنا العالي بالله في جموعهم وكثرة عددهم وعديدهم إلى مدغرة)).

إن هذا لا يدع مجالا لدى المسؤولين العسكريين الفرنسيين للشك في احتمالاتهم، أما المرتزقة وعملاء الجيش الفرنسي، فقد كانوا يتبعون رحلة الحسن الأول بنفس اهتمام المخابرات الفرنسية، لأنهم أصبحوا يعتبرون أنفسهم في خطر، فسادهم الرعب حتى أن أحد زعمائهم، وهو قدور بن حمزة، وكان مطمئنا مرتاحا في أحضان الجيش الفرنسي، أصيب بالرعب والهلع عندما سمع بوصول الحسن الأول وبما يحيط بتنقلاته من استعداد للحرب وتجنيد للجيوش، فما كان من زعيم العملاء قدور بن حمزة إلا أن أغفل حماته الفرنسيين وهرب من الأراضي الجزائرية ودخل إلى كورارة حيث طلب من عامل الإقليم الكتابة إلى الحسن الأول وإعلامه بدخوله في طاعته.

 ومرة أخرى، يحق التساؤل: ماذا كان نوع المخطط الذي رسمه الحسن الأول وكان مصيريا بالنسبة له؟

هذا المخطط كان يقلق الفرنسيين ويثير فضولهم وحيرتهم، لأن رحلة زيارة الأجداد بكل بساطتها كانت بالنسبة للفرنسيين رحلة مصيرية، فهذا ما تشرحه هذه الوثيقة التي نشرها الزعيم الكبير محمد علال الفاسي في كتابه الأحمر، الصفحة 244، ورقم الوثيقة الرسمية هو 366.127، وهي رسالة سرية من “المسيو ديفيل” وزير خارجية فرنسا، إلى القائم بأعمال فرنسا في لندن مؤرخة بـ 2 شتنبر 1893، بضعة شهور قبل موت الحسن الأول، وتقول الوثيقة: ((.. وفيما يتعلق بالمخططات المرتبطة بالرحلة التي يقوم بها الحسن الأول الآن لتافيلالت، تفرض علينا تقدير ظروفها وتحمل مسؤولية عواقبها، حيث أنها تضمر إصرار حكومة المغرب على عدم الاهتمام بإنذاراتنا حول حقوقنا ومخططاتنا في الصحراء الشرقية وتوات جنوب الجزائر، أما اقتراحات القيادة العسكرية بالجزائر، فهي احتلال المنطقة العسكرية من حاسي الحمر والكولية وتيميمون حتى حدود فجيج، وترى تعليمات الحكومة الفرنسية ضرورة تفادي فضيحة دبلوماسية ودولية بمس الوحدة الترابية المغربية الممتدة إلى توات، لأن مشاريع حكومة الجزائر ما هي في أنظار الرأي العام الدولي إلا مسا بالوحدة الترابية المغربية واستغلاله، ولكن موقف الرأي العام العالمي، فلا يجب أن يمنعنا عن التعجيل بتنفيذ مخططاتنا وضرب تعنت السلطان (الحسن الأول) والإقدام سريعا على تنفيذ عملياتنا العسكرية في توات والصحراء الشرقية)).

المسؤولية الحكومية حمل ثقيل

    إن بعض الأحداث الصغيرة البسيطة عندما تحدث في جانب صغير من بيت صغير، قد يكون لها بحكم المصادفة، وقع خطير على الدولة في حالة ما إذا كان لذلك الحادث أي ارتباط بالدولة عن طريق شخص ما.

وبلغة أخرى، فإن المسؤولية الحكومية حمل ثقيل لا يحق معه للمسؤول أن يخلط بين الواجب والحياة الشخصية، لأن ذلك معناه خراب الدولة مهما صغرت مسؤولية المسؤول.

ودولة ينشغل المسؤولون فيها بمصالحهم الشخصية، ويذوبون في مشاكلهم الخاصة، هي بدون جدال دولة محكوم عليها بالانهيار.

إن موت مواطن عادي وعجوز يسمى الحاج محمد في أحد البيوت الصغيرة في توات سنة 1893، شغل ولده العامل باحسون عن القيام بمهمة هو مكلف بها، وكانت نتيجة هذا التهاون كارثة على المسؤول، وكارثة على البلاد في ذلك الوقت، وكارثة علينا ونحن نعيش مائة سنة بعد موت ذلك العجوز البسيط.

ووقف الحسن الأول في باب رواقه مطلا على “افراك” المضروب غير بعيد من قبر مولاي علي الشريف – و”الافراك” هو مجموع الخيام الملكية المتنقلة – وقف يسرح الطرف في الآلاف المؤلفة من الجنود الذين استحضرهم معه، والذين جندهم في طريقه، والذين كتب إلى القبائل والأقاليم يتباهى بعظمتهم ويعتز ببسالتهم، وفي نفس الوقت، كانت غصة تخنق أنفاسه.. فقد قصر المسؤول الإقليمي في الصحراء في أداء واجبه، وكان بإمكان الحسن الأول أن يغامر ويتقدم ويخوض جهاده ويتمم مهمته، ولكنه – بدون شك – كان يعرف أن ذلك سيكون عملية انتحارية مادام النصف الهام من المخطط قد فشل نتيجة تهاون مسؤول، أو ربما نتيجة خيانة.

في تلك الأثناء، كان دهاء المستعمرين الفرنسيين قد بلغ أوجه، فأشعلوا الفتن داخل المغرب، وتحاربت القبائل، وانتشر المبشرون ودعاة الإمامة، وتناحرت القبائل فيما بينها.

في غمرة هذه الأحداث، استقبل الحسن الأول وفدا من تمبكتو، جاء يطلب تدخله لحماية رعاياه من خطر التدخل الفرنسي بعد أن احتل الفرنسيون النيجر وأصبحوا يتطاولون شمالا لاحتلال تمبكتو، وهذا الاستقبال لم تشر إليه وثائق المغرب وإنما ذكره مارتان في كتابه: “أربعة قرون من تاريخ المغرب”، حيث سرد الوثائق الفرنسية.

ووقف الملك العظيم في قلب مملكته يتساءل هل يتوجه غربا، أم يتوجه جنوبا لتمبكتو؟ وهي الحيرة التي فرضها عليه الدهاء الاستعماري، وكيف لا يكون في حيرة وهو الذي أعطى لنفسه مهلة زمنية تحت ستار زيارة الأجداد ليقوم بتوجيه ضربة إلى العدو في شرق البلاد؟

وكيف لا يكون في حيرة وهو الذي ترك المغرب نهبا لتصرفات الخونة المحتمين بالرايات الأجنبية؟ وكيف لا يكون في حيرة وهو الذي رأى بعض العملاء في آيت مرغاد يعترضون طريق موكب هو على رأسه؟ وكيف لا يكون في حيرة وهو يرى تازة وفاس مهددين بتمرد الكنتافي، العميل الآخر الذي تشد ظهره في بني يزناسن قوات الاحتلال الفرنسي في وهران؟ وكيف لا يكون في حيرة وهو يرى إنجازاته العظيمة من معامل للسلاح ومعامل للسكر وتنظيم للتصدير، وصولة دبلوماسية، وطلاب مغاربة متخرجين من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا ينتظرون تعليماته للشروع في الترقي بالمغرب إلى درجات السمو والتقدم؟

حقا، إنها حيرة عظيمة عظمة الرجل المسؤول..

قطع الملك رحلته لتافيلالت

    وكان الملك الحسن الأول وهو غارق في حيرته، يدخل عليه مرسول من بين العشرات ليقدم له تقريرا عن المناورات السياسية في واجهة أخرى فتحها مستعمر آخر في منطقة أخرى، تعادل في حساسيتها واجهة الصحراء الشرقية.

ويضطر الحسن الأول للخروج من حيرته وإصدار القرار النهائي لوقف مخططه لإعلان الجهاد في الصحراء الشرقية، وقطع الرحلة الصحراوية بالكثير من المرارة لا شك، والتوجه إلى مراكش.

وصدرت الأوامر في “افراك” بالاستعداد للاتجاه لا شرقا نحو توات، وإنما غربا نحو مراكش.

وكان قرارا اهتزت له أجهزة الأخبار العالمية، ولخصته في جملة واحدة: “لقد قطع الملك رحلته لتافيلالت”.

وعندما تجمع كتب التاريخ كلها على أن الحسن الأول “قطع رحلة تافيلالت”، فإنما تنقل أصداء هذا القرار في ذلك الوقت لأنه إذا كان “رسميا” قد أعلن عن القيام بزيارة لتافيلالت لزيارة الأجداد وأنهاها وقرر السفر إلى مراكش، فلماذا يصفون قراره بـ”قطع الزيارة”؟ خصوصا إذا قارنا بين قرار الزيارة وبين أهميتها في تقرير وزير الخارجية الفرنسي كما سبق، حيث وصف هذه الزيارة بالخطورة، فقرار قطعها خليق إذن بأن يكون أخطر، ذلك أنهم كانوا يعرفون أنه في تافيلالت إنما كان في منتصف الطريق.. طريق توات، وكان الشهر شهر دجنبر، شهر البرد والشتاء، وأخبره كبير الميقاتيين (وهو الذي يقدم للملك تقريرا مركزا عن الطريق وحالتها) أن طريق مراكش مقطوع بالثلوج، وأن طريق “الفايجة” سهل، لكن موقع تنية الكلاوي مقطوع، وتنية الكلاوي هي تلوات، والناس يموتون فيه بالبرد والثلج.

ورغم ذلك، قرر الحسن الأول التوجه إلى مراكش، وكانت تلك رحلة استفحل فيها مرضه كما يمرض أو يموت كل رعاياه.

لقد كان على موعد في مراكش مع مارشال الجيش الإسباني، مارتينيز كامبوز، بعدما جاءت للحسن الأول رسالة من إسبانيا يوجه إليه بمقتضاها مارشال الجيش كامبوز للاجتماع به في مراكش في نهاية دجنبر 1893.

لقد كانت الأوضاع مستفحلة بين المغرب وإسبانيا، والإسبانيون حاولوا توسيع منطقة مليلية، والسكان الريفيون لهم بالمرصاد، وحصلت مجزرة كبرى في الجيش الإسباني في ناحية مليلية، خصوصا وأن الإسبان النصارى أرادوا احتلال منطقة ولي مقدس، هو سيدي ورياش، وهو أمر لا يقبله المسلمون، وكانت المجزرة في الإسبان، وجاء المارشال الإسباني يطلب تعويضات عن خسائره.

ثم إن هناك ملفا آخر يريد الحسن الأول طرحه بصراحة وموضوعية على أنظار المبعوث الإسباني المارشال كامبوز، في مراكش، وهو موضوع المناورات السياسية الإسبانية في الساقية الحمراء.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى