الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | وفاة السلطان بعد “إفشال” مخطط مواجهة “الحزب الاستعماري”

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 32"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    كانت حرب الفرنسيين، من أجل الفضة والأحجار الكريمة، وهو ما اتضح بعد موت الحسن الأول حينما قدم المسمى “إيتيان”، أحد أقطاب الاستعمار الفرنسي، إلى الجزائر، وأصبح حاكما لوهران، ثم نائبا لوهران في البرلمان الفرنسي، وصديقا للوزير دلكاسي، (قدم) مشروعا بإقامة خط حديدي عابر للصحراء الشرقية التزم بتمويله مع مجموعة من الأبناك وبمساهمة نائب قسنطينة في البرلمان الفرنسي، المسمى تراي، ((يربط هذا الخط بين بسكرة ووركلة في اتجاه النيجر، بينما يرغب في بدء العمل بإقامة الخط الحديدي بين عين الصفرا وبشار والساورة وتوات إلى النيجر، وذلك لتسهيل نقل الأحجار الكريمة والفضة التي وجدها فلاماند في كورارة وتوات)).

فهل مات الحسن الأول وهو لا يعرف هذا السر الطامع الرهيب؟

كل القرائن تدل على أن الحسن الأول كان يعرف كل الخلفيات، لكنه لم يكن يريد إعطاء حربه ضد النصارى الفرنسيين طابعا استغلاليا أو انتهازيا، لقد كان يحارب من أجل تراب وطنه لا من أجل فضته أو أحجاره الكريمة ولا من أجل تبره.

أما النائب الفرنسي إيتيان، فقد كان الحسن الأول يعرفه حق المعرفة.. أليس أوجين إيتيان، نائب وهران في البرلمان الفرنسي، هو الذي أسس سنة 1885، في عز حكم الحسن الأول، حزبا سماه “لوبارتي كولونيال” (الحزب الاستعماري)؟ وهو حزب كانت له سياسة ومخططات وأهداف ومبادئ توسع فيها كتاب المؤلف أندريو والمؤلفة كانيا فوريستير، وتحدث عنه شارل أندري جوليان في كتابه “المغرب في مواجهة الاستعمار” (طبع سنة 1978).

وكان الحسن الأول يقرأ تقارير هذا الحزب التي كانت تنطلق من مبدأ واحد: ((إن مشاريعنا الاستغلالية عبر المناطق الصحراوية، لا يمكن أن تتم أو تنجح إلا باحتلال توات والساورة)).

وفي سنة 1890، احتلت بريطانيا دولة زنجبار، فسارع إيتيان إلى الكي دورسي، قائلا: ((هاكم المثل.. فلنعلن الحرب على الحسن الأول، ولنحتل توات))، لكن الكي دورسي كان مترددا، وكانت في كل مكاتبه توجد خريطة من رسم أليزي روكلوس، مرسومة سنة 1885 وعليها العبارة التالية: “أوجين إيتيان”، وفرنسا لن تقدم على احتلال مناطق مغربية معترف بها قانونيا ودوليا، ومدعومة بالاحترام الكبير الذي يدين به قادة الدول العظمى للحسن الأول.

فماذا بقي إذن لزعيم “الحزب الاستعماري”، أوجين إيتيان، إلا الانتظار؟

الانتظار، وتغيير الخطة، ومادام هو حاكم وهران، فبإمكانه بث الفوضى في أقاليم الحسن الأول في انتظار التعديل السياسي في فرنسا، وضمان الغلبة لـ”الحزب الاستعماري”.

ومضى كل إلى غايته.. “الحزب الاستعماري” يناور ويبث سمومه، والحسن الأول يدافع عن وطنه، لكن المناورات الاستعمارية لم يبق معها للحسن الأول صبر، وكل التقارير التي ترد عليه تنبئ بأن المستعمرين، رغم معارضة حكومتهم، ماضون في مخططهم الرامي إلى إشعال نار الفتنة من أجل معادن الصحراء وفضتها.

المسؤولية قتلت المسؤولين

    وشعر الحسن الأول بالخطر محدقا باستقلال المنطقة، وكانت الأحداث التي يعيشها في طرفاية والساقية الحمراء، وحدود وجدة، تعطيه الدليل على أن ما يجري في توات إنما هو نتيجة حتمية لانشغاله بمشاكل مصطنعة، وفكر مليا، ثم ظهر له الحل الطبيعي، وهو القيام بزيارة للصحراء الشرقية مهما كلفه ذلك من ثمن.

لقد أصبح مقتنعا بنوايا الفرنسيين وخطورة تحركهم، وكان يتتبع بواسطة مخابراته ما تقوم به حكومة الجزائر الفرنسية من تجنيد وإغراء لسكان توات، ومن إطلاق ليدهم المحلية، المتمثلة في قبيلة أولاد سيد الشيخ وبوعمامة، الذين تسربوا في الإقليم تسرب الماء، وكان قرار الحسن الأول بالسفر إلى المنطقة نهائيا، عندما بلغ إلى علمه أن الجيش الفرنسي اختار أحد العملاء في المنطقة، وهو الحاج عبد القادر بن جودة، كمتكلم ومفاوض للفرنسيين، والحاج عبد القادر هو أخ عامل الحسن الأول في المنطقة.. لعل “الحزب الاستعماري” قد غير الخطة، ولعل إيتيان يريد وضع الحكومة الفرنسية أمام الأمر الواقع، لكن رحلة الملك إلى الإقليم الصحراوي على بعد حوالي ألفي كيلومتر من عاصمة الملك، شيء يحتاج الكثير من الاستعداد، والكبير من الحذر.

وفي 11 يوليوز 1883، كتب إلى قائد أوكروت رسالة يقول فيها: ((لقد أخبرتني أن النصارى مستمرون في البناء حوالي إقليم سلطتك، ولقد سار بالبال، إن الحوار مع حكومة فرنسا وصل حدا لم يبق معه مجال للكلام)).

وكان رجال التشريفات منكبون على الاستعداد للاحتفال بعيد الأضحى سنة 310هـ، فأوعز إليهم بالمناسبة أن يعلموا الرأي العام عن قرار السلطان بالقيام برحلة إلى الصحراء، للترحم على أرواح أجداده المنعمين.

وقد كتب المؤرخ الفرنسي مارتان في كتابه: “أربعة قرون من تاريخ المغرب”، تعليقا على هذا البلاغ الملكي وتساءل: ((ولكن زيارة الأجداد لا تحتاج إلى مرافقة جيش قوامه خمسة عشر ألف جندي)).

إن زيارة قبر مولاي علي الشريف، جد الحسن الأول، لا تحتاج حقا إلى استنفار 15 ألف جندي، ولكن هذه الزيارة لم تكن إلا تغطية لقرار الحسن الأول بالتوجه إلى الصحراء الشرقية، وطريقها الرسمية هي تافيلالت، ولذلك، يكون قد اختار الطريق الوعرة، المليئة بقطاع الطرق، وبذلك يكون قد اختار التحدي.

وكانت نماذج من العملاء المرتزقة للاستعمار الفرنسي متربصة في طريق الحسن الأول من مكناس إلى تافيلالت، أمثال علي المرغادي، وقد حاولوا إفساد رحلة الحسن الأول، لكن دون جدوى، ولقد كان موكبه كالقطار سائرا حسب توقيت معين، هدفه واضح: وقف الغزو الفرنسي للأقاليم الصحراوية، والقطار لا يتوقف حتى ولو اعترض طريقه عارض بسيط مثل علي المرغادي، الذي لم يستفق من غفلته حتى وجد نفسه مكبلا في سجن مراكش.

وزار الحسن الأول تافيلالت ووقف على ضريح جده، وصلى ووزع الهبات، وبعث ابنه عبد العزيز في القبائل لتوزيع الهدايا.. وكان جلالته يستقبل الوفود والهدايا والبعثات، لكن صفوف المدعوين كانت كثيرة بحيث لم يعرف أحد أن بين الواقفين يوجد عامل توات، باحسون، الذي استدعاه الحسن الأول للمجيء إلى تافيلالت، للاجتماع به.

وعندما أشار الحاجب السلطاني إلى العامل باحسون بالدخول على الحسن الأول، وقف الناس ينتظرون، وبغتة، سمعوا، ولأول مرة، صوت الحسن الأول ينطلق صياحا وهديرا وغيضا منبعثا من الرواق الملكي، ولم يفهم أحد شيئا.

حقيقة ما دار بين الحسن الأول وعامله في توات، هي التي ربما كانت الحرقة التي أودت بحياة الملك العظيم.

كل ما عرفه الناس، أن الحسن الأول أصيب بذلك المرض بعد تلك المعركة الكلامية مع عامل توات، وكل ما كان يجب أن يفهمه الناس، هو أن الحسن الأول جاء إلى تافيلالت في طريقه إلى الصحراء الشرقية، لمواجهة الاستعمار، وأنه حضر مخططا لتسجيل إصابة كبرى على الاستعمار، وأنه اتفق على ذلك المخطط مع عامله ورجل ثقته في المنطقة، باحسون، وأن شيئا حصل أفشل العملية، وأثار غضب الحسن الأول على عامله المتخاذل، وأن الحسن الأول أصيب بنكبة كبرى أسفرت عن انهيار جسماني كانت نتيجته وعكة صحية ستكون نتيجتها وفاة الملك العظيم بعد بضعة شهور من ذلك الحديث الصاخب، أو مبررا لوفاته.

وما كان يجب أن يفهمه الجميع من نقاش الحسن الأول مع عامله باحسون، فهمته المخابرات الفرنسية، وسجله مارتان في كتابه كما يلي: ((قبل أن يغادر الحسن الأول مدينة فاس، اتفق على مخطط جهنمي مع عامله في الصحراء الشرقية، باحسون))، وأول هزيمة للمخابرات الفرنسية أنها لم تعرف شيئا عن هذا الاتفاق.

وقد كانت المهمة التي كلف بها الملك الحسن الأول عامله في الصحراء الشرقية، تتعلق بالتوارك ولا أحد يعرف ماذا كان يرمي إليه الحسن الأول من استعمال التوارك، المعروفون عربيا باسم الطوارق.

لكن الجواب جاء مع الزمن.. بعد موت الحسن الأول، حيث اشتعلت في الهوكار، وفي إيفوغيس، وفي الغات، حرب من أعظم الحروب التي عرفها الاحتلال الفرنسي في الجزائر، أعلنها التوارك واستمرت من سنة 1889 إلى حوالي 1909، انضم فيها سكان أدرار إلى التوارك وأشعلوا الحرب ضد الاحتلال الفرنسي، وهي حرب ربما كان الحسن الأول يمهد لها وهو في طريقه إلى الصحراء الشرقية متوقفا بتافيلالت، إلا أن باحسون، عندما دخل على الحسن الأول وسأله عن نتيجة العملية، أجابه بأنه لم ينفذ مهمته، وسأله الحسن الأول لماذا؟ فأجابه العامل: “لقد مات أبي الحاج محمد وانشغلت بجنازته، وتأثرت بفقده ولم أقم بالواجب”.

لو قام باحسون بمهمته.. ولو لم يمت أب باحسون.. من يدري؟ ربما لما حدث ذلك التغير أو تلك الغضبة الملكية، وربما تم تنفيذ المخطط السري، وكانت الوضعية الجغرافية اليوم للمغرب مثلما أراد لها الحسن الأول أن تكون، وهي اليوم مثلما أراد لها الفرنسيون أن تكون.

المهم، أن الناس في تافيلالت، وفي المغرب بكل مناطقه، عرفوا من بعد أن غضبة الحسن الأول لا ترحم.

فبعد خروج باحسون من حضرة الحسن الأول، أصيب هو أيضا بوعكة ثم مات بعدها بشهور دون أن يتكلم، ودون أن يعرف أحد ما هي المهمة التي كلفه بها الحسن الأول والتي فشل فيها، المهمة التي كانت عبارة عن مخطط كان فشله سببا في موت باحسون.

فقد مات العامل باحسون مقتولا على يد قطاع الطرق، الذين كان برنامج الحسن الأول معه يقتضي التخطيط للقضاء عليهم وقطع دابرهم، لكنه تنازل عن مهمته بعد وفاة أبيه، ونسي واجبه، فذهب ضحية غلطه وتهاونه، وقتله أولئك الذين كان من المفروض أن يخوض حربا ضدهم.

وهنا يرتقي الحدث بأبطاله إلى المستوى الرفيع للمسؤولية، ويتجلى في أن المسؤولية المجردة الطاهرة كثيرا ما تقتل صاحبها، ونعم الشرف.. شرف المسؤولية.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى