الحقيقة الضائعة | السلطان في مواجهة قطاع الطرق المحسوبين على فرنسا
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 31"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
المسؤولية القاتلة
لجأت المخابرات الفرنسية المستقرة في القيادة العليا بوهران، إلى تشجيع ظاهرة قطاع الطرق الذين أخذوا ينهبون القوافل ويغتالون رجالهم ثم يختفون في ظلام الليل، وكانت الغاية:
أولا: خلق الفوضى والرعب في نفوس السكان.
ثانيا: قطع الاتصال بين الإقليم وفاس.
أما الهدف الثالث، والذي كان سرا دفينا في صدور أقطاب الاستعمار الفرنسي في وهران، فهو التمهيد للسطو على كنوز المنطقة.
وقد كان مبعوثو الحسن الأول بصفة يومية يتبادلون التحيات فيما بينهم بين رائح من فاس وغاد من توات، لكن مخطط عصابات قطاع الطرق أصبح يحول مهمة المبعوثين إلى مهمات انتحارية، مما دعا الحسن الأول إلى توسيع نفوذ أقوى قواد المنطقة، وهو القايد حسون بن الحاج، فسماه عاملا على منطقة شاسعة هي منطقة ممرات المبعوثين من أوغروت حتى تافيلالت، وتم تنصيبه في 7 فبراير 1893.
وفي 2 أبريل 1892، كانت قافلة من المبعوثين إلى السلطان قد تعرضت لفخ، وقتل كل أعضاء البعثة، فوجه الحسن الأول رسالة سرية إلى عامله، حدد بمقتضاها الممر الجديد للبعثات، وبدل أن تمر البعثات عن طريق تافيلالت رسم لها الحسن الأول طريقا آخر لا يعرف عنه قطاع الطرق والمرتزقة شيئا، وهو طريق الحايحة، وفجيج، وكتب رسالة في هذا الموضوع، بينما بعث الأسلحة إلى ذوي منيع للضرب على أيدي الغنانمة، الذين كانت تتكون منهم عصابات قطاع الطرق.
ويذكر القارئ رسالة الحسن الأول للثائر الهارب اللاجئ بوعمامة، وما تضمنته من احتياط وحذر، فقد صدق ظن الحسن الأول وافتضح بوعمامة أنه عميل فرنسي جاء لتمهيد الاحتلال الفرنسي للمنطقة، بل اتضح أن بوعمامة هو الذي يدبر عمليات قطع الطريق.
وكان المخطط الفرنسي مع بوعمامة يقضي بأن يهجم قطاع الطرق على قوافل السلطان لمنعها من السفر إليه، والهجوم في بعض الأحيان على بعض المراكز الفرنسية القريبة، ليتدخل الجيش الفرنسي لتعقب قطاع الطرق، وهو مخطط جهنمي تم تنفيذه بمنتهى الدهاء.
وادعى الفرنسيون أن تضررهم من قطاع الطرق بلغ حدا لم يبق معه صبر، وأخذوا تحت حماية قوافل هامة من الجنود، في بناء مركز للمراقبة جنوب الكولية في أراضي توات، وهو مركز إيفيل، ثم كثرت الأحداث المصطنعة، فبنى الفرنسيون معقلا آخر على حدود توات هو معقل “ماك ماهون” في منطقة “الميكيدن” وزادوا اقترابا من توات حينما بنوا معقل “ميريبيل” في تاعظيمت ودائما باسم حماية مواقعهم من قطاع الطرق.
المخطط السري للحسن الأول
إن مراجعة الأحداث والتحركات بدقة، تبلور أن الحسن الأول فكر وقدر ثم قرر، بعدما انكب بكل جوارحه على ملف الغزو الفرنسي للصحراء الشرقية، ورسم خطة لتحضير بداية الجهاد.
فنجده في 13 ماي 1893 يكتب إلى قايد دلدول في توات يقول: ((… ولقد أخبرتنا عن وصول المزيد من الناس من النواحي الجزائرية، ودائما وكما هي العادة تحت ستار التجارة، ولقد سار بالبال)).
وفي 4 جوان 1893، يكتب رسالة مفتوحة إلى سكان الأقاليم الصحراوية يقول فيها: ((لقد كلفنا عاملنا محمد وسالم بالبحث في موضوع هجوم بدو الساهلة، ومعاقبتهم)).
وفي 31 مارس 1893، كان السيل قد بلغ الزبى، وانقرض صبر الحسن الأول، وأيقن أن المؤامرة أخطر وأكبر من أن تحلها احتجاجات وزيره المفضل غرنيط، وأيقن أن الحل في الأرض، واختار أولا تحضير الرأي العام في الصحراء سياسيا، فكتب رسالتين إلى قائدي دلدول، وبرينكن، ذاتي أهمية تاريخية عظمى يقول فيهما، ونصهما الأصلي واحد: ((لقد بلغ إلى علمنا السامي أن عددا من هؤلاء المارقين الذين يدعون مزاولة التجارة والذين يغطون بذلك على نوايا السوء، ودفعوكم للكفر بدينكم، يقومون هذه الأيام بالتجول في مناطق نفوذكم بصفة سرية بحثا عن الأخبار والمعلومات للتعمق في أفكاركم، مادام واجبنا تنبيهكم وتنمية وسائل دفاعكم عن دينكم وإطلاعكم على مكائدهم، فكونوا حذرين، اتفقوا فيما بينكم، حافظوا على دينكم، تضامنوا وتعاونوا في سبيل الحق، وتفادوا الآثام والفوضى، وثقوا في الله، واتحدوا ولا تتفرقوا، وكونوا إخوة، إنكم أولا وقبل كل شيء مؤمنون بالله ورسوله والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
يا سكان توات والخنافسة والساورة، إن الإسلام الحنيف دينكم الذي ارتضاه الله لكم، فتشبثوا به واتخذوا منه وسيلة للحيطة والحذر من جواسيس الأعداء المحيقين بكم والمحيطين بأراضيكم.
إن الأوضاع خطيرة، والوقت وقت حيطة، وإن يقظة كل واحد هي الملاذ الأخير إلى أن يحين الوقت الذي ستعاقبون فيه هؤلاء المجرمين)).
فهل نعرف صراحة أبلغ من هذه، أم دعوة إلى الجهاد أفصح من هذه الرسالة التي كانت في الحقيقة رسالة الوداع أو وصية الوداع، وإنما تبرهن هذه الرسالة على انشغال الرجل بالوضع في المنطقة، وانشغاله بالخطر المحدق برعاياه الذين كانوا لا يدعون فرصة تمر دون أن يعربوا عن تعلقهم بملكهم، واحتمائهم بظله من حرارة الحرب النصرانية.
بل إن انشغاله اتخذ طابعا من الاهتمام الخاص الذي يزيد من تعقيده بعده عن المنطقة وهلعه عليها، حتى أننا نجد في سجلات الخزائن الفرنسية رسالة بعثها في هذه الفترة إلى أحد قواد المنطقة يقول له فيها: ((إن رسائلكم غامضة وخلافات آرائكم ظاهرة، فأقدموا عندنا لتشرحوا لنا وجهات نظركم)).
إنها أنواع من المصاعب التي لا تعرف لها اليوم شكلا، حيث أن الهاتف والتلكس والاتصال الإذاعي، قلب الأوضاع، وسهل الاتصال، سهولة لو توفرت للحسن الأول لكانت أوضاعنا سنة 1980 هي غير ما عليه الآن، وبدون شك.
ولكنه خلد الله ذكره لم يكن له من وسائل الاتصال إلا المراسلات يحملها المبعوثون على صهوات الجياد ويقطعون الفيافي والقفار بالليل وبالنهار، كهذه الرسالة التي عثرنا على ترجمتها بالفرنسية كاملة، والتي تعطي فكرة عن المناورات الاستعمارية في المناطق الصحراوية. الرسالة مؤرخة بـ 11 محرم 1311 الموافق 25 يوليوز 1894، وهذا نصها:
((خدامنا الأوفياء، القايد محمد وسالم والقايد عبد القادر في الخنافسة، وبعد:
لقد علمنا بواسطة رسالتكم، أن ذوي منيع، الغنانمة، ولاد سليمان، وعشاش، قد شكلوا مجموعة من الفرسان الذين ينهبون القوافل بين منطقتكم وتيدكلت، وأنكم تعقبتموهم وأدبتموهم واسترجعتم ما استولوا عليه، وأن الهاربين منهم لجؤوا لدلدول، حيث وجدوا من يحميهم ويخبئهم، وقد سار بالبال.
ولقد كتبنا للسلطات هناك بأن تبحث عنهم وتضرب على أيديهم، وأعطينا تعليماتنا لعاملنا في دلدول بالقيام بما يقتضيه الأمر)).
التراب والتبر
كان واضحا أن أسلوب قطع الطريق إنما كان من تخطيط القيادة الفرنسية في وهران استعدادا للهجمة الكبرى، هجمة أصبحت بديهية بعد أن شاع أن معادن الفضة قد تم اكتشافها بالمنطقة، وهو جانب، وإن كان اقتصاديا بحثا، فإنه ولا شك مرتبط بالسياسة وبالحرب، والحسن الأول رجل سياسة وحرب، وبحاثة، كان يريد إحاطة برامجه ومخططاته بكل الضمانات.
فبعد أن بلغه أن الأطماع الفرنسية في الصحراء الشرقية مستهدفة أيضا والاستيلاء على مناجم الفضة التي ربما استكشفها بعض العلماء، بعث إلى رجال السلطة في المنطقة يطلب عينات من الأتربة في المناجم المذكورة، ووصلته العينات فعلا وبعث بها إلى مختبرات لا يعرف أحد موقعها، وربما كانت في أوروبا، وجاءته النتائج، وكتب بها إلى قايد تيميمون في رسالة مؤرخة بـ 15 جوان 1893 يقول فيها: ((لقد وصلتنا الأحجار واتضح حسب رأي الخبراء والعلماء، أنه “لا صالحة في تلك الأحجار”، وأضاف بخط يده على هامش الرسالة الجملة التالية: “أخبر مرسل الأحجار بهذه النتائج”)).
ربما كان جانب اكتشاف الفضة حقيقة واقعية تدعو الفرنسيين لاحتلال الصحراء الشرقية، وربما كان قرار فرنسا باحتلال الصحراء مجرد قرار عسكري فرنسي، والحقيقة أن الفضة هي في الواقع جواهر وفضة متواجدة في مناطق كورارة، وتوات، كان البحاثة الفرنسي “فلاماند” قد وجدها ورفع بها تقريرا إلى الحكومة الفرنسية في وهران، وتوصل الفرنسيون بنتائج الأبحاث، واتضح أنها حقيقية، وأخفوا الخبر عن الحسن الأول، لكنهم استمروا في محاولة احتلال المناطق.
وإعلان الحرب على الفرنسيين من طرف الحسن الأول، كان إذن، من أجل تراب الوطن، وهو ما تبرهن عنه رسالته الأخيرة التي تعبر عن يقينه أنه لا معادن للفضة في المنطقة، ولكن هذا لم يمنعه من الاستمرار في جهاده ضد الغزو الفرنسي، ومن أجل حماية التراب الوطني، سواء كان غنيا بالمعادن أو غنيا فقط برجاله.