الحقيقة الضائعة | سخط الحسن الأول على شريف وزان
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 29"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
دخل مولاي عبد السلام الوزاني إلى توات على رأس البعثة الفرنسية داعيا إلى السلم والأمن والتفاهم، وكان شكله وأسلوبه مدعاة للثقة، ومن لا يصدق الشريف المقدس مولاي عبد السلام الوزاني، ومن يستطيع مجادلته، أو الجهر بالتشكك في مبادئه، ومن يستطيع رفع القناع عن وجهه في وقت كانت الكلمة الأولى فيه للدجالين والمشعوذين، ومن هو قادر على الجهر بحقيقة هذا الشريف العالم الورع التقي النقي، غير الحسن الأول.
وكيف عرف الحسن الأول بوصوله إلى توات؟
وقد يقول قائل، ومادام الحسن الأول يشك في وطنية شريف وزان، المواطن المغربي، فلماذا لا يعتقله؟ لكن اعتقال الشريف الوزاني لم يكن أمرا ممكنا، ذلك أنه كان محميا هو وكل أفراد عائلته وزاويته من طرف الحكومة الفرنسية.
المهم، أن الحسن الأول بعث رسالة قرئت في توات والساورة، في مساجدها وأسواقها على رؤوس الملأ، وتقول الرسالة:
((خدامنا الميامين في الخنافسة وتوات وقضاتها وعلمائها؛
لقد بلغ إلى علمنا العالي بالله، أن الحاج عبد السلام الوزاني توجه إلى إقليمكم ليضلكم عن طريقكم ويدفعكم إلى تأييد حكومة أعداء الدين والوطن، وخرق المواثيق والعهود.
إننا نعرفه من قبل، لقد تنازل عن مبادئه وباع نفسه وابتعد من تعاليم الدين الإسلامي.
إننا لا نشكك في وعيكم ومعرفتكم بأن ما سيقوله لكم هو مجرد وعود كاذبة، ولنا اليقين في تشبثكم بمبادئكم ودينكم والتزامكم بالقرآن وسنة النبي عليه أفضل السلام.
ومن يطع الله ورسوله فقد رشد واهتدى، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى واعتدى وعليه غضب الله.
الحسن بن محمد
في 26 شعبان 1309 الموافق 26 مارس 1892)).
فهل هناك إدانة أكبر من هاته؟ وهل سبق لملك أن أعلن سخطه على عميل أكثر من سخط الحسن الأول على شريف وزان عبد السلام الوزاني، أم أن الحسن الأول كان مضطرا لإعلان سخطه في منتهى الصراحة، لأنه كان بذلك يصب جام غضبه على الاحتلال الفرنسي؟
وهل نتصور اليوم مدى وقع السخط الملكي على إنسان متواجد في أعماق الصحراء؟
ولم يتوقف الحسن الأول عند هذا الحد، بل وجه رسائل أخرى مماثلة ضد كل من يتفق مع الفرنسيين أو يخدم قضيتهم، كما أعلن الحرب رسميا على قبيلة أولاد سيد الشيخ الجزائرية، بعد أن انكشفت له لعبتهم واتضح له جليا أنهم مجموعة من العملاء، يلعبون ورقة الاحتلال الفرنسي ويزاولون ما يدعون بأنه الثورة لتبرير حق المتابعة الفرنسية، وبالتالي، إعطاء الفرنسيين حق الدخول للمناطق المغربية في الصحراء الشرقية.
لقد نجح المخطط الفرنسي عن طريق مناورة أولاد سيد الشيخ.. فقد أعلن أولاد حمزة وأتباع حمو بن الحاج أحمد، وأهل الكهف، وأهل محرزة، ولاءهم للاستعمار الفرنسي.
ولكن أوامر الحسن الأول بعد أن تليت في موضوع الشريف الوزاني، لم تكن لتتعارض مع تقاليد الضيافة والكرم التي عرف بها سكان الصحراء الشرقية.. فبعد قراءة رسالة الحسن الأول، وصل شريف وزان إلى واد الناموس، فوجد وفدا من أولاد عيسى قدموا له الطعام وعرضوا عليه المبيت على أن يقلع عن أراضيهم في الصباح الباكر بدون أن يبلغهم رسالته.
وكان هذا نموذجا للاستقبال الذي لقيه في كل مكان يحل به، وهو نفس المصير الذي لقيه في أولاد سعيد، وفي زاوية الدباغ، وفي تينركوك، بينما كانت كل القبائل، احتراما لشرفه، لا تسمح له بالكلام، مما جعل الضابط الفرنسي المرافق له يعتبر أن مهمته قد فشلت، وبالتالي، أن مهمة البعثة قد انتهت، وادعى الضابط الفرنسي المرض وودعه وقفل راجعا إلى الشمال، حيث التحق بوهران وترك شريف وزان يواجه الخيبة والمقاطعة.
قد يقول قائل أن حاشية الحسن الأول كان فيها من يضمر الشر لهذا الشريف التقي الورع، وأن الحسن الأول عندما جعل منه العميل الخائن المتواطئ مع الاستعمار ضد وطنه، إنما أراد أن يقدم للرأي العام الوطني فريسة بريئة، لكن الوثائق الفرنسية أعطت للحسن الأول فيما كتبته عن هذا الرجل، ما يكفي لأن يجعلنا نردد: رحم الله الحسن الأول، فإنه لم يكن يظلم أحدا، وأنه كان يعرف حقائق وطنه حق المعرفة.
لقد قدمت بتوسع، قصة التواطؤ الفرنسي مع عبد السلام الوزاني، لكن الإنصاف يتطلب مني أن أقدم ترجمة حياة شريف وزان موجزة، غنية عن كل تعليق كما كتبها بأمانة متناهية الضابط “إدمون كوفيون”، تلميذ المارشال ليوطي ومؤلف كتاب: “أعيان المغرب” في الصفحة 630 من كتابه، يقول الضابط العسكري: ((لقد كان الشريف مولاي عبد السلام الوزاني في كل الظروف والأحوال نعم الصديق الحميم لفرنسا ونعم الوفي لها، وخصوصا في حرب 1870.
وفي 16 يناير 1884، يقول الضابط الفرنسي، وبعد إمضاء “اتفاقية مدريد”، أبى الشريف الوزاني إلا أن يدخل كل أفراد عائلته شرفاء وزان في كنف الحماية الفرنسية، وأصبحوا جميعا محميين فرنسيين، وعندما لجأ للجزائر سنة 1891، اكتشفنا عظمته ونبوغه.
إنه أول من جند الوزانيين بكل شجاعة في خدمة الفرنسيين، كما أنه كان مؤمنا بأن كورارة يجب أن تخضع للحكم الفرنسي بدل الحكم المغربي، وأنها لن تعيش إلا تحت راية الفرنسيين.
ويضيف الضابط الفرنسي قائلا: بل إن الشريف مولاي عبد السلام الوزاني ذهب إلى أبعد من هذا، ففي فبراير 1892، ارتدى لباس جنرال فرنسي وقاد فرقة من “الكوم” المكونين من قبائل أولاد سيد الشيخ الذين هيأناهم له، واتجه لزيارة زاوية في توات.
لكن صحته – يقول الضابط كوفيون – لم تسمح له بإتمام زيارته، فرجع إلى وزان عن طريق الجزائر(…) حيث مات سنة 1892.
وختم الضابط كوفيون هذه الملحمة عن الشريف قائلا: ((ولقد خلف ثلاثة أولاد من زوجة وزانية، وولدين من زوجته الإنجليزية “الميس إيملاكيين” التي كانت تعرف باسم السنيورة)).
بينما بلغ التحدي بشريف وزان أوجه، حينما جاء أحد أعيان توات، وهو محمد وسالم، إلى فاس، وتوجه إلى القنصلية الفرنسية وسلمهم رسالة طلب منهم تبليغها إلى شريف وزان، معتبرا أنه مواطن فرنسي، وفي الرسالة يقول: ((كنت أتمنى أن تصل عندي إلى تيميمون لأحضر لك الاستقبال الذي يليق بأمثالك)).
وعندما توصل بالرسالة من القنصل الفرنسي، بعث رسالة إلى محمد وسالم بقيت محفوظة في وثائق الحكومة الفرنسية نسخة منها، وفيها كتب شريف وزان إلى عميد تيميمون يقول له: ((لقد علمنا بواسطة صديق الجميع، الحاكم الفرنسي بطنجة، أنك تأسفت لعدم وجودك ببلدك لما حللنا بها، وأنه لو كنت هناك لخصصت لنا المآدب والعناية اللائقة بنا، وإننا لنهنئك على ما عبرت عنه متأكدين من أن وفاءك لنا باق ولم يتغير وكما عهدناه، ونعتبر هذا استدعاء مجددا من طرفك لنا، وإذا كنت في حاجة لشيء فنحن مستعدون لعدم البخل عليك به. نرجو الله أن يجعلنا في ساعة سعيدة وأن يحفظكم بعينه التي لا تنام ويجعلكم من الصديقين والصالحين.
شريف وزان مولاي عبد السلام
في 27 شوال 1309 الموافق 25 ماي 1892)).
وعندما وصلت رسالة شريف وزان إلى توات وتوصل بها محمد وسالم، بعث بها إلى الحسن الأول مع رسالة كعربون على إمعان شريف وزان في الخيانة وإصرار المواطن التواتي على وفائه لقضية الوحدة الوطنية.
كما بعث سكان إقليم الصحراء الشرقية رسالة إلى الحسن الأول، يقدمون له فيها بيانات عن زيارة شريف وزان وما جد فيها وخلالها من أحداث.
ونظرا لما كان يقدره الحسن الأول في مهمة شريف وزان من خطورة على وحدة الوطن، وما في إفشالها من اندحار لمخططات الاستعمار الفرنسي، فقد كتب رسالة إلى سكان الأقاليم الصحراوية من توات يقول فيها: ((لقد وصلنا كتابكم الذي تقولون فيه بأن شريف وزان ورد عليكم ومع حاشية من عشرة أشخاص وحامية من مائة فارس وقافلة من ثلاثمائة جمل، وأنه نزل في أولاد سعيد وكتب إلى السكان، وأخبرتموني بما لقيه من جفاء إلى أن جمع رحيله وارتحل.
وقد أضفتم إلى علمنا الشريف، أنكم أخبرتموني برفضكم لما سيقوله وأنكم لا تتلقون الأوامر إلا من جنابنا، وتطلبون في نفس الوقت حمايتنا.
ولقد سار بالبال.
إن جوابكم للوزاني وإعراضكم عنه يؤكد تعلقكم وولاءكم وإخلاصكم وثبات إيمانكم.
وإني أؤكد لكم أني حامي حماكم وضامن أمنكم، وإني على اتصال بالفرنسيين في شأن كل ما يتعلق بصون مستقبلكم.
الحسن بن محمد
في 28 محرم 1309 الموافق لـ 26 أبريل 1892)).
وهذه الرسالة المثبتة في وثائق الحكومة الفرنسية، من بين الرسائل التي استولى عليها الجيش الفرنسي بعد احتلاله لتلك المناطق، وضمها للنفوذ الفرنسي في الجزائر خلال العهود التي تلت حكم الحسن الأول، وهذه الوثائق لم يحطمها الفرنسيون طمسا للحقيقة والتاريخ، وإنما احتفظوا بها مثلما احتفظ المواطنون والمسؤولون المغاربة في المناطق الداخلية برسائل وظهائر الحسن الأول، وقدموا أغلبها إلى إدارة الوثائق الملكية.