الحقيقة الضائعة | عندما اختار الحسن الأول الدليمي لمواجهة الفرنسيين
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 28"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
كان الفرنسيون عاجزين عن إشهار الحرب على المغرب، فاختاروا خطة مشابهة لخطة بوعمامة، وأتوا إلى الحدود الشمالية من منطقة توات، وعينوا أحد أعضاء قبيلة أولاد سيد الشيخ أميرا، وهو الحاج عبد القادر الذي كان يحمل طابعا في يده ويمضي على كل ما يأمره الفرنسيون بإمضائه، وليس الحاج عبد القادر هذا هو الأمير عبد القادر الجزائري.
وكان أشهر ما أمضاه هذا الأمير العميل مع جيوش الاحتلال، اتفاقية معروفة باسم “ديسميشيل” واتفاقية معروفة باسم “بوكو”، تنصان على السماح للفرنسيين بحق المتابعة للثورات في الأراضي المغربية، بينما طلب السفير الفرنسي في طنجة رسميا من الحسن الأول، تكذيب ما جاء في رسالته لبوعمامة، والمطالبة بتسليمه للحكومة الفرنسية.
واستمرت المناورات الفرنسية على الحدود المغربية في توات عدة سنوات، كانت مصالح التوجيه السياسي في القيادة العسكرية في وهران لا تفتأ تنوع أشكال التدخل وأصناف المشعوذين، بينما كان الحسن الأول يمارس عن طريق خليفته وأخيه في تافيلالت، كل وسائل الرد على مناورات الفرنسيين إلى أن بلغ السيل الزبى، ووصلت أسلحة الحسن الأول إلى المنطقة وأخذت توزع على القبائل.
ونفذ ما عند الفرنسيين من أوراق، وأخذوا يبعثون ضباطا فرنسيين، وفي فبراير 1886، حصلت أول معركة بين سكان المنطقة في حاسي الشيخ، وبين بعثة فرنسية كان يترأسها الضابط “بالاط”، وكانت معركة حاسمة وعنيفة انتهت بمقتل “بالاط” نفسه ومقتل اثنين من كبار مساعديه مع عدد آخر من الجنود، لكنها كانت على أرض المغرب والهاجم لا حق معه، ودفن الفرنسيون قتلاهم وتركوا الثأر للمستقبل، بينما ترقب السكان الانتقام، فشكلوا وفدا برئاسة الشريف مولاي علي بن إسماعيل وعضوية خمسة وسبعين من أعيان المنطقة الصحراوية، وتوجه الوفد إلى فاس لمقابلة الحسن الأول.
ورغم أن السفير الفرنسي بطنجة سبق الوفد إلى فاس وطلب من الحسن الأول عدم استقبال مجموعة من الثوار الخارجين على القانون، فقد استقبلهم الحسن الأول استقبالا رسميا واتفق معهم على المخطط المقبل، وسلمهم رسالة إلى سكان الإقليم.
وفي سنة 1889، أرسل الحسن الأول بعثة عسكرية بقيادة الضابط أحمد الدليمي حاملا تعليمات سرية إلى سكان المنطقة.
وقد دخل الدليمي دخولا رسميا إلى دلدول وكان على رأس مستقبليه، الإمام الجزائري بوعمامة.
وبعد مهمة الدليمي بسنة، بعث الحسن الأول سنة 1890، كاتبه الخاص محمد الرشيدي، حاملا رسالة مفتوحة إلى السكان قرئت في المساجد والأسواق، وهذا نصها:
((رعايانا الأوفياء سكان توات عامة، إنكم جزء من رعيتنا التي وضعها الله تحت إمرتنا ونحن مسؤولون عنكم وعن سلامتكم وأمنكم أمام الله والملأ، فعليكم أن تبعثوا لنا مجموعة من أعيانكم للمذاكرة فيما جد من الأحداث.
الحسن بن محمد
في 20 شعبان 1308 الموافق 31 مارس 1891)).
وشكل السكان بعثة كبرى من الأعيان رافقت الكاتب الخاص في رجوعه، ووصلت إلى فاس للمذاكرة فيما جد من الأحداث، لكن واحدا منهم لم يصل مع البعثة، وهو الكاتب الخاص للسلطان، ورئيس البعثة محمد الرشيدي، الذي مرض في كرزاز ومات بها بعد أن كان الفرنسيون يجهلون شيئا واحدا، وهو أن سكان الصحراء الشرقية المغربية مسلمون متشبثون بدينهم، وبرمزه الحسن الأول، فكانت مقاومتهم مزدوجة الأوجه: مقاومة من أجل حماية التراب الوطني، ومقاومة ضد الغزو النصراني.
لذلك كانت المسافات التي يقطعها المبعثون في اتجاه توات، وفي اتجاه فاس، وصعوبات الطريق ومخاطرها، جزء من معركة يخوضها الحسن الأول ورعاياه في الصحراء، بينما كان الفرنسيون على مسافة قريبة من المنطقة.. إن بين وهران وكورارة ثلاثمائة كيلومتر بينما أقام الفرنسيون منشآت هامة في “الكولية” داخل إقليم كورارة، لكن المشكل بقي مطروحا بالنسبة لهم.
والحسن الأول يعرف أن الوقت كالسيف إن لم يقطعه قطعه، فكان لا يضيع يوما ولا ساعة، وبعد معركة “حاسي الشيخ” وموت مسؤول فرنسي كبير فيها – كما أسلفنا – عرف أن انتقام الفرنسيين سيكون بشعا فسارع إلى تعيين حاكم عسكري على المنطقة، وجمع إقليمي الصحراء الشرقية وتافيلالت في قيادة واحدة وضع على رأسها ضابطا من أعظم ضباط جيشه، هو الضابط أحمد الدليمي، وتعيين حاكم عسكري على المنطقتين الحساستين في المملكة غني عن كل تأويل، خصوصا وأن هذا التعيين جاء سنة 1891 في أعقاب أول معركة خاضها الفرنسيون مع سكان الإقليم في حاسي الشيخ.
ولم يكتف الحسن الأول بتعيين ضابط عسكري كبير على المنطقة، بل سارع في نفس السنة (29 مارس 1891) إلى إرسال خبير في شؤون الاستطلاع السياسي، وهو الطالب العربي المعيني، مرفوقا بضابط عسكري آخر هو القايد بوعزة، لزيارة الساورة وتوات وتحضير تقرير شامل عن أوضاع المنطقة.
وكان سكان توات والساورة يتصورون أن الحسن الأول غير راغب في الحرب مع الفرنسيين، وبالتالي رغبته في عدم تقديم أي عون للثوار الجزائريين الهاربين من جحيم الاحتلال الفرنسي.
وإزالة لهذا الالتباس، بعث في 6 ذو القعدة 1308 الموافق لـ 13 جوان 1891، رسالة يحث فيها السكان على ((معاملة المواطنين الجزائريين أحسن المعاملة واعتبارهم كجيران وفقا لتعاليم الإسلام)).
هذا الإسلام الذي كان ولازال هو السلاح الأقوم لفرض الوحدة وضمان سلامة المسار.
دور عبد السلام الوزاني
هذا الإسلام وضع الفرنسيون أمامه نقطة استفهام.. إنه يوحد المغاربة في الصحراء الشرقية والغربية وداخل أركان المغرب مع ملكهم، ويجمع الجزائريين الثوار مع المغاربة الأحرار، فلماذا لا يلعب الاستعمار الفرنسي ورقة الإسلام؟
ووجد الفرنسيون الحل، أو هكذا تصوروا، فشكلوا بعثة مكونة من عدد من الخبراء الفرنسيين والمستعمرين منهم، وحتى الذين أعلنوا سطحيا إسلامهم، ووضعوا على رأسها عالما مسلما، ورعا مشهورا، شريفا، هو شريف وزان مولاي عبد السلام الوزاني، أول من وضع نفسه رهن الإشارة من شرفاء وزان، وتوجهت البعثة إلى الأقاليم الصحراوية، إلى توات والساورة وتيدكلت وكورارة، للدعوة إلى السلم وإلى الأمن وإلى التعاون مع الفرنسيين.
إن شريف وزان مولاي عبد السلام الوزاني، لم يكن حديث العهد بالأحداث.. فقد كان ضميره مثقلا بحادثة سابقة أراد التكفير عنها أمام الفرنسيين، فجاء معهم لتقديم البرهان عن “عظمته ونفوذه”.
في سنة 1888، عندما كان خبراء الاستعمار الفرنسي يزاولون نشاطهم التجسسي لاحتلال المغرب، ظهر اسم الرحالة الفرنسي “كامل دولس” كباحث تاريخي حاول التسرب للصحراء الغربية ففشل.. فعندما نزل في شواطئ بوجدور من على ظهر مركب مدعيا الإسلام، اعتقلته قبائل أولاد دليم التي توصلت (صدفة) بالحجج على أنه عالم تركي فأطلقت سراحه دون أن تعرف بأنه الجاسوس “دولس” الذي يحضر الدراسات الجغرافية والسياسية للحكومة الفرنسية.
واكتشفته المخابرات المغربية في مراكش بعد عودته من كلتة زمور وتم اعتقاله، ثم أطلق سراحه بعد تدخل القنصل البريطاني.
وذات يوم سنة 1888، نزل في طنجة حاملا جواز سفر مغربي باسم الحاج عبد المالك، مسلم مؤمن بالله وبالرسول، متنكر لاسمه الحقيقي كاميل دولس، ولمهمته الحقيقية جاسوس فرنسي.
وإمعانا في التنكر، يتوجه كاميل دولس، أو الحاج عبد المالك، عند الشريف مولاي عبد السلام الوزاني، الذي يسلمه بمنتهى البراءة رسالة كانت في باطنها مؤامرة مدبرة وفي ظاهرها توصية إلى قبائل الصحراء الشرقية المتعاطفين مع “الشريف”.
ويبدأ الحاج عبد المالك، أو كاميل دولس، رحلته التجسسية إلى الصحراء الشرقية محميا برسالة مولاي عبد السلام الوزاني.
وبمنتهى الاطمئنان، يقطع المراحل الأخرى ويصل إلى تافيلالت ويصلي في المساجد ثم يصل إلى الركان حيث يفطن به أحد الأذكياء، ولم تنفعه رسالة شريف وزان ولا اسم الحاج عبد المالك، ويلقى حتفه على أيدي الساهرين على وحدة التراب الوطني، ويعثر الناس على جثة كاميل دولس مقتولا بين أشجار النخيل في الركان.
وبذلك، فقدت فرنسا أحد كبار علمائها الباحثين في شؤون المغرب وجغرافية المغرب والمخططين لمسالك قوات الاحتلال الفرنسية للمغرب وللصحراء الشرقية المغربية، دون أن تفيده رسالة شريف وزان شيئا.
إذن، فقد كان لابد من إحضار شريف وزان نفسه، وهنا يظهر النبوغ الكبير للقيادة العسكرية الفرنسية.