الحقيقة الضائعة | المناورات ضد سلطان المغرب.. من بوعمامة الجزائري إلى بوحمارة
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 27"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
ظاهرة أخرى في المنطقة أقلقت راحة الحسن الأول وجعلته يراجع الموقف بجدية وحزم ودبلوماسية عالية.
فبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر، كانت قبيلة أولاد سيد الشيخ قد انبرت لمحاربة الاحتلال الفرنسي، وقبل أن تتكفل السلطات الفرنسية بنسف منظمة أولاد سيد الشيخ من الداخل، وتحويل أغلب رجالها إلى عملاء للاحتلال الفرنسي، استطاعت هذه المنظمة أن تضرب الاحتلال الفرنسي بعنف، وكان طبيعيا أن تلجأ هذه المنظمة إلى المناطق المغربية في الجنوب بتوات وكورارة لحماية ظهرها، مما دعا الفرنسيين إلى ممارسة “حق المتابعة”، وبالتالي، الهجوم على الأراضي المغربية باسم هذا الحق، وهو شيء يناسب الجيش الفرنسي ويرضي رغباته في الوقت الذي يهدد استقلال مملكة الحسن الأول.
وكان من بين أعضاء قبيلة سيد الشيخ، عالم كبير كان مرابطا في “موڭرار” داخل الجزائر، وخاض الحرب ضد الفرنسيين وانهزم، فحمل رجاله ومتاعه وجاء إلى “دلدول” في إقليم توات حيث استقر في قصر أولاد عبو مع فقرائه يقرأ القرآن ويشرح الحديث، مما جعل بيته يصبح زاوية يحج إليها كل المواطنين المغاربة بالكثير من الخشوع والامتثال، وأصبح “بوعمامة” وهو اسمه، بمثابة نبي الجهاد الذي خاض الجهاد ضد النصارى مقدسا معززا مكرما انتشر صيته وغطى على نفوذ رجال السلطان، وأصبح الناس يحجون إليه من الجنوب من تمبكتو، ومن الغرب من سوس، وحتى من قفصة بالأراضي التونسية.
وأخذت الخيام تتكاثر حول بيته وأصبح دولة في داخل الدولة، وأخذ يبعث مراسليه إلى الأراضي الفرنسية حاملين دعوته لمحاربة النصارى.
ومن غريب الصدف، أن النشاط الذي كان يشتكي منه الحسن الأول كان يرتكز حول شخص بوعمامة، إذ أصبحت زاويته والخيام المحيطة بها في دلدول عبارة عن أسواق تجارية.
وأصيب رجال السلطة في المنطقة بالهلع والضعف، مما جعل قائد تيمي، الشيخ باحسون، يشكل وفدا كبيرا من أعيان تيمي للتوجه إلى دلدول للسلام على الإمام بوعمامة.
وكان باحسون مرفوقا بأخيه محمد بن عبد الرحمان باحسون، وبوفد من أولاد العروسة يرأسه با الصديق بن باعلي، ووفد من تاماريت يرأسه الحاج محمد باخيي، ووفد من أدغام يرأسه مولاي الصديق بن العربي.
وقد كتب الشريف محمد بن هاشم العلوي، الذي رافق الوفد، مذكرة يصف فيها هذه الزيارة فيقول: ((لقد خرج بوعمامة لاستقبالنا بوجاهة لم نشهد مثلها واستقبلنا بحفاوة بالغة، فوجدنا أنه يشرب القهوة في الصباح – مثل النصارى – مثلما يشربها في المساء، وكان المغاربة متعودين على شرب الأتاي، وكان محاطا بحوالي أربعمائة من رجاله)).
لكن بوعمامة بعد أن استقبل رجال السلطة المغاربة، فاجأهم مفاجأة كبرى، فهم الذين جاؤوا متصورين أن ملكهم قد نساهم وانشغل عنهم وترك بوعمامة يتصرف في المنطقة وكأنه أمير عليها، لم يتمالكوا دهشتهم عندما قدم لهم بوعمامة رسالة توصل به من الحسن الأول، قدمها لهم لقراءتها علانية، وتقول رسالة الحسن الأول لبوعمامة:
((وبعد:
لقد توصلنا برسالتك التي أرسلتها لنا عن طريق خليفتنا في منطقة تافيلالت، أخينا الضابط مولاي رشيد، والتي تخبرنا فيها بأنك هاجرت وطنك وجئت تستقر لاجئا في توات باحثا عن الملجأ والاطمئنان بين قوم هادئين مؤمنين، وتقول لنا في رسالتك، أن أهلك قد هاجروا معك هاربين من حكومة الفرنسيين، فاعلم أن توات هي بلادنا وأن سكانها من أضعف ما خلق الله على الأرض، ولو أن الله خلقك بينهم لحسبناك واحدا منهم، وأن يدنا سترعاك مثلما هي راعية لهم ما دمت بينهم، لكن لا تتدخل في شؤون أبناء عمومتك، لأنه فيما يعنينا، فإنه ليس بيننا وبين جيراننا إلا ما تنص عليه الاتفاقيات المعقودة بيننا في إطار السلم.
فعش في اطمئنان، واعتبر نفسك بعيدا عن الحرب، وكن من بين رعايانا واحدا منهم ملتزما بتعاليم الله ورسوله وفي رعايتنا الشريفة.
لكن، إذا حصلت بعض المشاكل نتيجة سوء تصرفك، فلا تلومن إلا نفسك فيما قد يحصل لك وارحل آنذاك عن بلادنا.
الحسن بن محمد)).
إن محتوى هذه الرسالة يظهر رغبة الحسن الأول في عدم إثارة مشاكل مع الحكومة الفرنسية وتفاديه لمشاكل جديدة من شأنها أن تسهل على الغزو الفرنسي مهمته في تنفيذ خططه، كما أن هذه الرسالة مشحونة بالحيطة من هذا الرجل الذي لم يكتف باللجوء السياسي، بل جاء يبحث عن زعامة دينية في المغرب.
ورسالة الحسن الأول كانت في طياتها تحمل معاني ما يخفيه مجيء بوعمامة للمغرب من أحداث في المستقبل.
أحداث تؤكد نبوءة الحسن الأول وبعد نظره، وما النبوءة إلا عنصر مرتكز أولا على التنبؤ، ورسالة الحسن الأول تفسر تنبؤه بما يخفيه المجاهد بوعمامة، المحارب لجيوش الفرنسيين، اللاجئ إلى المغرب.
وبالمناسبة، فلا بد من تفسير نبوءة الحسن الأول في شأن بوعمامة.. فقد أصبح فيما بعد مناوئا للحسن الأول، وساعده ولده المسمى الطيب في هذه المهمة، ولعب الطيب دورا مزدوجا، إذ أظهر أنه يؤيد حكومة ضد أبيه بعد تعرفه على رجل أصبح صديقا له هو الحاج عبد الواحد عمور، ولكن الطيب وأباه بوعمامة، بعدما فشلا في كسر شوكة الحسن الأول بالمناورات والدسائس، وبعد موته، انضما إلى بوحمارة، الذي أعلن الانفصال التاريخي المشهور لفائدة الاستعمار الفرنسي، وفي عهد الملك عبد العزيز، اعتقلت القبائل الصحراوية “الإمام” بوعمامة، مما اضطر السفير الفرنسي لمطالبة المغرب بإطلاق سراحه، لأنه “مجرد مواطن فرنسي في مهمة بالمغرب”.
إن الحسن الأول لم يكن أمامه فقط ملف بوعمامة، فقد جاء زعيم آخر من زعماء أولاد “سيد الشيخ” هو “بوشوشا”، الذي استقر في تيدكلت يمارس نفس أعمال بوعمامة، مما جعل الفرنسيين يهاجمونه بجيوش أتت من وركلة التي احتلها الفرنسيون.
ووضع الضباط الفرنسيون علامة حمراء على منطقة توات، التي أصبحت معقل المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال.
والفكرة ليست وليدة اليوم، فالحسن الأول يقرأ بكثرة.. ففي سنة 1864، سبق للباحث الألماني “رهولفس” أن كتب في سياق الحديث عن رحلته للمنطقة: ((قبل كل شيء، فإنه على الفرنسيين أن ينقلوا حدودهم حتى إلى واد الساورة، فمن هناك تنطلق كل متاعبهم وكل الفوضى وكل المشاكل، ومادام الفرنسيون لم يحتلوا هذه المناطق التي هي الحدود الطبيعية للأمن، فإن منطقة وهران لن تعرف الاستقرار)).
ورغم تقديرهم لهذه النصائح الغالية، كان الفرنسيون عاجزين عن إشهار الحرب على المغرب، فاختاروا خطوة مشابهة لخطة بوعمامة، وأتوا إلى الحدود الشمالية من منطقة توات، وعينوا أحد أعضاء قبيلة أولاد سيد الشيخ أميرا، وهو الحاج عبد القادر الذي كان يحمل طابعا في يده ويمضي على كل ما يأمره الفرنسيون بإمضائه، وليس الحاج عبد القادر هذا هو الأمير عبد القادر الجزائري.