الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الصحراء المغربية في عهد الحسن الأول

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 24"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    يتبين لقارئ الأحداث المسرودة سابقا (في هذه الحلقات)، أن صفاء الأفق المغربي أخذت تشوبه ظلال أجنحة الصقور المكشرة الحائمة حول جنبات هذا الجسم الجبار بينما تدمي بعض الأحداث المفتعلة والمخططة أقدام هذا الجبار الصامد، مما يزيد الصقور الحائمة رغبة في السطو على الجراح الدامية.

تتمة المقال بعد الإعلان

وبعد أن حل الاستعمار الفرنسي محل الاستعمار العثماني في الجزائر، وبعد أن احتلت الجيوش الفرنسية والبريطانية أجزاء هامة من الأطراف الإفريقية العربية والسودان، بقي المغرب راسخا موحدا لا تشوب حدوده الشاسعة أي شائبة ولا يجد أي نعل أجنبي موقع قدم له على أي شبر من أراضيه باسم الاحتلال.

أراضيه الممتدة – كما قلنا – من نهر السنغال جنوبا إلى عين صالح شرقا، حيث العمالات الثلاث: كورارة في الشمال الشرقي، وتوات في الوسط الشرقي، وتيدكلت في الجنوب الشرقي، وكانت القوافل التجارية تنتقل بين محاور السيادة المغربية من تمبكتو إلى أقبلي، ومن الساورة إلى تافيلالت، ومن أطار إلى كولمين، بينما كان البحاثون الأوروبيون يتسابقون إلى القيام برحلات كبرى من طنجة إلى عين صالح كما قام بها الرحالة الألماني جيرهار رولفس، ومن طنجة إلى تيدكلت كما قام بها الرحالة الفرنسي كاميل دول، وقد كتب الأول في مذكراته: ((إن النخيل يمتد من إيكلي إلى تاوريرت، وأمكننا أن نسير في ظلال النخيل من بني عباس حتى عين صالح وما بعدها على مساحات تمتد على أربعمائة كيلومتر واتساع 250 كيلومترا من الشرق إلى الغرب عن طريق كورارة وتوات، حيث الحدائق تتعقبها الحدائق، والنباتات ترتبط بالنباتات، والنخيل يعانق النخيل)).

لقد كانت المنطقة جنة من جنان النعيم، تكسوها – حسب الإحصائيات المتواجدة منذ ذلك الوقت – ثمانية ملايين من أشجار النخيل الباسقة، بينما كان هناك على طريق الجنوب عبر الساقية الحمراء نحو وادي الذهب وشنقيط، عطاء آخر يكسو تلك المناطق ويسدل عليها نعمه، هو عطاء العلم والفضل والشعر والأدب والجمال والأنعام.

وكانت طنجة تكتسي أهمية دولية تضاهي في أهميتها بالمقارنة أهمية نيويورك في عصرنا الحاضر، وكانت الدولة المغربية هذه المنتشرة الأطراف، مسلمة قيادتها لرجل فذ، صالح عظيم، ذكي متنور، بطل مقدام، وفارس جعل عرشه على صهوة جواده، هو الحسن الأول بن محمد بن عبد الرحمان.

تتمة المقال بعد الإعلان

كان في الواقع سليل أب وجده لقنا للطامعين دروسا بقيت إلى يومنا هذا مهيمنة على متاحف الغرب، لماعة في سجلات تاريخ الشرق والغرب، ولكن الحسن الأول كان أكثر حدة من أبيه وجده، كان أكثر دهاء وأكبر اطلاعا، كان سدا منيعا في أوجه الطامعين، وصخرة تحطمت على جنباتها كل آمالهم ومخططاتهم.

وتعظم عبقرية رئيس الدولة بعظمة الأحداث، وتتبلور أمام عبقرية الدهاة.

وعندما بويع سنة 1873، كتب عنه المؤرخ عبد الله أكنسوس، هذه السطور الغنية عن كل تعليق: ((لما استخلف المولى الحسن الأول حفظه الله، لم تشغله شؤون الخلافة المترادفة آناء الليل وأطراف النهار، ولا قصوره السلطانية من الحدائق والأزهار، عن وظائف الدين وأسباب اليقين من نوافل الخير ومن صلاة وصيام وتلاوة كما حدثني بذلك بعض بطانته، وأنه يجد لها في خلوته لذة وحلاوة)).

والقارئ لهذا الثناء يتصور رجلا ورعا متدينا لا يترك له دينه وقتا لدنياه، بينما الحقيقة أن هذا التصوف والتشبث بمبادئ الدين الحنيف إنما كان سلاحا لنفسه ورصيدا لإيمانه، ومقوما لعزيمته، فقد كان الدبلوماسي والسياسي والمحارب والاقتصادي والباني، وكان الحازم حزما قل ما نجد في التاريخ له نظيرا بعد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.

إن التحليل العميق لمزاولاته اليومية للأنشطة الحكومية التي كان يمارسها والتفحص الدقيق لما خلفه من رسائل وظهائر ومنجزات وإنشاءات، ليدعو إلى الإعجاب والتقدير، والإكبار والاحترام.

فكان من الطبيعي أن يجمد المخططات الاستعمارية واحدا وعشرين عاما بقيت مملكته فيها موحدة صامدة ثابتة وكأنه كان حريصا على تبليغ الرسالة لآبائه وأجداده في رحاب العالم الآخر، ليطمئنهم على أن المغرب الذي تركوه مهددا بالبوارج الحربية، والطوابير المقنعة، والمشاكل الداخلية، والأزمات الاقتصادية.. لازال في نفس الحجم ونفس الحدود بفارق واحد، هو أنه تركه مسلحا لمواجهة المشاكل الاقتصادية بوسائل الإنتاج، معزز الحصون والموانئ بمدافع وأسلحة من صنع أبنائه، مؤطرا بعلماء وضباط ومهندسين تكونوا في معاهد الأعداء.

من هو الحسن الأول ؟

    لم يكن غريبا عن الأحداث، ولا الأحداث غريبة عنه، عندما جاءه مرسول إلى البيت الذي كان يسكنه في حاحة بإقليم سوس وهو خليفة لأبيه، وأخبره بأنه بويع ملكا على المغرب.. فأي مسؤولية هاته؟

أربع واجهات مفتوحة تتفاوت في حجمها وتتبارى في ضخامتها، وقاسم مشترك بين الواجهات الأربع، هو إصرار القوات الدولية على احتلال المغرب وتخريب اقتصاده وتشتيت شمله واستغلال جهله، وكل الغايات تبرر كل الوسائل.

أما الواجهات الأربع فهي التالية:

1) واجهة الجبهة الداخلية:

جهل، ورجعية، وعمالة، واحتماء بالأجنبي، وأزمة اقتصادية، ونزيف تجاري، وفتن داخلية، وديون أجنبية.

2) واجهة المناورات الدولية:

أطماع فرنسية، أطماع إسبانية، أطماع إنجليزية، أطماع ألمانية، أطماع أمريكية، مخلفات هزيمة معركة “إيسلي”، مخلفات احتلال تطوان وجلاء الإسبان عنها مقابل ثمن باهظ، اتفاقية “لالة مغنية” التي دفع الفرنسيون رشوات لمن أمضوا عليها.

3) واجهة الصحراء الجنوبية:

أطماع الإسبانيين، أطماع الإنجليز، التزامات أبيه تجاه الإسبان مقابل تخفيف الضغط عليه.

4) واجهة الصحراء الشرقية:

الاحتلال الفرنسي للجزائر، رغبة الفرنسيين في التوسع، إقامة الفرنسيين لمنشآت عسكرية في كورارة، احتلال الفرنسيين لمالي والسودان المتواجد في الجنوب الشرقي، غزو المرتزقة المرتدين لزي المبشرين في المناطق الشرقية الجنوبية.

هذا الذي جاؤوا للتبشير به في هذا الموقع الهادئ المكسو بأشجار اللوز وعلى مصبات الأنهار في الحدائق الغناء بسوس.

إن الإنسان كبشر كثيرا ما يجد نفسه محرجا عندما يعرض عليه الملك بأشواكه، خصوصا عندما يكون في أحضان ورود بدون أشواك.. لأن الملك هو راحة الضمير.. الملك هو السعادة المتناهية.. الملك هو التمتع بالجمال وبالراحة والاطمئنان، فأي ملك هذا الذي جاء ينتزع الأمير الحسن من أحضان الجمال والماء والورد والأركان واللوز في جبال سوس؟ ولكن هذه السعادة التي كان ينعم فيها الأمير الحسن في جبال سوس، هي سعادة مبتذلة، سعادة زائلة، فهو أمير، وكل من في وضعه أمير، وكل من تتوفر له نفس الإمكانيات أمير، وكما قال المصريون: أنا أمير وأنت أمير والبقية يعرفها الجميع.

اختار الحسن الأول المسؤولية، اختار الشرف، اختار المجد، هذا المجد الذي نتحدث عنه بعد مائة سنة، وامتطى صهوة جواده، وتوجه إلى مراكش، وإنما امتطى صهوة جواده لأنه لم تكن آنذاك سيارة، كما لم يكن تلفون، وتلكس، ولا راديو، ولا تلفزيون، وإنما كانت الإرادة، وكانت الشهامة.. كانت عبقرية الإنسان وشهامة الإنسان، ولم يكن هناك شيء آخر غير الإنسان.

يتبع

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى