الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | قصة تأسيس القوات المسلحة الملكية

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 17"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    كان الدرس من حرب تطوان كبيرا وعظيما لا نجد في وصفه أبرع مما أورده المؤرخ بودي، الذي كتب يقول: ((نجح الإسبان في احتلال تطوان وجرت مفاوضات عقب ذلك طلب الإسبان فيها من المغرب دفع غرامة 20 مليون دورو، وإقامة سفارة إسبانية في فاس، وعقد معاهدة تجارية، وتسليم تطوان وكل المنطقة الواقعة بينها وبين سبتة، وأن يتعهد السلطان بحماية المبشرين الإسبان في المغرب، ولكن الوفد المغربي رفض هذه المطالب، لأن السلطان “لا يمكنه أن يقبل تسليم تطوان حتى ولو كان يريد ذلك، لأنه لو فعل لفقد عرشه”، وأعلن الوفد المغربي، أن “من يطلب تطوان لا يريد الصلح، وأنكم (مخاطبا الإسبان) لا تستطيعون الحرب مدة ثلاثة أعوام، ولكننا نستطيع أن نحارب أربعين عاما، إن الحرب تكلفكم كثيرا من المال، وللمال نهاية كالحياة وككل الأشياء في هذا العالم، ولكن الذي ليس له نهاية، هم الرجال في المغرب، إن البعض يموتون ولكن يحل محلهم آخرون، ويوجد منهم كثيرون وكثيرون”)).

وفلسفة الحسن الأول لم تكن مبنية على الرد المباشر أمام أمر مفاجئ.. فقد تجرع بنفسه مرارة الهزيمة في تطوان وكان هو خليفة بمراكش يرى وقعها على الناس وهو صاحب فكرة إقامة معمل للسلاح، رغم أن هذه الفكرة كانت جزء من المخطط الترميمي للوضعية العسكرية حينما قرر أبوه إعادة تنظيم الأوضاع العسكرية بعد هزيمة تطوان.

وانكب الحسن الأول على الاهتمام بجانبين:

– أولا: الإشراف شخصيا على معمل السلاح.

– ثانيا: الإشراف شخصيا على تكوين الأطر العسكرية.

لقد استدعى السفير الإيطالي وطلب منه إبلاغ الحكومة الإيطالية رغبته في إقامة معمل للسلاح، وكانت إيطاليا أعظم دولة منتجة للسلاح في ذلك العصر، وأجاب السفير الإيطالي برسالة موجهة إلى وزير الخارجية المغربي، المفضل غرنيط، يعين بمقتضاها المهندس الإيطالي نوطير، كمشرف على تنفيذ المشروع على رأس لجنة مكونة من ثلاثة خبراء.

ثم جاء مدير المعمل، السنيوري جانتيلي، وأصبح منتدبا لدى الحسن الأول للإشراف على أعمال البناء، وحددت الجزئيات من ميزانية وأجور الخبراء وتعويضات السفر، وميزات المقام بالمغرب من خيول ومرافقين.

ولم تمض ثلاث سنوات حتى كان أول مصنع مغربي للسلاح ينتج أسبوعيا صندوقين من البنادق وفي كل صندوق ثمانية عشر بندقية، أما إنتاج الرصاص فكان شهريا، إذ كان المعمل يسلم شهريا ثلاثمائة ألف طلقة.

كما بلغت البحرية الملكية في عهد الحسن الأول مرتبة من التجهيز والتسليح والتأطير كانت موازية لعظمة المغرب، ومستجيبة وطول شواطئه الممتدة على البحر المتوسط من مرسى السعيدية إلى طنجة، وعلى المحيط الأطلسي من طنجة إلى مصب نهر السنغال.

فلا غرابة إذن، أن نرى الحسن الأول يضيف إلى ما تتوفر عليه البحرية من بواخر عددها عشرون، أربعة بوارج حربية ذات طاقم عظيم يسيرها ضباط من ألمانيا واسكندنافيا، كان لإبحارها في المحيطات صدى عظيما في جميع أنحاء العالم، وهذه البوارج الأربع هي:

1) “البشير”: مدرعة بنيت في بريطانيا وتم تدشينها سنة 1899، وهي مجهزة بالمدافع ومهمتها حماية شواطئ الريف.

2) “الحسن”: باخرة مجهزة بالمدافع سلمت للمغرب سنة 1885 بعدما شيدت في بريطانيا.

3) “التركي”: باخرة صغيرة بالنسبة لسابقتيها، تم تشغيلها في نقل المدافع الألمانية التي كان يشتريها المغرب من شركة “كروب” بألمانيا.

4) “سيد التركي”: الباخرة التي أطلق اسمها على ميناء سلا ولازال الحي الذي يحمل اسمها موجودا إلى الآن بسلا، وهي باخرة من صنع ألماني تسلمتها البحرية الملكية سنة 1890.

وكان عدد الجنود البحارة أربعة آلاف ورجال المدفعية البحرية ألفان، وكان عدد ضباط البحرية الحسنية المغاربة ستون من قواد البحر.

ولابد من التذكير بأن جد الحسن الأول، المولى محمد بن عبد الله، كان قد أحدث معملا لصنع البواخر الحربية باسم “دار الصنعة” كان ينتج البواخر الكبرى في معمل بميناء سلا.

لكن الحسن الأول رأى أن شراء البواخر من دول عظمى يعتبر أكثر فائدة بالنسبة للمغرب، ولا يمكن للمغرب أن يضاهي بريطانيا، ملكة البحار، في صنع البوارج.

أما المهمة الثانية التي أشرف الحسن الأول على إنجازها، فهي تكوين الضباط العسكريين، حيث بعث إلى مونبولييه بفرنسا سنة 1885، إثنا عشر طالبا مغربيا عين رئيسا لبعثتهم وهو برتغالي دبلوماسي سابق، خبير في الشؤون العسكرية أسلم وأصبح مستشارا للحسن الأول ويسمى دوكاسترو، الذي عاد بعد سنتين حين أصبح الطلاب المغاربة في غنى عن ترجمان بعدما برعوا في التحدث باللغة الفرنسية، وكانوا يتلقون تعليمهم في فنون بناء الخنادق وإطلاق النار والتحصينات والهندسة العسكرية.

بينما توزعوا على الاختصاصات بعد إتمام المرحلة الأولى من الدراسة، فاتجه اثنان لدراسة المواصلات الجوية، واثنان في الهندسة والرياضيات والكيمياء، واثنان للتلفون والكهرباء، وآخران للنقل والسكك الحديدية.

واقتضى نظر الحسن الأول أن يمدد مهلة التدريب سنة إضافية، وبعد رجوعهم سنة 1888، أمضى الوزير الأول مع السفير اتفاقا بتعويضهم بفوج ثاني يتخصص في فيرساي، في فنون المدفعية والهندسة العسكرية.

وفي سنة 1875، اتفق مع الحكومة الإنجليزية على تكوين مجموعة من الطلاب الضباط المغاربة في فنون الحرب، فتوجه إلى جبل طارق لهذا الغرض خمسة وعشرون طالبا قضوا سنة في التكوين على أساليب الحرب البريطانية، ونجحوا بتفوق، وعندما رجعوا، استقبلهم الحسن الأول وأعلن في نفس الوقت توجيه 85 ضابطا آخرين لنفس التكوين قضوا بدورهم سنة في الدراسة العسكرية، وبذلك يكون عدد الضباط المتخرجين من الأكاديمية العسكرية البريطانية في جبل طارق ولندن، 280 طالبا مغربيا في عهد الحسن الأول.

ثم وجه سنة 1880 لبلجيكا وإيطاليا ثلاثة عشر طالبا، بينما قام بتجربة أخرى في ألمانيا حيث وجه سنة 1882 أربعة طلاب ضباط لتعلم أساليب الحرب الألمانية.

وإذا عرفنا أن فرنسا، وبريطانيا التي كانت تطمع في المغرب، وكانت جيوشهما تحاول احتلال بعض أطراف مصر والسودان، هما اللتان تولتا تكوين أول فوج عسكري مغربي، تبين لنا مدى التقدير الكبير الذي كانت الدول تكنه للحسن الأول، الذي لم تستطع أن ترفض له رغبته في بناء أول جيش وطني في تاريخ المغرب.

وقد يخطر إلى الذهن أن الحسن الأول جلس ينتظر النتائج المتوخاة من مشروعه المزدوج، ولكن العكس لم يكن ليفاجئنا في تصرفات هذا الرجل العظيم، فإرسال الضباط المغاربة للدراسة في فرنسا إنما كان جوابا على الطلب الفرنسي الذي قدم له في شكل نصح بأن يأتي ضباط فرنسيون للمغرب لتعليم المغاربة فنون الحرب، فأجابهم: ولم لا نبعث أولادنا ليتعلموا هناك وتتفادوا عناء السفر؟ ولم يكن لهم من اختيار إلا القبول.. فهو يعرف أن كل خبرائهم المقترحين سيكون لهم دور أساسي في مزاولة أعمال الجاسوسية، وتخريب المغرب، خصوصا عندما يقارن بين كرمهم وتكرمهم بإرسال خبراء، وبين ما يزاولونه من احتلال وتقتيل في جنبات مملكته في توات والساورة وعين صالح، وحتى لو رفض الفرنسيون تكوين الضباط، أو الإيطاليون بناء معمل السلاح، فقد كانت لديه اتصالات أخرى خارجية على نطاق واسع، ثم إنه كانت له الورقة الداخلية يلعبها بمنتهى الدهاء والحكمة والاتزان.

لقد جف مداد دهاة الدبلوماسية الأجنبية واختلت بوصلتهم وتنبؤوا لمستقبلهم بالمزيد من المفاجئات مع هذا الرجل، حينما قام سنة 1881 بمناورة عسكرية كبرى – والحرب خداع- حينما كتب إلى العمال في جميع الأقاليم حاثا على الاستعداد الكبير لتحرك كبير، وأرسل له خليفته في مراكش، أخوه مولاي عثمان، ألفا وستمائة وعشرين بندقية مجهزة برماحها و400 ألف طلقة نارية وعشرة قناطير من البارود ومدفعين، كما كلف أعوانه بتجميع 360 سرجا و600 كسوة ضابط و15 ألف بلغة و15 ألف نعالة، ثم استنفر قبائل دكالة وتامسنا والغرب وبني حسن، وبعث أخاه الحسن الصغير، لجمع المتفرقين من جنود الجيش، وعندما تم الجمع، اتضح للدبلوماسيين أن الحسن الأول إنما كان يزاول مناورة استنفار ويختبر استعداد أجهزته للتجاوب مع مخططاته، وهو نفس الأسلوب الذي تزاوله اليوم الأساطيل الأمريكية في المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، والغواصات السوفياتية في البحر الأبيض المتوسط أيضا، وهو أسلوب العظمة.. والعظماء.

تلك كانت الوضعية الاقتصادية والوضعية الاجتماعية العسكرية في عهد الحسن الأول كما أرادت لها الظروف أولا، وأراد لها الحسن الأول نفسه بعد ذلك، وكما أراد لها أن تكون خبراء الاستعمار وأقطاب الاحتلال، وأباطرة الغزو المسيحي لأراضي الإسلام، ولكنوز إفريقيا ضمن مخطط كبير تقاسموا مهمة تنفيذه وحققوا الكثير من مراميه، ووقفوا بعد أن احتلوا الجزائر، على حدود المغرب برا وبحرا يترقبون سقوط الجسم الكبير.

كان الحسن الأول محتاطا في دولة تتقاذفها أمواج الجهل وظلمات الرجعية، مسلحا بإيمان لا يعبر عنه إلا ما تنطوي عليه قراراته ومراسلاته وإنجازاته، وما تنبئ إلا عن عظمة متناهية ووفاء مذهل لحوزة هذا الوطن ولوحدته الترابية وعظمته الأزلية.

وإذا كان النجاح مرتبطا بصانعيه، فإن الحسن الأول أسلم روحه لباريها وهو مرتاح مطمئن البال إلى أن مغربه الموحد من توات إلى وادي السنغال، ومن وجدة إلى طنجة، صامد موحد راسخ في وجه كبرى الإمبراطوريات العالمية، ملقح ضد أمراض نفثها في جسمه الخبراء والعلماء، محتمي ضد الحمايات الأجنبية، قانع أمام الأزمات الاقتصادية.. وما ورد عن معاركه ضد الجهل والتخلف والهزائم، لم يكن كما أوجزته ولخصته إلا فصلا من فصول معركته الحقيقية الجليلة ضد الاغتصاب الأجنبي السافل لحدود مملكته العظمى التي مات سنة 1894 وهو سيد المواقف فيها، ولابد أن نذكره اليوم، وكيف لا نذكر سيدا لمن يريدون أن يجعلوا منا بعد مائة سنة من بعده عبيدا لعظمتهم، ولا لقوتهم، وإنما لمجرد أفكارهم بينما هم يعرفون وهم يتصفحون تاريخ المنطقة منذ مائة عام فقط، أن جغرافية المغرب كانت تحدها شرقا أراضي حاول الاستعمار اغتصابها من المغرب في عهد الحسن الأول فعجز، واستطاع اغتصابها بعده، فورثوها منه مثلما يرث الطفل من الأب المجرم مسروقاته ومختطفاته.. بينما يبقى المسروق مسروقا مهما تفانى وارثه في التبجح والتباهي، لأنه دائما متاع مسروق.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى