الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الخلاصات العسكرية من حرب تطوان

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 16"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    من غير شك فإنه ليس بالإمكان وضع المؤلفات الأساسية للماركسية في نفس المستوى (البيان الشيوعي، 18 بورومير، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي…)، سواء من جهة المضمون أو من جهة شروط الإنجاز، ومن غير الإمكان غض النظر عن واقع أن النصوص الصحافية لماركس كانت تكتب على العموم تحت ضغط الحاجة لضمان مورد رزق ثابت، مورد بسيط بلا شك ولكنه أكيد ويترك له الوقت لمتابعة أبحاثه في اتجاه “رأس المال”، ورغم ذلك، فإن الكتابة الصحفية لماركس وإنجلز ليست من نوع ذي انتشار واسع، فليس بإمكاننا أن نقول بأن هناك صحفيين كثيرين من قبيل مؤسسي الماركسية، يحملون في نظرتهم أثناء تغطيتهم للمسائل العابرة في الأحداث الدولية (حرب الجزائر، وبرمانيا، وأفغانستان، والصين..) فلسفة للتاريخ وجهازا مفهوميا ومنهجا بسعة وشمول المنهج الذي امتلكه مؤسسو الماركسية.

تتمة المقال بعد الإعلان

إن تغطية الأحداث الجارية في العالم من طرف هذين المتعاونين الخارجيين ولكن المثابرين مع هذه الصحيفة النيويوركية، لا يمكن أن تتم بانقطاع عن التراكمات النظرية والعملية ذات الأهمية الكبرى في الماركسية في هذا التاريخ.

إن مقالات إنجلز حول حرب تطوان (1859-1860) تعيد إنتاج عناصر مناقشة الانقلابات الأساسية في هذه الحرب، ويبدو أن المؤرخين قد أصبحوا متفقين على مراحلها الأساسية اليوم، فبعد مقاومة قوية على أبواب سبتة، اضطر المغاربة إلى التراجع إلى كاستييوس، واستطاع الجيش الإسباني أن يفشل الهجومات المغربية المضادة وأن يستولي على ريو مارتن بدون معركة، وأن يستولي بعدها على تطوان.

وبالإضافة إلى المكان الذي احتله وصف إنجلز للعمليات العسكرية التي قام بها الجيش الإسباني في المغرب داخل هذه النصوص، فإن إنجلز قد اتجه بالخصوص إلى التحليل المقارن لسلوك القوتين المتواجدتين في ساحة المعركة، والملاحظ أن المغاربة لا يظهرون هنا إلا كمجرد شركاء لإسبانيا، الخالقة الأساسية للأحداث، وبإمكاننا أن نقول بشكل أدق، أن هذه النصوص إنما تصف بشكل أساسي تصرفات الإسبانيين أثناء خوضهم للحرب مع المغرب كعامل من ضمن عوامل أخرى في الوضعية كان المغاربة يثيرون انتباه إنجلز من حين لآخر.

لقد ثمن إنجلز لقاءات الجيوش الإسبانية بشكل معلن وواضح، وذلك بمقارنتها بين السطور مع سلوك الجيوش الأوروبية الأخرى (الفرنسية في الجزائر، والإنجليزية في آسيا..)، الشيء الذي يعني في نهاية المطاف ليس تثمين فعالية الإنجاز العسكري للمشروع الكولونيالي الإسباني فحسب، بل ودلالته الاجتماعية والسياسية أيضا، فالعوامل المختلفة المحددة لميزان القوى الحاضر (الأسلحة، الإعداد، نوع ومستوى التنظيم، والتكتيكات المطبقة..) قد ضمنت للإسبانيين – على ما يبدو – انتصارا سهلا وسريعا.

تتمة المقال بعد الإعلان

ومن المعروف أن الأسلحة في وجهة النظر الماركسية، تشكل عاملا مهما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعكس طبيعة ومستوى نمو قوى الإنتاج.

وفي مقالات إنجلز حول المغرب كذلك، نجد بأن الآلة الحربية الإسبانية القوية والعصرية والقادرة بالأخص على بناء طرق خاصة بعبور الأسلحة الثقيلة، إلى جانب الحضور المكثف للسفن، تقابل نقص ومحدودية فعالية الوسائل المستعملة من قبل المغاربة، وأن المغاربة كانوا مقتنعين بأن لا فائدة من استعمال الأسلحة، التي كانت تمثل أحد رموز العصرانية في القرن التاسع عشر، أما الأسلحة الأخرى المتقدمة التي كانت تمتلكها الجيوش الإسبانية، فقد كانت تضمن لها هي في حد ذاتها قوة نارية ضاربة.

وقد اهتم إنجلز ببنية القوات المسلحة الحاضرة في الساحة أيضا، وكان يعود مرات متعددة إلى الاختلاف الحاصل بين الجهاز العسكري الإسباني المبني بشكل صارم، وبين ما أسماه بـ”الحشود” غير النظامية و”مقاتلي القبائل”… إلخ، فالانضباط والتنظيم العسكري.. كلها عناصر حاسمة لمصلحة الإسبانيين، وكما كتب إنجلز: (إن المقاومة الحالية للجماعات غير النظامية المغربية، لا يمكن لها أن تنتصر على وحدات منضبطة منذ زمن بعيد بالشكل الذي حافظ لها متانتها…)).

إن عجز الإمبراطوريات الشرقية عن أوربة نظامها العسكري، هذا العجز الذي يرمز بشكل أوضح لدى ماركس وإنجلز إلى انهيارها النهائي، يعاد إثباته هنا في الحالة المغربية، ثم إن إعادة تنظيم الجيش لا تقف عند حدود خلق فروع وشعب جديدة أو إدخال تجهيزات جديدة أو القيام بتداريب على الطريقة الأوروبية.. إنها تستدعي إصلاح الحياة المدنية في كليتها.

إن إمكانية تحريك وحدات عسكرية بشكل منسجم وفي اتجاه هدف واحد، تدعو إلى تحويل السلطة من حيث المبدأ إلى جيش منظم، لأنه الأكثر قدرة على التكيف مع الكمائن والأفخاخ، وليس بإمكان أي قوة غير نظامية أن تنتصر عليه حتى ولو اجتمعت قوتان ضد واحدة، ومع ذلك، فقد وجدت هذه المعادلة مقلوبة في الحرب التي خاضتها إسبانيا في المغرب.

ويسجل إنجلز بأن المغاربة قد استطاعوا أن يفرضوا حربهم، فبفضل مناوشاتهم وكمائنهم وتفوقهم الفردي في مثل هذه المعارك، استطاع المغاربة أن يقبلوا الامتيازات الكبيرة المتوفرة للجيش الإسباني، وخصوصا التفوق العددي والتجهيز الجيد، وبشكل أخص وجود تنظيم محكم.

ويصل إنجلز في التحليل الأخير إلى الحكم بأن مخرج هذه الحرب غير معروف، فالمقاومة المغربية تعوض عن ضعف الوسائل والنقص في عدد الرجال بالتكتيك الملائم المتبع وببطولة المقاتلين، وبالخصوص في بداية المعارك، وسيقترف المغاربة فيما بعد خطأ التخلي عن العمليات الغوارية والانتقال إلى خوض مواجهات نظامية كلاسيكية، وهو خطأ سيؤدون ثمنه بشكل باهظ.

إن سوء تصرف الإسبانيين على الصعيد التكتيكي والتحركات غير العادية لقيادة جيشهم، وبطء تحرك هذا الجيش بشكل لم يسبق له مثيل في مسيرته في اتجاه تطوان بالرغم من قوته النارية الهائلة ووسائله العصرية.. كلها دوافع أدت بإنجلز إلى الختم بأن أجهزة الجيش الإسباني البالية والعديمة الفعالية نسبيا، كانت تنتمي إلى عصر آخر. إن وضعية الجيش تعكس بدون شك مستوى تطور المجتمع الإسباني.

وفي مستوى عام، فإنه لا إبراز أمية الشروط المادية، ولا التقديرات الكمية والنوعية لطبيعة ساحة المعركة (بالقرب من البحر، الوديان، الدور المقرر الذي لعبه الطقس، التضاريس العامة، والبنية التحتية للمواصلات واستمرار الإمدادات…) تشكل عناصر جديدة خاصة بهذه النصوص في التحليل العسكري الماركسي. إنها عناصر مستعملة بشكل كبير في جهات أخرى، وفي كتابات أمست من الكلاسيكيات في هذا الباب، وكمثال، كتيبات إنجلز من قبيل: “سفوا، نيس والراين”، وهو نص معاصر لحرب تطوان.

وهكذا، فإن أول إحصاء للعوامل التي فرضت هذه القراءة الأولى لنصوص الماركسية عن المغرب، يمكننا من أن نسجل أن كل تعليق على الأسلحة أو التنظيم أو الفن… إلخ، يحمل في جنباته فلسفة للتاريخ بأكملها، لأن المواجهة في ساحة المعركة هي في الواقع بين (الأسلحة، عدد الجيوش، وسوء التصرف، والبنيات والخطابات…) رموز للطبيعة العامة لنمو هاتين التشكيلتين بالرغم من كون تشكك إنجلز عبر هذه النصوص، يذكرنا بأن الفرق ليس بشكل حاسم لصالح إسبانيا.

يتبع

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى