الحقيقة الضائعة | أسوأ سنوات الجائحة في تاريخ المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 14"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

الكوارث الطبيعية
ليس من شأن الكوارث الطبيعية إلا أن تزيد في تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي، في تسهيل مهمة الغزو الأجنبي.. وكم من جاسوس دخل المغرب منتحلا شخصية طبيب أو مواسي، لا سيما وأن مسلسل الكوارث الطبيعية في عهد الحسن الأول كان لا يعرف التوقف.
والكوارث الطبيعية في بلاد كالمغرب، منذ مائة عام، كانت تتجلى في كل شيء يشغل الناس، في زمن لم يكن فيه تفسير سليم للأحداث ولا شاغل ينسي المصابين بالأهوال، عن وقع الصدمة التي تتولى الألسنة تهويلها.
في عهد الحسن الأول، كان الناس يؤمنون بالجن إيمان المقتنع، مثلما كانوا يربون الأفاعي في جنبات البيوت لتلتهم الفئران والجرذان والعقارب، ويستعملون السحر والشعوذة في حل المشاكل، والكي بالنار في معالجة الأمراض، فكيف بهم عندما يخسف القمر مثلما حصل سنة 1881 في شهر رمضان من عام 1924، وتأتي بعده الأزمة الاقتصادية وتنعدم الأقوات، ويكون ذلك مطابقا لتنبؤات الفقهاء والسحرة كتفسير لعواقب خسوف القمر.. فلقد انحبس المطر عدة فصول، ثم جاء وباء الكوليرا سنة 1882، وصادف المجاعة التي أعقبت الجفاف، ومات الناس بالمئات، وكان الرعاع ينبشون على الأموات ليسحبوا منهم أكفانهم وما كانوا بذلك إلا يساعدون على انتشار الوباء وهم لا يعلمون، وكلما زاد عدد الأموات تكاثرا زاد سخط الناس على “العهد المشؤوم” وهم مرة أخرى في جهلهم مغرقون.
وما إن أقبلت سنة 1883 حتى عصفت بالبلاد موجة من “التيفويد”، وكانوا يسمونها “الحمى”، ولن تعرف في غزوتها لأقاليم المملكة تفريقا بين معدم أو موسر، بل إن أول ضحاياها كان الوزير الأول موسى بن احماد، أب باحماد، الذي ستؤهله خبرته وذكاؤه فيما بعد لأن يصبح الساعد الأيمن للحسن الأول ومن سيأتي بعده.
كما مات بنفس المرض عدد من الأعيان والعلماء، ذكر التاريخ من بينهم العالم الكبير قاضي القضاة، أبو بكر عواد، الذي كان لموته وقع على الرأي العام الوطني أكبر من الوقع الذي خلفه موت الوزير الأول موسى بن احماد.
وكانت سنوات 1881 و1882 و1883 حقا تسمى بالسنوات العجاف التي كان الناس يتشاءمون منها، وتناقلوا أخبارها فيما بعد طوال عدة سنوات، إلى أن جاءت كارثة أخرى عصفت بمدينة مراكش سنة 1886، حين تساقط من السماء ثلج في حجم البيض نزل على البيوت كالقنابل فهدم بعضها ومات تحت الأنقاض عشرات من الناس، بينما هرب الناس إلى خارج المدينة ولجأ البعض الآخر محتميا بالمساجد وقبور الأولياء مرددين اللطيف ومرتلين القرآن.
وكان الحسن الأول يواجه هذه الكوارث بصبر وجلد، لأنها كانت تنغص عليه مخططاته، وإذا انهار تحت تأثيرها، انهارت كل آماله، وفي انهيارها انتصار للقوات الرابطة على أبواب دولته.
الموقف العسكري
كانت المواقف العسكرية للدولة متشابهة دائما عبر القرون والأجيال، ويعتبر العصر الذي نعيشه في سنة 1984 أكبر امتهانا لقوة الإنسان، وشجاعة الإنسان، وشهامة الإنسان، وبهذا نختلف في المجالات العسكرية عن الأجيال السابقة كلها، وبالتالي، عن أجدادنا سنة 1880.
وخلافا لما يقال ويشاع في كثير من المناسبات التي نعايشها، فإن المواقف العسكرية لم تبق كما كانت رهنا بالشجاعة التي كانت إلى حدود سنة 1967 في حرب الفيتنام، ميزة مهدت للمقاتلين “الفيت كونغ” أن يحطموا عظمة التكنولوجيا الأمريكية، ويطردوا قوات العم سام، ويطردوا في نفس الوقت فكرة الحرب من عقول الرأي العام الأمريكي، الذي أصبح يفضل تلقي الصفعات على وجهه النظيف، والالتزام بنصائح المسيح بإعطاء الخد الأيسر لمن يصفع الخد الأيمن تفاديا للدخول فيما أصبح معروفا لدى الأمريكي بتعبير “دورثي وور” أو بالتعبير العربي “الحرب القذرة”.. حرب الفيتنام التي تطورت بعدها فنون الحرب تطور الراديو والتلفزيون.. لمسة أصبع تغير الموجة ولمسة أصبع تحول القناة التلفزيونية، فأصبحت لمسة الأصبع في المجال العسكري تطلق صاروخ “سام” يتوجه إلى السماء ليبحث عن الطائرة التي تساوي سبعة ملايير سنتيم مغربي، ويتعقبها يمينا ويسارا، ثم يلمسها فتنفجر، وقد تكون تلك الطائرة بدون سائق وإنما هي مسيرة بنفسها، بلمسة أصبع من أنامل ضابط كبير قابع في مكتبه.
ولنعد إلى الوضع العسكري منذ مائة سنة، لنقترب قليلا إلى شرف الحرب وشرف المحارب.
كان الوضع العسكري في المغرب أيام الحسن الأول مطبوعا باليأس والمرارة، فإنه لم تكن قد مضت أكثر من أربعة عشر عاما على هزيمة تطوان، التي كانت درسا لم تستطع الأحداث أن تمحيه من أذهان المغاربة، خصوصا وأن التحريات وأحاديث الرواة أكدت أن مسؤولية الهزيمة بالدرجة الأولى، ترجع إلى الانعدام الكلي للكيان الاستعماري في البلاد.
لقد كان لهزيمة تطوان سنة 1860 وقع على نفوس المواطنين المغاربة في عهد الحسن الأول، مثل وقع هزيمة سنة 1967 على نفوس العرب، وكانت مخلفات الهزيمة باقية ونكايتها في القلوب معششة.
فلماذا كانت هزيمة تطوان؟ وما هي ظروفها وملابساتها؟
حرب تطوان
كانت حربا مشؤومة سببها إصرار السلطان محمد الرابع على عدم تسليم اثني عشر مغربيا طالبت بهم العدالة الإسبانية لمحاكمتهم، وكانت هذه المطالبة مجرد مناورة لاستفزاز المغاربة على حدود سبتة، ورغم التهديدات، أصر الملك على رفض تسليم المطالبين للعدو الإسباني، وقال لهم: “لتكن الحرب إذا أردتم”.
ورغم أن السلطان بعث إلى مندوبي الدول بيانا مؤرخا بـ 25 أكتوبر 1859، ينبهها إلى سوء نية الإسبان، فإنهم أعلنوا الحرب على المغرب في فاتح فبراير 1859، وضربت البوارج الحربية الإسبانية الحصار حول شواطئ المنطقة، ونزل عشرون ألف جندي إسباني بقيادة الجنرال أودونيل، وخرجت فيالقه من سبتة بالسفن الحربية التي كانت تواكب سيرها، بينما كان أخ الملك محمد الرابع، مولاي العباس، يجمع المتطوعين لتعضيد صفوف الجيش الذي لم يكن مكونا في المنطقة إلا من خمسة آلاف رجل، وكان القائد العسكري للقوات الملكية، أمير الجيش، المامون الزراري، منكبا على اختيار المواقع على طول المنطقة الدفاعية لتطوان والمتجهة نحو سبتة، لكن أخطر جانب في هذه الحرب، هو استهانة الملك محمد الرابع بها.. فقد أبلغه مستشاروه أن الإسبان ضعاف جياع لن يتعدوا حدود سبتة، بينما حصل العكس، وتقدم الجيش الإسباني نحو واد نيكرو حيث يقام اليوم مصطاف “كابو نيكرو”، ولقنهم المغاربة درسا في الحرب توسع الكتاب الإسبانيون في الحديث عنه، خصوصا عندما اضطر الإسبان لركوب السفن والهروب أمام أنظار المغاربة “المنتصرين”، لكنها كانت خدعة، إذ أن السفن الهاربة عرجت يسارا وأفرغت الجنود الإسبان في الفنيدق، ليعيدوا كرة الهجوم.
وعندما أرادت الأقدار الإلهية تقديم الدعم للجيوش المغربية، فاض واد نيكرو وقطع خط الرجعة على الجيوش الإسبانية، فاختاروا التقدم وعبور واد سمير (الرستنكا)، ففاض بدوره، وبقوا بين وادين محاصرين مهزومين بدون عتاد ولا أكل، ولا نصير.
وكانت الفرصة الذهبية للجيش المغربي الذي أضاعها.. فقد انشغل أخ الملك محمد الرابع وقائد الجيش، بالهزة النفسية التي زلزلت الرأي العام في تطوان، الخائف المرتعش من اقتراب الجيوش الإسبانية، وكان أثر الفوضى التي حصلت بتطوان خطيرا على معنويات أفراد الجيش الذين كانوا قادمين من دكالة وعبدة وزرهون، والذين قالوا في أزمة غضب: ((إذن، ليدافع التطوانيون عن أنفسهم أو ليلقوا جزاء لهم))، فإن رجال الجيش لم يرضوا أن يبعث التطوانيون وفدا عند السلطان يطلبون منه حمايتهم أو الاتفاق مع الإسبان، ولعل هذه كانت هي الفرصة التي قال فيها التطوانيون للسلطان: ((احنا ما نضربوا ما نهربوا ما نقدوا على فتنة)).
ودخلت الجيوش الإسبانية لتطوان وبقيت فيها في تعايش كلي مع السكان مدة سنتين وثلاثة شهور، كان يمكن أن تزيد لولا أن سكان المناطق الجبلية المجاورة كانوا يهاجمون الجيوش المحتلة، ويقتلون فيه المئات، مما أذعن معه الجنرال أودونيل، إلى قبول المفاوضة مع أخ السلطان، مولاي العباس، والجلاء عن تطوان شرط أن يدفع السلطان لإسبانيا عشرين مليون ريال كان الشعب المغربي لا زال يدفعها أيام حكم الحسن الأول، حيث تقتطع من مداخيل الموانئ.