الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | متاعب السلطان مع البورجوازية الفاسية

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 9"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

الموقف الاقتصادي

كانت الوضعية الاقتصادية في المغرب عند تحمل الحسن الأول لمسؤوليات الملك مطبوعة بالاستقرار إلى حد ما، نتيجة الاختيار الشبه اشتراكي الذي كان يسود الأقاليم من جهة، والتنظيم المالي الذي نتج عن إصدار أبيه محمد الرابع لعملة وطنية تتطابق وروح العصر، بالإضافة إلى الإمكانيات التي سبق ذكرها من معادن ومصادر طبيعية ومعامل وإنتاج فلاحي يصدر للخارج.

فقد كانت الحياة في البادية خاضعة في أغلب حالاتها لنظام الجماعة، والرأي موكول لذوي الرأي والتجربة والسن المتقدم، وهم الذين يدين لهم الجميع بالامتثال والأمر كله بيد الجماعة ويد الله معها.

وكان هذا الاختيار الاجتماعي يسود البوادي بشكل يجعل سكان المدن يزاولون الاتجار والتصدير في إنتاج الوحدات الجماعية، مما خلق بورجوازية وطنية جشعة كما هو الحال في كل العصور.

وكانت البورجوازية الوطنية التي كانت متركزة متحصنة في مدينة فاس، هي المصدر الأول لمتاعب الحسن الأول في شهر ملكه الأول.. فبينما كانت الجماهير في مراكش لازالت تحتفل بتتويج الحسن الأول، دخل عليه أمين سره، عبد الكريم التازي، وأخبره أن الدباغين بفاس رفضوا أداء الضرائب وطالبوا أن يكون عهده عهدا بدون ضرائب، وهجموا على أمين الأمناء قابض الضرائب، محمد بنيس، ونهبوا بيته وهددوه بالقتل، مما اضطره للجوء إلى الحرم الإدريسي.

واتجه الحسن الأول إلى فاس لمعالجة الموقف، فاكتشف أن القضية أكبر من ثورة للدباغين، وأنها مناورة كبرى يحبكها بعض الأغنياء بفاس بتواطئ مع بعض العلماء قوبل بضعف وتخاذل من طرف عامل فاس، إدريس السراج، خصوصا وأن التجار حملوا السلاح وضربوا المدينة بالرصاص، فاضطر الحسن الأول إلى مواجهة الموقف بما يستحقه من حكمة وحزم، وضرب على أيدي المتمردين بفاس حتى اضطرهم للتراجع عن تمردهم وأرغمهم على أداء الضرائب حتى لا يكونوا قدوة لغيرهم.

وفي نفس الوقت، أمر باعتقال العامل المتواطئ إدريس السراج، كما أصدر قرارا بإعفاء بنيس من مهمة القباضة حتى يرضي جانبا هاما من الرأي العام الفاسي.

لكن الحسن الأول اكتشف حقائق أخرى جعلته يحول اعتقال العامل السراج للنفي في مراكش، حيث أمر بمعاملته لا كمنفي وإنما كمبعد سياسي يستحق العناية وحسن المعاملة.

بينما تأكد الحسن الأول أن رجالا مثل محمد بنيس، هم القادرون على صيانة الدولة بحزمهم ووفائهم لمبادئ السلطة، وبعد أن حجبه عن الأنظار مدة طويلة، منحه خلالها رخصة لتصدير القطاني إلى الخارج، رد له الاعتبار برسالة رسمية قبل أن يرقيه في مناصب متعددة ويعينه أمينا لعدة مشاريع بالمملكة، يحاسب الأمناء في كل المدن ويسهر على أموال الدولة.

وشغلت ثورة البورجوازيين بفاس اهتمام الحسن الأول لمدة ثماني سنوات، لكنها لم تمنعه من السهر على تسيير القضايا الوطنية ومواجهة الثورات التي كانت في أغلب الأحيان تنطلق من عوامل اقتصادية.

وعندما نتحدث عن البورجوازية في عهد الحسن الأول، فمدلولها مرتبط تماما بالرجعية، إذ كان البورجوازيون والرجعيون يجدون مبررات لدعم مواقفهم في الرفض المطلق لكل أنواع التجديد، وكما أن الضرائب نوع من التجديد، فإن القطار والتلغراف نوع من التجديد، وقد كان الحسن الأول على اتصال دائم بخبراء وعلماء فرنسيين بشأن إقامة خط حديدي واستقدام القطار إلى المغرب، مما أثار عليه علماء البلاد الممسكين بزمام النفوذ الفكري فيها.

وكان الحسن الأول مرغما على التعامل مع الأسواق العالمية، بحكم وفرة الإنتاج الفلاحي والمعدني بالمغرب، وهذا ما جره إلى السقوط في شباك المضاربات النقدية، وانبرت القوات الأجنبية الطامعة في المغرب، لخلق فوضى نقدية أنهكت القدرة المالية في عهد الحسن الأول.. فقد اعتمد الأجانب سياسة سحب عملتهم (الريال الإفرنجي) من أسواق مراكش وعرضه بنصف ثمنه في فاس، فأصبح تجار فاس يصولون ويجولون في استجلاب السلع الأجنبية بينما عجز تجار مراكش عن أداء التزاماتهم تجاه الأسواق الخارجية، مما اضطرهم إلى التوجه إلى فاس لشراء العملة الأجنبية بضعف ثمنها، فنفذت أسواق مراكش من العملة الوطنية وكانت الأزمة خانقة، إذ كان لها تأثير كبير على المواطنين ذوي الدخل المحدود.

استفتاء اقتصادي

    وأصدر الحسن الأول أول قرار مالي من نوعه، ففرض بمقتضى قانون، توحيد قيمة العملة في جميع أنحاء المملكة، وكان قرارا ماليا خطير الوقع على الأغنياء، إذ انقلب الوضع، وعوض أن يكون الفقراء في أزمة أصبح الأغنياء في أزمة، ولكن الأثرياء واجهوا قرار الحسن الأول بخزن السلع عن الأنظار، وأصبحت بضاعة الفلس الواحد تباع بعشرة، وهو أسلوب نعيشه اليوم على المستوى الوطني والعالمي.

وعندما فشل المخطط الأجنبي في تخريب الاقتصاد، وتجلى الإصرار الثابت من طرف الحسن الأول، لجأ إلى استغلال الأزمة الاقتصادية بإرسال تجار كثيرين لشراء العبيد والرق في الأسواق المغربية، إمعانا في التنكيل بالحسن الأول الذي كان غير قادر على إقفال أسواق العبيد، لأنه بذلك سيثير أزمة اجتماعية كبرى.. فقد كان العبيد كالممتلكات والحلي والجواهر.

وفوجئ الحسن الأول بأن حب المال دفع سكان سوس إلى التفكير في بيع أراضيهم وشواطئهم للأجانب، فكاتبهم في الموضوع مستفسرا، فردوا عليه بأن ((اتفاق الصلح مع الإسبان بعد جلائهم عن تطوان، ينص على السماح لهم بفتح مراسي في شواطئ سوس))، وفطن الحسن الأول إلى خطورة الموقف وتوجه إلى سوس سنة 1881، أي بعد تسع سنوات من توليه الملك، وهناك تولى رد الأمور إلى نصابها وإقناع الطامعين من تجار سوس بخطورة مراميهم، وكان الإنجليز قد استقروا بميناء طرفاية مستغلين الظروف الاقتصادية بالمغرب، لولا أن هروبهم كان سريعا بمجرد وصول الحسن الأول بنفسه عند أيت باعمران.. لقد أذهلهم وصول الملك.

ومضى الحسن الأول في خوض المعارك الاقتصادية بشكل فاجأ فطاحلة الاقتصاد الدولي سنة 1880، فقرروا تغيير مخططهم والتراجع عن مناوراتهم ومطالبة الملك بتخفيض الرسوم عن الصادرات، وجاء السفراء والوزراء من فرنسا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا يحملون نفس المطالب.

والحسن الأول الذي كان يربط في ذهنه بين الواقع الاقتصادي والواقع السياسي، لم يكن يستخف بالدهاء الغربي وبما تخفيه المطالب الدبلوماسية من نوايا، فابتدع أسلوبا جديدا في العالم العربي والإسلامي، وهو مبدأ الاستشارة، وانطلاقا من آية ((وأمرهم شورى بينهم)) وزع على مساجد المغرب وأسواقها منشورا يستفتي فيه الرأي العام الوطني: هل نعفي الصادرات من رسوم الوسق؟

وانبرت المعارضة المتطرفة لتقول: ((لا نصدر لهم بدون ضرائب إلا السيف))، ويقصدون الجهاد.

بينما تولت طبقة أخرى الدعوة إلى تصنيف الصادرات المعفاة، كالتخلص من الحشيش والتبغ بتصديرهما بدون رسوم، كما دعت فرق أخرى إلى التخلص من الخمر بتصديره.

وكان القرار الأخير والوسط، أن سمح الحسن الأول بإقامة تجربة لمدة ثلاث سنوات من الإعفاء، تتم خلالها دراسة فوائد هذه المرحلة فيما يتعلق بصادرات المغرب من القمح والشعير.

فأين بنا من ذلك العهد الذي كان المغرب يصدر فيه القمح والشعير بدون رسوم التصدير؟

الملك يراجع أوراق الامتحان

    ولقد فطن الحسن الأول إلى النقص الذي كان يطبع الدولة المغربية في ميدان المحاسبات وأثر ذلك على اختلال الاقتصاد، ففكر في تكوين محاسبين وطلب من عمال الأقاليم انتخاب مجموعات ذكية من المهتمين بفنون الحساب وتوجيه المرشحين إليه لاختبارهم وإرسالهم لإتمام التكوين بالخارج، وقد احتفظت الوثائق برسالة بعثها الحسن الأول إلى قائد الصويرة، غنية عن كل تعليق، إذ أن الحسن الأول اكتشف أن القائد أراد ترشيح من لا يستحقون الترشيح، فكتب إليه الحسن الأول بنفسه رسالة يقول فيها:

((وصيفنا الأرضى، الحاج عمارة بن عبد الصادق، وفقنا الله وسلام عليك ورحمة الله.

وبعد، فقد وصلنا كتابك وصحبته طلبة الحساب الذين وجهت بقصد اختبارهم عملا بأمرنا الشريف، فوجد أثر النجابة لائحا على الستة المذكورين بالطرة، ويليهم الثلاثة المذكورون إثرهم، حيث أمرنا باختبارهم، وما عداهم حشو لا يقبل التعليم، وعليه، فسرحناهم لحال سبيلهم وعين بدلهم ممن فيه قابلية التعليم، ووجه العشرين الباقين هناك بقصد اختبارهم ولابد، والسلام)).

في 23 صفر الخير عام 1293 (الموافق لـ 20 مارس 1876) الحسن بن محمد.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى