الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | قصة أول مصنع للسلاح في المغرب ودور زعماء اليهود في محاربة السلطان

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 7"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    مما لاشك فيه، أن العالم كان يعاني أزمة حادة وضعفا في الموارد الأوروبية، كانت أوروبا عظيمة، لكن عظمتها تنحصر في قوة أساطيلها الباحثة عن الثروة وعن المواد الخام، فلم يكن الاستعمار بعد قد بدأ في استغلال ثروات الأراضي الإفريقية التي كانت فعلا هي الفريسة التي انتعش لنهشها جسد أوروبا.

إلا أن المغرب، بحكم ماضيه وواقعه، كان يعتبر نفسه أيضا دولة قوية، فقد كانت له قواته المسلحة في أقوى مظاهرها، كانت له أساطيله العسكرية والتجارية، كان له تمثيل دبلوماسي لدى الدول العظمى، كانت له عملته بالذهب والفضة، وكان له رصيده التاريخي، كانت له – كما تقدم – مناجم الحديد والنحاس والكبريت، ومصانع السكر والقطن، واكتشف ولي العهد أيام السلطان محمد بن عبد الرحمان، أن شيئا واحدا ينقص المغرب ويثقل كاهل ماليته، وهو السلاح والعتاد. ورغم أن السلطان محمد بن عبد الرحمان كان يمتاز بميوله الثقافية والعلمية، حيث حرص على تأسيس أول مطبعة في تاريخ المغرب سماها المطبعة المحمدية، فإن ولده وولي عهده، الحسن بن محمد، كان يعتقد أن الثقافة لا تكفي وحدها لتقوية الدولة وأن السلاح هو الأساس، وحصل على ورقة بيضاء في هذا المجال من والده، لكنه لم يتمكن من تحقيق أمنيته إلا بعد أن أصبح ملكا على المغرب سنة 1873، فدخل في مفاوضات مع الحكومة الإيطالية التي أوجدت له الخبير “نوطير”، وتم الاتفاق على إنشاء أول معمل للسلاح بفاس، ومعمل للرصاص في مراكش، ودام بناء المعملين ثلاث سنوات، ولو قدر للزائر أن يرى معمل السلاح بفاس وضخامة بنيانه لتساءل: هل يمكن لنا اليوم أن ننجز منشأة من تلك الضخامة في ثلاث سنوات، وتكون إنتاجاتها من العظمة، بحيث أنها كانت تنتج مائة بندقية مع حربتها شهريا، ومصانع الرصاص تنتج 300 ألف رصاصة شهريا، وكان بمعمل السلاح بفاس جانب لضرب العملة؟ فهل قدرنا أهمية هذا المعمل؟ وهل فكرنا أو توفرنا على معمل مثله بعد مائة سنة ونحن اليوم نشتري الرصاص والسلاح، ولا ننتج طلقة واحدة في وقت نحن في أشد الحاجة لملايين القطع من العتاد؟

لقد كان انشراح الحسن بن محمد كبيرا وهو يزور المعمل ويرى الخبراء الفرنسيين والإيطاليين منكبين على الإنتاج مستعملين اليد العاملة المغربية، وحتى يفوز لنفسه بشرف التاريخ، فقد أمر بأن يكتب على بوابة المعمل بالنقش “دار السلاح أنشأها الأمير مولاي الحسن سنة 1308” تأكيدا على أن فكرة إنشاء ذلك المعمل كانت حلمه عندما كان أميرا وأنجزه عندما أصبح ملكا.

تقرير المصير ليهود المغرب

    وعندما أقبل عام 1880، كانت كل مقومات الدولة متوفرة للمغرب، إلا أن عتو عظمته كان يتحطم على صخرة التطور العالمي والغزو الحضاري والثقافي والتكنولوجي.

وكان هذا التطور يجتاح المغرب عن طريق التجار الأجانب، والبواخر التجارية، والعلماء الأجانب، والباحثين والدبلوماسيين، وكان أسلوب الاحتماء الذي أتيح لعدد من الميسورين المغاربة، الباب الواسع الذي ولجت منه مناورات الاستعمار إلى داخل أحشاء الأمة المغربية.

وعندما حان الوقت لجذب الصيد، تكاثرت الأيدي حول القصبة، وكشر الطامعون الأنياب، وقرروا أن يجلسوا حول مائدة المفاوضات، وأن يبعث المغرب من يمثله في هذه الجلسة حتى يحضر الخروف مجلس الذئاب، وكان المؤتمر هو مؤتمر مدريد، وكان المبرر لعقده هو دراسة مشكلة الحمايات الأجنبية بالمغرب، واستغل يهود المغرب الفرصة السانحة التي كانوا يرون فيها مناسبة – ربما – لاقتطاع جزء من هذا الوطن يقيمون فيه دولتهم، فهزوا العالم بحملة واسعة ضد المغرب وضد اضطهاد اليهود في المغرب، وكان البارون روتشيلد جد عائلة روتشيلد، هو النصير والممول لحملة اليهود ضد سلطان المغرب، واشترطوا أن لا يسمح بعقد مؤتمر مدريد إلا إذا كان سيتحدث عن “مبدإ تقرير المصير ليهود المغرب”.

الإنجليز يقولون: احتلوا هذه الجنة

    وهي فكرة اختمرت في أذهان أباطرة اليهودية العالمية، الذين كانوا لا يحلمون بإقامة دولتهم في إسرائيل، ونجد تيودور هرتزل، مؤسس الدولة اليهودية على مقياس كتاب حرره بقلمه وسطر فيه أعمدة الكيان الصهيوني سنة 1895، وأصبح ذلك الكتاب بمثابة التوراة الجديدة وعنوانه الأصلي بالألمانية “جودن شتات” (الدولة اليهودية)، ورغم أن هرتزل، الهنغاري المولد، سطر في كتابه علم إسرائيل مستوحى من نجمة داوود ونشيدها الوطني “هاتيكوا” (الأمل)، فإنه كتب في موضوع “موقع الدولة” بأنه “أي محل” (أي قطعة من الأرض)، وبذلك كان – ولا شك – يضع تطلعات يهود المغرب موضع الاهتمام، ولكنه أصاب في كل شيء حتى أنه قال: ((لقد أسست دولة إسرائيل بين صفحات كتاب ألفته في مدينة بال، وستخرج هذه الدولة للوجود بعد خمس سنوات أو خمسين سنة))، وحدث ذلك فعلا.

وكيف لا يسيل لعاب الطامعين أمام هذه الإمبراطورية الفيحاء التي تعادل في قوتها قوة فرنسا المنهوكة بحربها مع ألمانيا، وبريطانيا وإسبانيا، خصوصا وأن العالم الكبير كان يقتسم العالم الصغير، بينما المغرب جزء من هذا العالم الكبير، إلا أنه يختلف عنه في أنه يعتنق دينا هو الإسلام، يشكل خطرا على الدين المسيحي في نظرهم، ورسالتهم كانوا يعتقدون أنها منطلقة أساسا من استرجاع مجد سلبه منهم الإسلام، وها قد ضعفت شوكة الدولة العثمانية واحتل نابليون مصر، واحتل جيشه الجزائر وهم في مفاوضات مع تونس لحمايتها، ولم يبق إلا المغرب، هذا المغرب الذي هاموا بخيراته عشقا، وبموقعه الاستراتيجي جنونا، وهل هناك أبدع من الكتاب وأسبق من الصحفيين، اليوم مثل الأمس؟ بالأمس ومنذ مائة سنة، كتبت مجلة بريطانية تسمى “دي كارد” أيام “مؤتمر مدريد” تقول عن المغرب: ((يقال أن آجام شجر الورد وضيعات الزهور التي توجد في المغرب، تتجاوز في انتشارها وفي مزاياها تلك التي توجد في دمشق، بل وحتى تلك التي توجد في وادي المكسيك، ذلك أن الطقس العام في البلاد مناسب جدا، فهي تتلقى نسائم المحيط الأطلسي والبحر الأبيض، وتكفكف ثلوج جبال الأطلس من غلواء الحرارة فيها، بينما التربة شديدة الخصوبة، ويلائم هذا الطقس أشجار النخيل والليمون والبرتقال، وقد ظل التمر الذي تنتجه تافيلالت مشهورا منذ أيام الرومان، وينتشر فيها البرتقال انتشارا كبيرا، بينما يصدر المغرب كمية كبيرة من الزيتون واللوز))، وتضيف المجلة البريطانية قائلة: ((ولما كانت هذه البلاد الخصبة تقع على بعد خمسة أيام فقط من لندن عن طريق البحر، وهي تنتج ثروة كبيرة من الخضر، فإنه يبدو من الغريب أن لا يحاول الأوروبيون الاستفادة من هذا الفيض الغامر والعمل على تنميته في بلاد تجاورهم، ويعمدون بدلا من ذلك إلى الاتجاه في هذا السبيل إلى بلاد جد نائية مثل أستراليا وأمريكا)) انتهى كلام المجلة البريطانية، وهو غني عن كل تعقيب.

إنه لو اتبع البريطانيون كلام المجلة ولم تعطهم فرنسا مصر مقابل تنازلهم لها عن المغرب، لكان أولادنا اليوم يتكلمون الإنجليزية عوض الفرنسية بعد العربية طبعا، ذلك أن الفرنسيين سارعوا لسبق الأحداث وكتب أوجين إيتيان، مستشار فرنسا وخبيرها في شؤون الاستعمار يقول: ((إن لفرنسا في المغرب حقوقا وواجبات تفوق ما لغيرها من الدول الأخرى، وأن الأساس الأول لحقوقنا هو الجزائر. إن الجزائر قادتنا إلى تونس وينبغي أن تقودنا إلى المغرب)).

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى