الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | عندما كان المغاربة يخافون على الجزائر من الأتراك

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 3"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    إثباتا لواقع معركة إيسلي، وأسباب الخسارة المغربية، أورد هنا دراسة عن هذه المرحلة كتبها المؤرخ الأستاذ قدور الورطاسي، الخبير في شؤون الحدود، وتتضمن كل جزئيات المرحلة التي واكبت معركة إيسلي.

 

الخلل التاريخي

    في أواخر أيام السعديين، أخذت وحدة المغرب الأقصى تتعرض لاهتزازات من الداخل، الأمر الذي عرضها لاهتزازات من الخارج.

فـ”الرواد” الأتراك برغم ما كان لهم من مقاصد طيبة وفضائل لا تنكر في محاولاتهم الإيجابية لتطهير جل شعوب المغرب العربي من رجس الغرباء المحتلين، والطامعين في الاحتلال، فإن ضمائرهم ضعفت إزاء شعب المغرب الأقصى، فأخذوا يهزونه هزا خطيرا كلما شعروا بارتفاع درجة الاهتزازات الداخلية.

وإن ما أصاب الدولة السعدية في أواخر أيامها من تصدع خطير، حمل “الرواد” الأتراك على مضاعفة تسلل نفوذهم على الأقل فيما جاور حدود سلطتهم الغربية.

إذن، فقد كانت مسيرة الوحدة السلطوية في حاجة ضرورية إلى بطل عريق في البطولة متأصل الجذور من حيث عمق الإيمان بالله، وأصالة الرأي، وذلك لإصلاح الخلل التاريخي في مسلسل مسيرة الوحدة السلطوية والترابية.

 

فمن هو؟

    إنه بطل مسيرة الوحدة السلطوية والترابية الذي لا ينازع فيها تاريخيا، إنه المولى محمد بن الشريف علي العلوي المجيد.

ففي أوائل النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، تقدم على بركة الله، وفي عزيمة فولاذية، فنظف “وادي درعة” من سلطة أبي حسون السملالي، ثم هز الكرسي من تحت محمد الحاج الدلائي في ذات الزاوية وفي فاس.

ولما تأكد من فائدة جس النبض، وهي أن الشعب المغربي متلهف إلى منقذ لمسيرة الوحدة المغربية ولا ينتظر إلا الفرصة المواتية، قام برحلة إلى شرق المغرب، لاستعادة الثقة في السلطة المركزية من جديد أولا، وإبعاد أشباح الولاء لرواد الأتراك ثانيا، ولزحزحة سلطة “الرواد” الأتراك بالمغرب الأوسط حتى ينكمشوا على أنفسهم على الأقل ثالثا، فكان له ما أراد وأكثر، إذ ناشده الله وحرمة آل البيت حاكم الجزائر، التركي عثمان باشا، فأبرمت معاهدة تخلى فيها “الرواد” الأتراك عن “مس” وحدة المغرب الأقصى سلطة وترابا، وتعهد المنقذ البطل بعدم مس منطقة نفوذهم، على أن: ((منقذ الوحدة المغربية وإن أمضى المعاهدات المشار إليها، فإن نفسه لم تطمئن إلى وضع الرواد الأتراك في الجزائر، لاسيما وقد لاحظ تشوق الشعب الجزائري إليه لإنقاذه من سلطة الرواد، أثناء الأحداث التي أثارها في ندرومة وتلمسان، ومعسكر، فالمواطنون الجزائريون كلهم ناشدوه الله ودمه النبوي أن ينقذهم من الوضع المؤلم، بقبول بيعتهم له)).

وأعتقد جازما أنه لولا ما كانت تقتضيه عوامل داخلية لتثبيت السلطة في الداخل، لبادر إلى قبول بيعتهم، ولن يكلفه طرد الرواد الأتراك إلا جولات عابرة على أنه احتاط للأمر بإخفاء “وثيقة المعاهدة” عن حاشيته لحاجة له فيها استقبالا.

 

إلى متمم مسيرة الوحدة

    وما إن التحق بالرفيق الأعلى، حتى بادر خلفه أخوه البطل المولى الرشيد، إلى إعادة الكرة على الرواد الأتراك في الجزائر، للمقاصد التي كانت لأخيه المولى محمد بن الشريف.

لكن حاكم الجزائر التركي، أرسل إليه نسخة من المعاهدة، فأوقف عملياته احتراما لها، لاسيما وأنها كانت بتوقيع أخيه، الذي بكاه مر البكاء علاوة على توثيقه بيعة شيعته الأولى في شرق المغرب: بني يزناسن.

كما أن السلطة المركزية في المغرب الأقصى، ومعها الشعب المغربي، لم تكن راضية عن الرواد الأتراك، خوفا على حاضر الشعب الجزائري ومستقبله، إذ أن الغرباء لا يكادوا يشعرون بالخطر على أرواحهم إلا و”يطيروا حيث السلامة” ويتركون المواطنين الأصلاء عرضة للدمار والخراب، فالسلطة المركزية على اختلاف درجات نفوذها وسلطتها ومعها الشعب بأكمله، لم يكن لها أي مركب نقص إزاء رواد مسلمين ومنقذين، ولكنها كانت تخاف من مثل مآل هذه الحكاية: “اغتصب شخص ماعزا وتوجه إلى السوق لبيعها، فاغتصبت منه، فسأله والده: بكم بعت الماعز؟ فأجابه الولد: بالثمن الذي اشتريتها به”..

فالأتراك في الحقيقة استدعاهم الشعب الجزائري لإنقاذه من نفوذ الإسبان المحتلين لأمثال عنابة ووهران والجزائر العاصمة، ولكن قرصنتهم في البحر الأبيض كانت تضعهم في منطقة القرصنة العالمية لدى الرأي العام الدولي، وما مبادرتهم لتلبية طلب الشعب الجزائري إلا تغطية للقرصنة في نظر الرأي العام الدولي.

من هذه الزاوية، كان المغرب حكومة وشعبا، يتخوف على مصير الجزائر من الغرباء الغزاة الذين لا يلبثون أن ينقضوا على الجزائر بدعوى قرصنة بقرصنة، وكذلك كان.

 

الكارثة المنتظرة

    أهمل السادة العلويون مؤقتا “شأن الرواد الأتراك” عملا بالأثر: اتركوا الترك ما تركوكم، واتجهوا من مجالات الترميم والإصلاح والبناء إلى تنظيف الشواطئ من نفوذ الإسبان والبرتغال، ثم تدعيم الوحدة الترابية في الخارج بإبرام العهود والاتفاقيات المتنوعة مع مختلف الدول التي أحست بأن السادة العلويين استطاعوا في فترة قصيرة أن يعيدوا مجد قرطبة في عهد عبد الرحمان الناصر على الخصوص، لا سيما وقد بلغت الثقة بهذا المجد في نفس المولى إسماعيل، أن دعا ملك إنجلترا إلى الإسلام، وطلب يد ملك فرنسا على إحدى كرائمه، الأمر الذي تجاوز نطاق عبد الرحمان الناصر إلى عهد النبوة والرسالة في دعوة الملوك إلى حظيرة الإسلام.

سارت الحياة على هذا المنوال، وشعب المغرب أعز وأمنع بلد إسلامي على وجه الأرض، إلى أن كانت كارثة احتلال عاصمة الجزائر من لدن فرنسا أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري ونهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وفي عهد المولى عبد الرحمان رضي الله عنه.

 

ما الموقف الإسلامي إزاء الكارثة؟

    كان المولى عبد الرحمان في جولة تفقدية بمراكش، ولما بلغه الخبر، رجع باستعجال إلى العاصمة فاس، وكان على رأس ولاية وجدة، إدريس الجراري، الذي حمل إليه رسالة من أهالي تلمسان تناشده الله والدم النبوي أن يتقبل بيعتهم لإتاحة مبرر الدفاع عن الشعب الجزائري بطرد الفاتحين الفرنسيين من ترابه بعد أن تخلى عنه الأتراك كما كان متوقعا من قبل.

فما كان من المولى عبد الرحمان إلا أن سارع إلى قبول البيعة لتبرير الدفاع عن الشعب الجزائري بصفة شرعية.

وما هي إلا أيام، حتى كان نائبه بتلمسان مع والي وجدة والعدة والعتاد في نطاق الاستعجال ريثما يتمكن من توفير العدد والعدة للمعارك المقبلة، وقد تكون طويلة الأمد.

 

ظهور الحاج عبد القادر

    لم تثمر مبادرة المولى عبد الرحمان كما كان من المنتظر منها.

وفي بضعة شهور، ظهر الحاج عبد القادر بن محيي الدين مريدا الجهاد بعد أن اشترط عليه الولاء للمولى عبد الرحمان وقبله في رسالة تاريخية أشير إليها في “الاستقصاء”، وتجدر الإشارة فقط إلى أن الحاج عبد القادر بن محيي الدين من أصل أدارسة “تافريست” بإقليم الناظور، هاجر أحد أجداده إلى الجزائر حيث أسسوا زاوية للعلم والتربية وأعانتهم غربة الدار على لفت الأنظار، والإقبال على مؤسستهم حتى استقرت في النفوس خير استقرار.

وحينذاك، أخذ المولى عبد الرحمان يمده بالمال والعتاد والرجال وهو يخوض المعركة تلو المعركة مع جيوش الاحتلال.

غير أن المؤرخين يذكرون أن مقاصده كانت تقف عند حدود الغلبة والانتصار دون اهتمام كبير بتحرير المناطق وتحصينها من جيوش الاحتلال، وذلك ما جعله يفقد أرضية المعارك وينتقل بسرعة عجيبة من مكان إلى مكان، حتى لقبه قادة الاحتلال بـ”أبو ليلة وأبو نهار”.

وأخيرا، وبعد اثنتي عشر سنة داخل التراب الجزائري في غير استقرار مكين، لجأ إلى شرق المغرب ووجد في زاوية السادة البودشيشيينالقادريين، وشخصية رئيسها السيد المختار، خير معين ومساعد.

ومن شرق المغرب، أخذ يتزود بالرجال والمال والقوت لشن الغارات على المحتلين بالجزائر حتى افتقدت المناطق الغربية للجزائر كل أمن وراحة.

 

والآن.. معركة وادي إيسلي

    لقد توالت غارات الحاج عبد القادر على التراب المغربي، وقادة جيش الاحتلال متأكدون جدا من نصرة السلطة العليا وقبائل شرقي المغرب بما فيها قبائل “قلعية”.. فإلى متى الصبر على هذه الغارات؟

وفعلا، أخذوا يشنون الغارات على قبائل حدوده الشرقية، فضاق المولى عبد الرحمان ذرعا بالاعتداءات المتوالية على الحدود، فأعد جيشا على رأسه ولي عهده، ابنه محمد الرابع..

وفي وادي إيسلي، تجمع له ستون ألفا من الرجال فرسانا ورجالا، وأكثرهم من الفرسان، وبطبيعة الحال، علم بذلك الحاج عبد القادر، وأتى إلى قرب المحلة وخيم وهو على رأس خمسمائة من أشد فرسانه، ولما تحرك ولي العهد وانعزل بقوته، انعزل الحاج عبد القادر ليراقب النتيجة.

وحدث ما يحدث عادة في بعض المعارك من الخلل، والنصر على الأبواب، فانسحب ولي العهد، ومعه قوته، فاستغل العدو هذا الانسحاب الضروري، فأرخى عنان هواه، ولكنه سرعان ما شعر بالخطر، فارتد على أعقابه.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى