الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الجزائر كمتهمة في قضية المهدي بنبركة “الحلقة الأخيرة”

لعل قراءنا الأوفياء الذين تابعوا هذه السلسلة المكونة من أكثر من 50 حلقة عن جريمة اغتيال الزعيم والمناضل السياسي المهدي بنبركة، لا زالوا متعطشين لمعرفة المزيد عن هذه القضية التي لم تتكفل 60 سنة بفك لغزها، خصوصا وأن الأدوار اختلطت بين المخابرات الفرنسية والمخابرات الأمريكية، و”الموساد”، وخرج المغرب منها باتهام ثقيل.

لكن ارتباطا بكل ما سبق ذكره، خصص مؤسس جريدتنا الراحل مصطفى العلوي حقيقته الضائعة المنشورة سنة 2010، إضافة جديدة تتهم الجزائر في القضية نفسها.. قضية اغتيال المهدي بنبركة، التي تنشرها “الأسبوع” في هذا العدد لإحاطة الموضوع من كل جوانبه، وتنهي هذه السلسلة التي لا زالت الأيام لم تفك لغزها بعد.

بقلم: مصطفى العلوي

    بعد الحجج الثابتة على تورط المغرب في ملف اختفاء وقتل الزعيم التقدمي الكبير المهدي بنبركة (29 أكتوبر 1965)، كانت السنون التي مرت على هذا الحدث الفاصل بين الحق والباطل، كافية لإثبات تورط الدولة الفرنسية بأجهزتها وحكومتها وبوليسها، ومثقلة الحجج في اتهام الولايات المتحدة ومخابراتها، وهي التي أصدرت وقتها منظمة “السيا” الحكم بإعدام المهدي بنبركة.. في تلك الفترة التي تحالف فيها مع فيديل كاسترو رئيس كوبا، الذي صفع الإمبراطورية الأمريكية على وجهها في حادثة 1963، حين أوقف الأسطول الروسي أساطيل الرئيس جون كندي من غزو كوبا، وجاء المهدي بنبركة محملا بأقطاب الأنظمة الإفريقية والآسيوية، لمساندة الثورات الحمراء في أمريكا الجنوبية.

تتمة المقال بعد الإعلان

كذلك كتب أقطاب الصحافة الإسرائيلية، بعد موت مدير المخابرات الإسرائيلية (الموساد) المسمى كيمحي، أن التحقيقات المنشورة سنة 1991 والمتخصصة في التاريخ السري لـ”الموساد”، تورط كيمحي في اغتيال المهدي بنبركة بعد طلب أوفقير من كيمحي مساعدة المغرب في اعتقال المعارض المغربي، وهو ما يكفي من الحجج لإدانة الأجهزة الإسرائيلية التي استعملتها” السيا” الأمريكية لاستدراج وقتل المهدي بنبركة.

فهل يكون تلميحي للدور الجزائري في عملية الاختطاف مجرد مزايدة سياسية للانتقام من الدور الحالي للجزائر في ضرب الخناق على المغرب، خصوصا وأن المشارك في كل القرارات الجزائرية يوم اختطاف بنبركة، كان هو عبد العزيز بوتفليقة؟

طبعا، ليس من الأخلاق أن يُلقي صحفي مغربي ترهات على عواهن دولة جارة دون أن يكون متمكنا من عناصر إثبات، فالسيد بوتفليقة، رئيس الدولة الجزائرية الذكي.. والحاد التفكير، كان رئيسه السابق الهواري بومدين، وهو يحضر للانقلاب على أحمد بنبلة، كبير الاعتماد على مستشار آخر له كان يحتل بالنسبة للرئيس بومدين نفس المكانة التي كان يحظى بها عبد العزيز بوتفليقة، ويتعلق الأمر بالمستشار والوزير، والخبير الإعلامي الجزائري الكبير(..)، الذي كان وقت اختطاف المهدي بنبركة في باريس هو المستشار محيي الدين عميمور، الذي كشف العلاقة الدفينة(…) بين الأجهزة الجزائرية وقضية اختطاف المهدي بنبركة.

تتمة المقال بعد الإعلان

وفي سرده لفترة حالكة من تاريخ العلاقات الجزائرية المصرية، قال عميمور بأن أياد أجنبية هي التي كانت وراءها، فتم في يوم احتفال الثورة المصرية بعيدها الوطني يوم 23 يوليوز 1964، نسف الباخرة المصرية “الإسكندرية” في ميناء عنابة بالجزائر.

ويساير الكاتب عميمور الحدث ليحكي أنه تم طي ملف الانفجار، ويؤكد أن أي أحد منذ ذلك التاريخ لم يعرف الحقيقة، ليحدث انفجار آخر في منطقة سيدي فرج، ويتعمق في الفاعلين ليكتب بدقة بالغة: ((لقد قيل أن أفرادا من تلك المجموعة كانت مورطة في قضية اغتيال المهدي بنبركة على الأراضي الفرنسية)) (كتاب “هواري بومدين”، محيي الدين عميمور).

فكيف يلمح مستشار الرئيس الهواري بومدين في أحداث تسلسلت بعد سنة 1964، إذن جرت في 1965، إلى تواجد أفراد من تلك المجموعة مورطين في قضية اختطاف بنبركة؟

تتمة المقال بعد الإعلان

وطبعا.. هذه أول مرة يتم التلميح إلى وجود عناصر جزائرية مورطة في اختطاف المهدي بنبركة من طرف مستشار للرئيس بومدين..

ميكيافيليا(…)، وأمام التعاون الحميمي الذي كان وقتها بين مدير الأمن الجزائري، درايا، والدليمي، مدير الأمن المغربي نيابة عن أوفقير.

فقد تكون الأجهزة المغربية نجحت في استقطاب الدعم الجزائري من أجل تنفيذ حكم الإعدام الذي أصدره القضاء المغربي في حق الزعيم بنبركة، وهو إعدام يحقق من جهة أخرى أهدافا جزائرية من أجل إفساد سمعة الملك المغربي الحسن الثاني، الذي كان جيشه قد أعطى صفعة للجيش الجزائري في حاسي بيضا، سنتين من قبل.

تتمة المقال بعد الإعلان

ولكن الواقع، هو أنه يوم 29 أكتوبر 1965، يوم اختطاف بنبركة في باريس، كان مدير الأمن المغربي، الجنرال الدليمي، متواجدا في الجزائر، ومنها – تؤكد جميع الأخبار والوثائق والكتب المنشورة – أن الدليمي توجه من الجزائر إلى باريس رأسا، للدخول على المهدي بنبركة في بيت بوشسيش، الذي كان محتجزا فيه عشية ذلك اليوم.. فماذا كان يعمل في الجزائر؟ وكيف رافقه مدير الأمن الجزائري إلى مطار الجزائر، ليركبه على طائرة متوجهة إلى باريس في نفس اليوم الذي اختطف فيه بنبركة؟

رسالة مدير المخابرات الفرنسية الجنرال جاكيي لقاضي التحقيق الفرنسي يخبره فيها بدور الرئيس الجزائري بنبلة في مصير المهدي بنبركة

هناك وثيقة من الوزن الثقيل توضح حقيقة الفخ الذي نصب لبنبركة، ودور الحكومة الجزائرية فيه.. كتبها وأمضاها مدير المخابرات الفرنسية الجنرال جاكيي، وترد فيها عبارات تفيد بأن بنبركة، أثناء محاولات الملك الحسن الثاني استقطابه للرجوع إلى المغرب، ((كان متواجدا بالجزائر، وسيبقى بها إذا سمحت له الحكومة الجزائرية بذلك(…)، وكان أوفقير يعتقد أن الرئيس بنبلة سيقترح، بعد اجتماعه بالملك الحسن، طرد بنبركة مقابل الحصول على شيء آخر(…))) (اقرأ رسالة الجنرال جاكيي).

أوفقير مع بنبلة.. وبنبركة في الجزائر، والدليمي يلتحق بباريس بعد اختطاف بنبركة.. إنه شيء يفوق المؤامرة ويتعداها.

تتمة المقال بعد الإعلان

ونحن نذكر المهدي بنبركة في هذه المناسبة الأليمة، التي تكرس كل جزئياتها التحالف القديم للقوات الإمبريالية وذوي المصالح الآنية، لاغتيال المهدي بنبركة في زمن قتل فيه العشرات من أقطاب الحركات التحررية، دون أن نتوسع في التحالف الجديد لأصدقاء المهدي بنبركة، الذين تنازلوا عنه وعن البحث في ملفه، وباعوا الطرح ليدخلوا في صمت مطبق مع من بقي من منفذي عملية الخطف.. والقتل.

أقول القتل.. وليس الاغتيال، لأنه إذا كان ضربا من الخيال ما توسع الكثير من الكتاب في ترويجه من سيناريوهات مدفوعة الثمن، من قبيل تمزيق جسم المهدي بنبركة بخنجر أوفقير، وتذويبه في صهريج الكلور بالرباط، وإحضار رأسه في صحن لتقديمه للملك الحسن الثاني.

والذي يعرف الملك الحسن الثاني حق المعرفة، وحتى الذين يتهمونه كبير الاتهام، لا يمكنهم تكذيب رسالة المهدي لزوجته غيثة، والتي يخبرها فيها بأن هناك رغبة ملكية لرجوعه إلى المغرب، ولا ينكر أحد أن الجنرال أوفقير كان متعرضا لهذا المخطط بكل قواه، وإن كان الواقع الذي تشهد به المجموعة المغربية التي كانت مرافقة للدليمي يوم وصوله إلى باريس عشية 29 أكتوبر 1965، وزبانية أوفقير التي رافقته أثناء الوصول إلى باريس صباح 30 أكتوبر 1965، والذين لا زالوا متمترسين خلف الخوف والسرية وعقاب الضمير، لم يجدوا الشجاعة التي تحلى بها منظم عملية الاختطاف، “أنطوان لوبيز”، الذي اتصل تلفونيا بخليفة أوفقير في الرباط، الفقيه بلعالم والقبطان بن سليمان، ليخبرهم بأن بنبركة قد تم اختطافه.

“لوبيز” صرح مؤكدا لمجلة “باري ماتش” ما يؤكده قتلة المهدي بنبركة الذين هربوا للمغرب.. “دوباي” و”باليس”، الذين احتفظوا بالمهدي في فيلا بوشسيش بـ”أورموا”، وعندما وصل الجنرال الدليمي، وكان صاحب الحقنات المغربي المعروف بالممرض، قد حقن المهدي بحقنات مسكنة في انتظار وصول الدليمي أو أوفقير، فوصل الدليمي أولا، لأن أوفقير كان في القصر الملكي بفاس، ووصل إلى باريس عشية يوم 30 أكتوبر 1965، وكان الدليمي قد غادر باريس صباح نفس اليوم، ((ولقد أكد الاتحادي محمد الحبابي، أن المستشار إدريس السلاوي صرح له بأنه كان زوال يوم الاختطاف مجتمعا مع الحسن الثاني في فاس، فدخل أوفقير مذعورا ومتوترا وهمس في أذن الملك بالخبر)) (الحياة. عدد 27 يونيو 2008).

إذن.. كان المهدي قد مات قبل وصول أوفقير، أما كيف؟ فكل القرائن المؤكدة توضح أن بنبركة بعد أن شاهد الدليمي داخلا، وقف خائفا، فضربه أحد الفرنسيين العتاة، ولعله “لوني”، بضربة على قفاه كانت هي القاضية.

وقد يكون الكاتب المغربي أورحو، صاحب كتاب الحسن الثاني في الآخرة، هو أقرب إلى الطريقة الأخرى لموت بنبركة، والذي روى على لسانه في الآخرة أنه قال: ((لقد حقنني الممرض السلاوي المعروف بحقنة.. لم أفق منها إلى أن وجدت نفسي في الآخرة)).

“لوبيز” حكى لمجلة “باري ماتش” – حسب رواية الصحفي بيير توكوا، أنه بعد موت المهدي بنبركة نقل ودفن غير بعيد من البيت الذي كان معتقلا فيه، بحي “أورموا” غير بعيد من بحيرة “بوزاس”، وهي المنطقة التي أصبحت اليوم منطقة سكنية راقية تسمى “إيفري”.

أطروحة واحدة تؤكد هذا المصير.. وتعطيه مصداقية كبرى، لماذا؟ لأنه إذا كان من المؤكد أن الملك الحسن الثاني يعرف.. كما تعرف المجموعة المغربية التي كانت مرافقة للجنرال الدليمي يوم 29 أكتوبر 1965، والتي لا زال عدد من أعضائها متواجدين يأكلون القوت وينتظرون الموت، فإن الحسن الثاني الذي يعرف موقع دفن جثة المهدي بنبركة هو الذي أمر في سنة 1984 ببناء مسجد مغربي فوق الموقع الذي دفن فيه المهدي بنبركة، وصرف على بناء ذلك المسجد من ماله الخاص، وهو المسجد الذي لا زال قائما إلى الآن ويسمى مسجد “إيفري كوركورون”.

وعلى كل من يريد أن يترحم على روح المهدي بنبركة، أن يركب سيارته ويتوجه لصلاة ركعتين في مسجد الحسن الثاني المتواجد في المنطقة التي تسمى بالفرنسية la mosquée d’Eury Courcouronnes.

أما المغاربة الذين حضروا قتل المهدي، وشاركوا في دفنه(…) أو إحراقه كما ذكر الضابط الفرنسي جورج فلوري، الذي أكد أن ((رجال الدرك الفرنسيين وجدوا في المنطقة ركاما كبيرا من الرماد على قطعة من الثوب وقطعة من الجلد، لم يكن وقتها ممكنا إنجاز تحليل للحمض النووي)) (الاتحاد الاشتراكي. 13 أكتوبر 2009)، لذلك قال بعضهم إنه لن يعثر أحد على جثمانه.. الله وحده هو الذي سيأخذهم أخذا وبيلا.. قريبا في الدنيا، أو بعيدا في الآخرة.

انتهى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى