الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | أوفقير وسيناريو اختطاف بنبركة مقابل المال “الحلقة 54”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    في خضم هذا المسلسل، وقعت الكارثة، وأسماها الكوميسير بوفيي، رئيس الشرطة الجنائية الفرنسية “الحادثة”، أطلق عميد الشرطة بوفيي هذا العنصر في جلسة 26 أبريل 1967 أثناء المحاكمة الثانية، أي بعد حوالي سنة ونصف على الاختطاف، وبالتالي، بعد أن تمكن عميد الشرطة، بعد ثمانية عشر شهرا من التأكـد من احتمالاته، فتحدث في تلك الجلسة وكأنه يتأسف على ما حصل، بأنه في خضم الاتصالات “حصل ما لم يكن منتظرا”، ويستوقفه المحامي فلوريو مسرعا: “ماذا حصل؟”.. وبعد أيام من التفكير، وفي جلسة فاتح جوان، وقبل نهاية الجلسات الأخيرة، يقول العميد بوفيي: ((لا أدري، ولكن ما حدث لم يكن على أية حال منتظرا.. لقد حدثت الحادثة)).

هل الحادثة هي مصارعة المهدي بنبركة مع صاحب بوشسيش، الذي قالت زوجته لأحد قضاة التحقيق في فاتح دجنبر 1976، أن زوجها لما رجع عندهـا للمغرب، بعد الاختطاف، كان عصبيا وقال لها: “لقد ارتكبت غلطا فادحا”؟ وهل هو الذي ضرب المهدي ضربة رجال العصابات على قفاه، وكانت مكسورة في حادث الاصطدام الذي تعرض له بالمغرب سنة 1963، أم أن الحادثة التي يقصدها العميد بوفيي هي اختطاف بنبركة من طرف “فيكون” ودخوله في دوامة المزايدات المالية؟

إن الاحتمال الأول على أية حال، يتناقض مع ما ارتبط بـ”فيكون” من أحداث، إذ لو كان المهدي بنبركة قد قتل قبل ثالث نونبر 1965، لما حصلت الأزمة الكبرى التي انتهت باغتيال “فيكون” في بيته، ولما عاد الدليمي إلى باريس يوم فاتح نونبر 1965، ولما عاد أوفقير إلى باريس يوم 2 نونبر 1965، ولما حضر حفلة العشاء الرسمية في سفارة المغرب مساء ثالث نونبر.

تتمة المقال بعد الإعلان

– خامسا: أهمية هذا العشاء، الذي أقيم في بيت سفير المغرب ليلة ثالث نونبر 1965 على شرف بعض العمال المغاربة الذين كانوا يتدربون في فرنسا، تكمن في كون أوفقير حضر شخصيا للحفلة وتغيب عنها صديقه وزير الداخلية روجي فري، ولكن الوزير الفرنسي استدعى الموظف الذي سينوب عنه في العشاء، وهو مدير الأمن كريمو، الذي مثل أمام المحكمة في جلستها الحادية عشر، يوم 16 شتنبر 1966، وحكى بكل اتزان هذا الحوار المفيد: ((لقد قال لي وزير الداخلية روجي فري، أن أقترب من أوفقير وأستطلع رأيه في الأحداث. وفعلا، وبعد العشاء، سألت أوفقير: ما رأيك.. هل سمعت بقضية اختطاف بنبركة؟ فأجابني أوفقير: نعم، إن له أعداء كثيرين.. إنما.. هل هو اختطاف حقا؟)) مدير الأمن كريمو، لم يغادر قاعة المحكمة إلا بعد أن سجل ملاحظة تغني عن كل تفسير.. لقد قال: ((على أية حال.. لو أن جهاز المخابرات الفرنسية أبلغنا ورقة المعلومات بشأن الاختطاف في وقتها، لكنا قد اتصلنا ببنبركة وقررنا معه ماذا كان يجب أن يتقرر))، إنما ماذا يفهم من السؤال الذي طرحه أوفقير ردا على سؤال مدير الأمن كريمو وقوله: هل هو حقا اختطف؟ ألم يكن يريد الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بعملية استلاب للمال؟

– سادسا: وتعود العناصر المتوفرة والمتعددة للرجوع بنا إلى “فيكون”، الذي تزداد الأضواء اكتشافا وكشفا لدوره الخطير، فنجد أن هذا الإرهابي الخطير كاد أن ينقذ المهدي بنبركة قبل اختطافه، وكاد هذا التصرف أن يحدث من طرف “فيكون” لا شعورا إنسانيا ولا إشفاقا أخلاقيا، وإنما لأن عملية مبادلة بنبركة بالمال بدت له قبل الاختطاف.. وهكذا نجده في عاشر أكتوبر 1965 يهدد “لوبيز” بأنه إذا لم يحصل على المال مقابل تمهيده لمشروع الفيلم، فإنه سيخبر بنبركة بكل ما يدبر ضده، وقد نقل “لوبيز” للمحكمة هذا الاعتراف الخطير عن هذه المقابلة التي تمت قبل الاختطاف بتسعة عشر يوما، بل إن “فيكون” ذهب إلى أبعد من هذا، حينما لم يجد جوابا من “لوبيز”، ولا بعث له أوفقير مالا، وطلب الاجتماع بالصحفي فرانسوا برينيو، مدير جريدة “مينوت” المشهورة بالفضائح، واجتمع به يوم 12 أکتوبر 1965، وأعطاه تصريحا يتضمن مشروع الاختطاف الذي يحضر ضد بنبركة، وقال برينيو أمام المحكمة: ((لقد صرح لنا فيكون بقوله: للقضاء على بنبركة نحصل على مائة مليون، ولقد نظمت العملية مع بعض الرفاق، واختلقنا مشروع فيلم عن الاستعمار، لكن المغاربة أعلنوا أنهم تراجعوا عن المشروع، ويرفضون الآن دفع المال، رفضوا إعطائي أربعين مليونا صرفتها في الإعداد لما يسمى مشروع الفيلم، والآن، وما دام هذا هو تصرفهم، فإني لن أتراجع، إن بوشسيش الثخين، ليس متحمسا، ولكن لا يهم، سأستعمل وسائل القذارة))، ويحكي مدير جريدة “مينوت” أنه صفف الموضوع وهمّ بنشره كسبق صحفي لولا أن “فيكون” كان يتصل به يوميا ليقول له: أجل للغد.. انتظر يومين.. وقال له يوما: “إذا نشرت الموضوع، فسوف تسقط جثتي”، ويوم 19 أكتوبر، عشرة أيام قبل الاختطاف، ذهب بنفسه إلى إدارة الجريدة، وقال: “لا تنشروا شيئا على الإطلاق”. لقد ظهر أن الضغوط انهالت عليه من طرف الأجهزة التي كانت تعرف قضية الموضوع الصحفي، فهددوه بالموت إن هو نشر ذلك، كما أنه لا يخفى على أحد أن بعض العاملين في جريدة “مينوت” يشتغلون مع المخابرات، إذ ثبت أن صحفيا اسمه كوهيي، كان يحمل بطاقة الشرطة السرية، ويفهم من هذه العناصر: أولا، أن أوفقير إذا كان متفقا مع “لوبيز” على مشروع الاغتيال، فإنه كان مترددا، أو تراجع في آخر ساعة، لذلك لم يدفع المائة مليون، وثانيا، أن اتجاه الاختطاف على يد المخابرات الفرنسية، سواء لغرض تقريب بنبركة من حكومة الرباط، أو لتنفيذ مشروع كاي بإنقاذ بنبركة، والحصول على الاعتراف الدولي، بقي نافذا، ولم يتم التراجع عنه حتى عندما وصل إلى صحيفة لم تنشره.

الاتجاه الأول، يتأكد على صفحات الكتاب الذي أصدره “لوبيز” سنة 1971 عن دوره في قضية بنبركة، وذكر فيه بالحرف: ((لقد توجه “فيكون” عند أوفقير بعد وصوله لباريس، وأخبره أنه اختطف بنبركة ويحتفظ به كرهينة، ولن يسلمه إلا مقابل المال الرنان)).. هنا يفهم مرة أخرى سؤال أوفقير لمدير الأمن كريمو في النقطة الخامسة من هذا الفصل.

تتمة المقال بعد الإعلان

– سابعا: ولنتتبع مراحل هامة أخرى، تثبت أن بنبركة بقي حيا إلى ما بعد ثالث نونبر 1965، ولنراجع برنامج “فيكون” في أعقاب الاختطاف.. لقد قال “لوبيز” في كتابه: ((إن “فيكون” استغل فرصة ذهاب “لوبيز” إلى مطار “أورلي” لانتظار أوفقير، فاختطف بنبركة من بين أيدي بوشسيش (الثخين الذي لم يكن متحمسا) حسب قول “فيكون”))، وربما سكت بوشسيش، وترك “فيكون” يعمل، وهذا ما قد يفسر قوله لزوجته: “لقد ارتكبت خطئا فادحا” (انظر النقطة الرابعة من هذا الفصل).. فماذا فعل “فيكون” فيما بعد؟ لقد ركب الطائرة صباح فاتح نونبر 1965، وتوجه إلى بروكسيل لزيارة صديقته ماري كوفيني، التي وقفت أمام المحكمة في جلستي 30 شتنبر، وخامس أکتوبر 1966، وقالت: ((لقد كان منشرحا وهو معي في بروكسيل، وقال لي: إنني بصدد قضية من ذهب.. قضية حكومية مثل قضية الكولونيل أركو، وأنه مسنود من طرف الحكومة من الألف إلى الياء)). الكولونيل أركو هو الذي سبق الحديث عن الطريقة التي اختطفته بها المخابرات الفرنسية من ألمانيا بمشاركة المجموعة التي اختطفت بنبركة.

يتبع

تتمة المقال بعد الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى