الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | كيف ضاع بنبركة بين مخالب العصابات “الحلقة 53”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

     “فيكون”.. ودائما “فيكون”.. “فيكون” كما ورد في الفصول السابقة، كان عميلا مزدوجا.. من جهة للمحامي لومارشان الذي رافقه إلى جنيف للتعاقد مع المهدي بنبركة بشأن الفيلم، والذي حرر الأسئلة الموجهة لبنبركة بخط يده، ومن جهة أخرى، للمال، “فيكون” الذي سبق أن قال على شاشة التلفزة بعد خروجه من السجن، موجها كلامه للصحفي: ((لو كنت معك في هذا الاستوديو، وكانت هنا مائتا مليون، لقتلتك من أجلها)).

مرات عديدة ورد الحديث عن الملايين التي يطالب “فيكون” بها، وعن تهديداته من أجل الحصول على تلك الملايين، وإذا كان الكوميسير كاي قد رفض اعتقال “فيكون” رغم ثبوت اجتماعه به بحضور المحامي لومارشان، فإن السبب المقبول هو أن المهدي بنبركة كان بين يديه وكان يطلب خمسمائة مليون، ربما كان لومارشان طامعا في جزء منها، ولم يكن من مصلحة لومارشان أن يتم اعتقال “فيكون” المعروف بالمجنون، فربما صرح بالمحل الذي خزن فيه بنبركة، ولكن يدا أخرى أرسلت مبعوثا خاصا لاغتيال “فيكون” في الشقة التي لم يكن يعرفها إلا هو والمحامي لومارشان.

إذن، “فيكون” اختطف بنبركة من معتقله في “فونتوني لوفيكونت”، وحجزه في محل سري.. فما هو نصيب هذا الاحتمال من الصحة؟

الاحتمال، ليس مفردا وإنما متعددا، وأوجهه المتعددة تضاهي احتمالات الشك، وتستوجب المزيد من البحث والتحري.

– أولا: كان الصحفي برينيو من جريدة “مينوت”، على اتصال بـ”فيكون”، وقد مثل أمام المحكمة للإدلاء بشهادته التي نقل فيها آخر ما أسره إلى “فيكون”: ((لقد قال لي أنه قرر أن يقلب الأوضاع لفائدته، أن يختطف “شارلو” ويقصد به بنبركة، ثم تنهال العروض، كل ما كنا نريده هو المال الرنان، تماما على طريقة المعلم جواتيا))، ويذكر القراء القصة المسرودة في حلقات سابقة عن جواتيا، كبير الإرهابيين، عندما كلفه أحدهم باغتيال صهره، فتوجه إلى الصهر واتفق معه على الاختفاء، ثم رجع إلى الراغب في الاغتيال وأخبره بأنه نفذ المهمة، وأخذ منه المقابل قبل أن يطلب من الصهر الظهور.

ولقد كان المحامي لومارشان وصديقه الكوميسير كاي يعرفان هذه الجزئيات، حسب تصريحات الصحفي كوهيي صديق “فيكون” أمام المحكمة، نفس الصحفي أضاف: ((إن الكوميسير كاي خبير جدا في الاختطافات المزدوجة))، وقد سبق فعلا للكوميسير كاي أن كلف مجموعة من عصابات “الأواييس”، التي كانت تحارب الوطنيين الجزائريين، باختطاف نائب ديغولي، ثم استطاع باختطافه من بين أيديهم ليظهر بمظهر الخبير الكبير، وذلك ما أهله لمنصبه السامي في الشرطة.. فماذا ستكون مردودية عملية الاختطاف الثاني لبنبركة بالنسبة للكوميسير كاي؟

لقد كتب الصحفي الفرنسي جان بول لوماريك، كتابا عن قضية بنبركة، فسر فيه طموحات من هذا النوع بقوله: ((أي انتصار سيكون لفرنسا، العثور على بنبركة الذي يصبح قديسا بالنسبة للمغاربة، ثم اعتراف بنبركة بالجميل للحكومة الفرنسية، وفضح أوفقير الذي أسقطه في الفخ، وبالتالي، فضح المخابرات الأمريكية التي كانت على اتفاق مع أوفقير، ثم الانتصار الكبير بالنسبة للحكومة الفرنسية تجاه الرأي العام المغربي والعالم الثالث)).

وفي يوم 19 أكتوبر، نشر أحد الجزائريين الواسعي الاطلاع، نصر الدين شلال، مقالا في مجلة “نوفيل أوبسيرفاتور” الفرنسية، فضح فيه أسرارا أدلى له بها المحامي لومارشان، وقال نصر الدين شلال: ((لقد أخبرني المحامي لومارشان بأنه علم برغبة المغاربة في الاجتماع ببنبركة، وقد كان أحد رجال فيكون على ارتباط بالمشروع، وكان علينا أن نترك الأمور تسير، ونترك المغاربة ينفذون مشروعهم، وكان أحد أصدقائي من الشرطة – كاي – على علم، وفي اليوم المحدد، يخبرنا فيكون فنتصرف، ونفسد العملية، عملية اختطاف بنبركة من طرف المغاربة، ونرفع قيمة الحكومة الفرنسية في أنظار العالم، وبذلك أيضا ننتقم من مجموعة المخابرات الفرنسية “سديك” الذين يسهمون في العملية، ونفضحهم لنرد لهم بعض الشر الذي عملوه فينا في الجزائر)).

ثانيا: وإذا رجعنا إلى استجواب “لوبيز” مع جريدة “فرانس سوار” كما ورد في هذا الفصل الأخير، نجد في الرسالة التي بعثها الإرهابي “لوني” والتي قرئت بالمحكمة يوم 8 أكتوبر 1966، أنه أخبر المحكمة بصفته مشاركا في الاختطاف، وهاربا، بأن “فيكون” اختطف بنبركة من بيت بوشسيش، ونقله في سيارة “جاكوار”، وتعرف الشرطة أن الصديق الحميم لـ”فيكون”، واسمه “جان فينيو” يملك سيارة “جاكوار”. هناك اتجاه آخر، وارد عن طريق العناصر التي لا تكن للمغرب أي حب، يقول على لسان الصحفية جوزيت عاليا، في مجلة “لونوفيل أوبسيرفاتور” في 2 فبراير 1966، أن المغاربة علموا بمشروع “فيكون” مسبقا، فاختطفوا بنبركة من بين يديه، وبذلك يكون بنبركة قد تعرض لثلاث اختطافات، ولكن هذا العنصر مستبعد إن لم يكن بعيد التحقيق، إذ كيف تسمح المخابرات الفرنسية للمغاربة بالقيام بهذا العمل بعد أن انكشفت الفضيحة؟

ثالثا: وفي خضم فترات التحقيق وفترات المحاكمة، ظهرت معلومات جديدة يفهم من مجموعها، أن بنبركة كان لازال على قيد الحياة يوم 3 نونبر 1965.. كيف؟ لقد صرح المحامي لومارشان، وتصريحه لازال مثبتا في محاضر قاضي التحقيق زولينجير والمؤرخة بفاتح أبريل 1966، أن “فيكون” كان يتحرق تطلعا للتأكد من أن المخابرات الفرنسية كانت وراء عملية الاختطاف، وقد يفهم من هذا أن “فيكون” كان يريد تسليم بنبركة للمخابرات الفرنسية حتى ينظف ملفه معها، ويقول لومارشان: ((ولقد أخبرت الكوميسير كاي برغبة “فيكون” هاته، فتوجه عند رئيس الشعبة السابعة لوروا فانفيل، وسأله عن دور المخابرات الفرنسية الرسمي في الاختطاف، لكن فانفيل نفى أي يد للمخابرات الفرنسية رسميا في العملية، وأن “فيكون” تعامل مع الجهاز عن طريق “لوبيز”، وعندما علم “فيكون” بهذا الإصرار، طلب مني أن أتوسط له للحصول على المال المنتظر)). إذا كان هناك مال يطالب به “فيكون”، فمعناه أن لديه ما يقدمه مقابل هذا المال، ربما بنبركة.

ولكن الأهم في الأهم، هو استمرار لومارشان في تشبثه بهذه الصيغة، وأمام المحكمة، وفي جلستها بتاريخ 15 شتنبر 1966، صرح المحامي لومارشان بتواريخ مصيرية تؤكد احتمال بقاء بنبركة حيا إلى يوم 3 نونبر 1965، فقال: ((لقد انتظر مني “فيكون” أن أتوسط لدى جهاز المخابرات، ولكن عندما يئس، وفي يوم 3 نونبر، أصيب بالجنون))، ذلك الجنون الذي جعل “فيكون” طبعا يدخل في عملية مزايدة مع الجميع، أدت إلى اغتياله في 17 يناير 1966.

هذه الفترة الضيقة الحرجة الغامضة، توسعت المحكمة في استكناه أغوارها، وقد ذهب المحامي بياتجي، المدافع عن “لوبيز”، بعيدا في استفساراته للمحامي لومارشان، خلال جلسة التاسع عشر شتنبر 1966، ثم استسمح الحاضرين لأن يلخص ما فهمه، وهذه صيغته:

((الأستاذ بياتجي: بصيغة أخرى.. “فيكون” وجماعة الأشقياء، اشتغلوا من أجل المال الذي كانوا ينتظرونه من أطراف مغربية، لكنهم عملوا ذلك بتعاون مع أجهزة المخابرات الفرنسية؟

المحامي لومارشان: تماما)).

رابعا: يتعلق الأمر، ولأول مرة، بالتفسير المنطقي للتصريحات التي أدلى بها الدليمي لجريدة “الحياة” اللبنانية، بتاريخ 19 أکتوبر 1966، والتي تحدث فيها عن الأموال التي كان “فيكون” ينتظرها، فقال: ((لقد كنا ننتظر الاتصال ببنبركة، وتأمين رجوعه للمغرب، وفوجئنا باختطافه في باريس، وأكيد أن الذين اختطفوه كانوا على علم برغبة المغرب، لذلك توجهنا إلى باريس إثر موعد مضروب عن طريق رسمية، ولكن مختطفي بنبركة اتصلوا بنا، وأخبرونا أن المهدي بين أيديهم، وأنهم مستعدون لتسليمه في المغرب مقابل قدر من المال، وحيث إن ذلك القدر لم يكن متواجدا معنا، فقد التزمنا بأن ندفعه عندما يصل المهدي للمغرب سالما، والذي كان يهمنا، هو أننا وجدنا أنفسنا مسوقين في إطار الاختطاف، وكنا ضحايا عملية مزايدة، مساومة، من طرف مجموعة كانت تريد بيع بنبركة)).

 

يتبع

تعليق واحد

  1. بماذا سينفعنا بن بركة ان ضاع او بقي؟بن بركة مات وشبع موت، نريد مواضيع هادفة تستشرف المستقبل …. الرقمنة ، المدن الذكية ، التعليم الصحة…… الخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى