الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الدليمي في قلب اتفاق مغربي فرنسي

قراءات في محاضر المحكمة "الحلقة 49"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    يوم آخر.. كان مشهودا في تلك المحاكمة وذا تأثير كبير على عقدة الغموض، وهو يوم خامس عشر شتنبر، في الجلسة العاشرة، وكان بطل الجلسات، الكوميسيركاي، مدير الاستعلامات العامة وصديق وزير الداخلية فري وصديق “لومارشان”، الذي اعترف فعلا بأنه تقابل مع “فيكون” خلال الفترة التي كان فيها “فيكون” مختفيا، يطالب بالأموال لتسليم بنبركة، هذا المدير الذي كانت ترهبه فرنسا وتخشاه، وقف أمام المحكمة مطالبا بإمتاعه بحق الاحتفاظ بالأسرار، أسرار الدولة، ورفضت المحكمة ـ في هذه المرة ـ فتكلم، وتوجه بالحديث إلى رئيس الشعبة السابعة لوروا فانفيل،الذي كان معتقلا، متمتعا بالسراح المؤقت، فقال له: ((لقد اتهمتني بأني قلت لك بأن أوفقير طعن بنبركة بالخنجر، والحقيقة عكس هذا، فهل لك أن تؤكد هذا الاتهام أمام المحكمة؟))،فوقف لوروا فانفيل وقال: ((لقد قلت لي أنه عندما يسقط معارض سياسي بين أيدي أعدائه، فإنك تعرف ماذا يجري، وأشرت بيدك إلى رقبتكمشيرا بعملية الذبح))، فأجابه الكوميسيركاي: ((طبعا لم أتحدث عن خنجر، وإنما كنت، بصفتي شرطيا، أستطلعك، وأستخبرك لأعرف ما لديك من معلومات))، وطبعا كان قطب الرحى في جميع الجلسات، هو المتهم الرئيسي “أنطوان لوبيز”، والمثير في تدخلاته كلها، هو أنه كان يتحدث باسم المخابرات، مجرد موظف نفذ التعليمات، موظف سري ولكن معترف به رسميا، بينما كانت أجهزة المخابرات متنكرة له لا تعترف بانتمائه إليها، واستدعت المحكمة زوجته للجلسة الثامنة عشر، يوم 24 شتنبر، وكان مفروضا فيها أن تؤيد كلام زوجها، فسألها الرئيس: ((هل كنت تعرفين أن زوجك ضابط مخابرات؟))، فأجابت: ((بالطبع.. فقد كنت أتوصل في كل أعياد الميلاد ببطاقة تهنئة من طرف جهاز المخابرات “سديك”)).

واتضح الدور الإسرائيلي في المحكمة في جلسة 27 شتنبر، حينما استدعي الإسرائيلي زوريتا ليسأل عن دوره في الفترة التي كان فيها “فيكون” يمارس مزايداته عبر مجلة “الإكسبريس” ويدعي أنه مستعد لتسليم بنبركة مقابل المال، فأنكر زوريتا دوره كإرهابي وقال: ((لقد كنت أساعد على الحل، أما الاتصال، فقد تم فعلا عن طريق يهودي مغربي آخر، هو أزويلوش))..

وقد انتهت جلسات المحاكمة الأولى، يوم 19 أكتوبر، بالدخول المفاجئ للدليمي إلى قاعة المحكمة خلال الجلسة 38، فطالب وكيل النيابة العامة بفترة إضافية قبل استئناف الجلسات، وتم اعتقال الدليمي وإرساله إلى السجن، سجن الصحة بباريس، يوم 20 أكتوبر.

 

المحاكمة الثانية

    لقد ابتدأت المحاكمة الأولى يوم خامس شتنبر بصدور حكم جانبي، وانتهت يوم 20 أکتوبر 1966 بصدور حكم جانبي ثاني، ولكن المحكمة، رغم جلساتها الثمانية والثلاثين، ورغم مرافعة النائب العام، ومرافعات المحامين، لم تصدر أي حكم في جوهر القضية التي انعقدت المحاكمة من أجلها.. فقد كان الحكم الجانبي الأول- كما تقدم في الفصل المخصص للمحاكمة الأولى – يقضي بفصل قضية المتهمين الفارين عن مناقشات المحاكمة، وعقد جلسات إضافية لمحاكمتهم فيما بعد، أما الحكم الجانبي الثاني، فقد صدر في حق الدليمي، الذي دخل قاعة المحكمة فجأة، وطالب محاموه بإلغاء المسطرة الصادرة في حقه غيابيا، وإمتاعه بالسراح المؤقت، ولكن هيأة المحكمة قررت رفض الإلغاء، وأصدرت أمرا باعتقاله. إذن، خرق الرئيس بيريز بنفسه حكمه، وناقض قراره، وبذلك رجح الشائعات التي انتشرت حول الصفة التي سميت “مسرحية” بشأن تسليم الدليمي لنفسه، وقال المعلقون أنه لم يغادر المغرب سرا كما قيل، وإنما يتعلق الأمر باتفاق بين الحكومتين المغربية والفرنسية لإنقاذهما من الورطة التي وضعهما فيها ذلك الجهاز السري الذي وجه إلى المغرب وفرنسا ضربة کبرى، وبذلك اتجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى جهاز العدالة الفرنسية، وكتبت جريدة “لوموند”، في عدد 3 دجنبر 1970: ((إن وزير العدل جان فوايي، هو الذي نسق عملية إقبار القضية))، وقالت مجلة “الإكسبريس”، في عدد 24 يناير 1966: ((إن وزير العدل، طلب من قاضي البحث زولينجير، أن يبتعد عن ساحة المحامي لومارشان))، بينما لم يبق سرا عند أحد، أن المحامي لومارشان هو الذي كتب الأسئلة الموجهة إلى المهدي بنبركة لاستنطاقه. اتهام خطير آخر وجهته جريدة “لوموند” بعد سنوات طويلة من البحث والتنقيب، إلى جهاز القضاء الفرنسي، بنشرها مذكرات المحامي لوي جواني، الذي كان يساعـد القاضي زولينجير في التحقيق، وذكر أن ((مراحل التحقيقكانت مطبوعة على ورق من ثلاثة نسخ، تسلم واحدة منها لوزير الداخلية فري، والثانية لوزير القوات المسلحة، وكانت الأوراق المتضمنة للاستنطاقات، تنقل إلى الوزيرين ورقة ورقة)).. فأين هو إذن، السر المقدس للتحقيق؟ وأين هو السر المقدس إذا كانت أطراف داخلية في المحاكمة تشكل جزء غير منفصم من المؤامرة نفسها؟ لقد حصلت فضيحة قانونية كبرى في إحدى جلسات المحاكمة الأولى، انتهت بانسحاب المحامي اليهودي حيوط، محامي ضابط الشرطة سوشون،وقد جاءت زوجة ضابط الشرطة للشهادة، لأنها هي التي نقلت مكالمة من مدير ديوان وزير الداخلية أوبير، وسلمت جهاز التلفون لزوجها، وحضرت إذن، ساعـة إعطاء موافقة الدوائر العليا لضابط الشرطةسوشون بتنفيذ الاختطاف، وكانت الجلسة الخامسة عشر، يوم 21 شتنبر 1966، ولكن مدام سوشونكانت محرجة أمام المحكمة، وقالت: ((لقد اتصلت بي شخصية بعدما اعتقل زوجي، وطلبت مني أن لا أقول الحقيقة، وأن أبلغ زوجي في سجنه أن عليه أن يقول عكس الحقيقة، ويذكر في التحقيق أن الكوميسيركاي هو الذي اتصل بنا تلفونيا، وليس مدير ديوان وزير الداخلية))،فاستوقفها رئيس المحكمة: ((ومن هي هاته الشخصية؟))، فسكتت، ثم قالت: ((لا أستطيع أن أذكر اسمها، إنها معنا في القاعة))، والتفت رئيس المحكمة بيريز يمنة ويسرة، ورفع الجلسة، ثم استدعى السيدة سوشون لمكتبه، وقال لها: ((من هي الشخصية؟))، فأجابته: ((إنه الأستاذ حيوط، محامي زوجي)). يا للفضيحة.. لقد أصبح المحامي طرفا في القضية، وعنصرافي الجهاز المتهم باختطاف بنبركة، وبعد مداولات جانبية، واستشارات مع هيأة المحامين الخجولة، قرر حيوط الانسحاب من هيأة الدفاع، لكن السر الكامن وراء الدور الذي قام به، بقي دفين الأيام. نفس المصير لقيه مصرع “فيكون” في الظروف المبينة سابقا، والتي وإن أعلن رسميا أنها انتحار، فإن التراجع عن هذا الإعلان لم يحصل حتى عندما اعترف الإرهابي “كريستيان دافيد” بعد اعتقاله بأمريكا، أنه هو الذي اغتال “فيكون”، ولقد أسهم الرئيس بيريز بنفوذه الكبير في إقبار “فيكون” مرتين، كانت المرةالثانية يوم سابع أکتوبر 1966، حينما طلبت هيأة الدفاع عن مصالح عائلة المهدي بنبركة، الاستماع إلى والدة “فيكون”، فرفض الرئيس، وسجلت هيأة الدفاع نفسها طرفا للدفاع عن “فيكون” نفسه، وطلبت الاستماع إلى أمه فرفض الرئيس.

كانت المفاجأة الأولى عند افتتاح المحاكمة الثانية صباح 19 أبريل 1967، هي التغيير الذي حصل على تشكيلة المحكمة.. نفس الرئيس، ونفس المستشارين، لكن المحلفين الذين يمثلون الرأي العام، تغيروا، وأولئك المحلفون الذين تتبعوا المحاكمة الأولى وتأثروا بظروفها وظهرت لهم خلفياتها، تم تغييرهم بمحلفين آخرين، ولكن المفاجأة الكبرى التي ووجهت بها هيأة المحكمة، هي حضور أحد كبار المستشارين القانونيين في المغرب، أحمد مجيد بن جلون، الذي تكفل بالدفاع عن الدليمي، وألزم المحكمة باحترام النصوص والقوانين، ولم تبق القضية بين الفرنسيين كما سبق أن قال الرئيس بيريز في المحاكمة الأولى.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى