الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | أدلة تورط المخابرات الفرنسية في اختطاف بنبركة “الحلقة 47”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    إذا كان اختطاف المهدي بنبركة قد أصبح أمرا معروفا لدى الرأي العام الفرنسي والعالمي منذ الساعات الأولى لصباح يوم 30 أكتوبر 1965، فإن المهتمين بالسياسي المغربي والمتعاطفين معه، ذهبوا في احتمالاتهم مذاهب شتى لم تتصنف إلا يوم اعتقال “لوبيز” وبداية اعترافاته، ولكن الجانب الذي كان يعرف كل شيء بالتدقيق، بالساعات والدقائق، هو الجانب الحكومي الفرنسي، وزارة الداخلية، حيث كان المسيو فري على علم بالاختطاف عبر صديقه المحامي لومارشان، وعبر مدير الأمن المسيو بابون، الذي تم الاختطاف على يد أحد ضباط جهازه الخاص بالأمن العمومي، كما كانت رئاسة الجمهورية الفرنسية، عبر جهاز المخابرات “سديك” ومديره الجنرال جاكيي، الذي شارك عبر الضابط لوروا فانفيل، الرئيس المباشر لمنظم العملية “لوبيز”.. هذه الحكومة إذن، عرفت بطريقة أو بأخرى أين يوجد المهدي بنبركة، بحكم أن ضابطا رسميا للشرطة هو الذي قاد به السيارة الرسمية للدولة إلى معتقله في بيت “بوشسيش”، وكل العناصر المشاركة عرفت بوصول أوفقير إلى مطار باريس، ولو لم يكن هناك سابق اتفاق أو جدية في البحث، لاعتقلوه، إن لم يكن يوم وصوله الأول فيوم وصوله الثاني، ولكن يظهر أن الواقع كان أكثر تعقيدا مما توحي به التحريات الأولى، وأن المخطط مزدوج، طرف فيه متكون من بنبركة نفسه، وربما الدليمي يستهدف مقابلة بنبركة لتهييء رجوعه إلى المغرب وفق اتفاقه مع السفير المغربي بباريس، الأمير مولاي علي، وربما يوجد بهذا الطرف طرف من المخابرات الفرنسية، وطرف ثان كان يستهدف المصالح المادية والضحك على ذقون الأطراف الأخرى، ويتزعمه الإرهابي “فيكون” بتوجيه من المحامي لومارشان، واصطدمت مصالح الطرفين، فدفع المهدي بنبركة حياته ثمن ذلك.. تلك جزئيات ظهرت لا من خلال بعض الاحتمالات، وإنما من خلال تفاصيل وبيانات يتحتم التعمق فيها وتفحص خلفياتها، وهي تفاصيل وبيانات وخلفيات طفت على جلسات المحاكمتين، وعلى الأحداث التي تسلسلت خلالها، وهذه أولا بأول، عناصر الصراع بين المجموعتين انطلاقا من المحاضر: لقد طبعت فترة التحقيق الذي أسند إلى القاضي زولينجير، بالكثير من المفارقات التي كان لها الأثر الكبير على المحاكمتين، إذ أنها حددت نوع العناصر المتابعة، وحدود الامتداد المسموح به للتحقيق، كما فرضت وجهة نظر الدولة الفرنسية، عبر تقديم المصلحة العليا للدولة، على النصوص والقوانين، وهي سابقة أثارت الكثير من الضجر والاحتجاج لدى الرأي العام الفرنسي، ولكنها لم تعد لتكون زوبعة في فنجان، وهكذا تحصن العدد من المسؤولين الكبار، خلف سر المهنة، كما تقدم بعض المديرين الكبار، أمثال المسيو بابون، المدير العام للأمن الوطني، ليقول لوكيل الدولة، وقاضي البحث: إنني المسؤول الأول والأخير، حاجبا بذلك عن عيون البحث عددا من العناصر الأساسية في القضية، وفي فترة البحث القضائي التي ابتدأت يوم خامس نونبر 1965 باعتقال المنفذ الأول للعملية “أنطوان لوبيز”، وانتهت يوم 23 مايو 1966 بإغلاق ملف البحث، بعد أن لم تسفر مهلة البحث الإضافية التي تقررت يوم 27 أبريل عن أي عنصر جديد، صدرت يوم 25 نونبر أوامر عليا بإبعاد الشرطة الفرنسية نهائيا عن المساهمة في التحقيق حين ثبتت مشاركة جهاز الأمن في الاختطاف رسميا، وتأكد لمستشاري الجنرال دوغول، أن هناك تحالفا مصلحيا داخل جهاز الشرطة، وبقيت مسؤولية التحقيق القضائي موكولة للقاضي زولينجير وحده، وكانت أول عقبة اعترضت التحقيق، هي صدور بلاغ رسمي عن وزارة الداخلية الفرنسية، يوم 12 نونبر، ينفي علاقة أي واحد لرجال الشرطة بالقضية، بينما الحقيقة أن الضابط الرسمي للشرطة “سوشون”، هو الذي نقل المختطف بنبركة إلى بيت الإرهابي “بوشسيش”.

ودخلت أجهزة النفوذ الفرنسي في صراع أخذت هزاته تكسر واجهة التضامن الحكومي، وبدأ “أنطوان لوبيز”، بعدما تأكد له ـ بحكم ظروف اعتقاله – أنه لا محالة سيدفع الثمن وحده، ينشر الخبايا والأسرار، فاعترف أمام قاضي البحث يوم 11 دجنبر 1965، بأنه أطلع رئيسه المباشر، لوروا فانفيل، رئيس الشعبة رقم 7 في المخابرات الفرنسية، بواسطة مذكرة رسمية، على مشروع اختطاف بنبركة منذ شهر مايو 1965، أي ستة أشهر قبل وقوع الاختطاف، وكان تصريح “لوبيز” ضربة قاصمة لجهاز المخابرات الذي لم يجرؤ أحد في التاريخ الفرنسي على زعزعته، واضطر القاضي زولينجير لاستدعاء لوروا فانفيل يوم 20 دجنبر، فلم يحضر وحده، وإنما حضر معه رئيسه المدير العام للمخابرات، الجنرال جاكيي، مستشار الجنرال دوغول لشؤون الأمن والمخابرات، واطلع الجنرال دوغول على جزئيات مشاركة جهاز المخابرات، فانفجر غاضبا في مجلس وزاري يوم 12 يناير 1966، وقال: لتذهب العدالة بعيدا، ومباشرة بعد تصريح رئيس الدولة الفرنسية، صرح الضابط سوشون للقاضي زولينجير، في استنطاق يوم 14 يناير: ((لقد صدرت إلي الأوامر من وزارة الداخلية، في شكل ضوء أخضر، من طرف مدير ديوان الوزير، المسيو لوبيز))، وأضاف سوشون قائلا: ((لقد أكد لي لوبيز أن يد فوكار في القضية)). “فوكار” هو مستشار الجنرال دوغول في رئاسة الجمهورية، وهو الشخص الذي سبق أن توسعنا في تعريف القراء به وبماضيه.

وانطلق كشكول الفضائح، وفي 15 يناير، انفجر رئيس الشعبة السابعة للمخابرات، لوروا فانفيل، أمام قاضي البحث وقال له: ((لقد كان الكوميسير “كاي” يعرف كل شيء))، و”كاي” هو مدير مصلحة الاستعلامات الحكومية، والصديق الحميم لوزير الداخلية، والشريك المباشر في كل شيء للمحامي لومارشان، ومع ازدياد الانتشار السريع للمعلومات، اختفى المحرك الأكبر للقضية “فيكون”، عن الأنظار، لأنه لعب دورا ثانويا بعد اختطاف بنبركة، دور المجموعة التي يحركها لومارشان، والتي كانت راغبة في تمويل تسليم بنبركة للراغبين في تسلمه.. وهكذا صرح “فيكون” لجريدة “لوموند” يوم 12 دجنبر 1965، أن ((قاضي البحث زولينجير، لن يطلب منه الحضور ولن يستجوبه))، وكان تصريحه إدانة صريحة للعدالة الفرنسية، لأنه في تلك الفترة، كان يزاول اتصالاته مع عائلة المهدي بنبركة، عبر اليهودي زوريتا، وعن طريق الصحفي “خان” من جريدة “الإكسبريس”، مؤكدا أنه يتوفر على المهدي بنبركة ومستعد لتسليمه مقابل المال، وأصبح “فيكون” هو الحلقة المفقودة في المحاكمة، وفي 11 يناير 1966، نشر القاضي زولينجير في الصحافة، صورة “فيكون” قصد اعتقاله.. فقد كان “فيكون” قد سرب لمجلة “الإكسبريس” وصفا طويلا عن “الطريقة التي تم بها قتل بنبركة”، ولكن بمجرد ما صدر الأمر باعتقاله، اتصل بالصحف كلها مكذبا ما نشرته “الإكسبريس”، وهدد الصحفي الذي كتب المقال، واسمه “مارفيي”، بالاغتيال بواسطة مسدسه. وزاد من توتر الوضعية، أن “فيكون” صرح لجريدة “مينوت” في عدد 6 يناير 1966، أن الكوميسير، عميد الشرطة بوفيي، اعتقله في شهر دجنبر، ثم أطلق سراحه، والكوميسير “بوفيي” هو العميد رئيس الشرطة القضائية الفرنسية، وجاء الكوميسير “كاي”، مدير الاستعلامات العامة، عند القاضي زولينجير ليخبره يوم 17 يناير، أنه أخبر الكوميسير بوفيي بكل المعلومات التي كان يتوفر عليها. وكان مفروضا في الكوميسير بوفيي وحده أن يعتقل الإرهابي “فيكون”، واستمر “فيكون” في تحديه للقاضي زولينجير، وقد بعث له ذات يوم صورته وهو واقف في بوابة مكتب الكوميسير، الذي هو الصديق الحميم للمحامي لومارشان، الذي ثبت فيما بعد أنه كان يخفي “فيكون” عن الأنظار، وتلقى القاضي زولينجير، الضربة القاضية يوم 17 يناير، حينما بعث فرقة خاصة لاعتقال الإرهابي “فيكون” في الشقة التي كان يسكن بها، بعد تحريات كبيرة، وعندما دخلت الفرقة الخاصة لشقة “فيكون” في زقاق “رينود”، وجدوه جثة هامدة وبيده مسدس، للإيهام بأنه انتحر.. لولا أن صديقته الممثلة فرانسواز أرنول، وصديقة أخرى، أكدتا أن المسدس الذي كان بين يديه ليس مسدسه، فقد كانتا تريان عنده مسدسا يحمله معه دائما أزرق اللون، بينما كان المسدس الموضوع بين أصابعه وهو “منتحر”، أسود اللون. نفس الصاعقة نزلت على الجنرال دوغول نفسه.. فقد أصبح وسط دوامة لا يعرف كنهها، ومؤامرة لا يعرف أسرارها، وفي يوم 18 يناير، وبعد “انتحار فيكون” بيوم، استدعى النائب العام للدولة، روبير، ويوم 20 يناير، ترأس مجلسا تاريخيا للحكومة أصدر خلاله أوامر صارمة تعلن إدانته الرسمية لساعده الأيمن، مدير جهاز المخابرات “سديك”، الجنرال جاكيي، وأصدر أمرا بتجريده من مهامه، کما صدر أمر بتوقيف رئيس الشعبة السابعة لوروا فانفيل، الرئيس المباشر لأنطوان لوبيز، وفي نفس الجلسة، تقرر إصدار أمر دولي بالاعتقال في حق المسؤولين المغربيين، أوفقير والدليمي.

تتمة المقال بعد الإعلان

 

يتبع

تتمة المقال بعد الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى