الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | “مجموعة القتلة” تتحرك في باريس قبل اختطاف بنبركة “الحلقة 46”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    أجمع المعلقون والباحثون الذين درسوا ظروف اختطاف بنبركة من جميع جوانبها، فاتفقوا على أن ارتسام تلك الملامح التي وصفها “الأزموري” على وجه المهدي بنبركة، وانشغاله وانكسار أفكاره وافتقاده للحيوية المعهودة، إنما كانت نتيجة شيء ما قاله له الضابط سوشون.. مثلا: لقد قال له: ((إن هناك محاولة مدبرة لاغتيالك وأنا جئت لأحميك وأبعدك عن محل الاغتيال)). لن يكون إلا تصريح من هذا النوع بقادر على أن يجعل المهدي يسرع للسيارة ولا يلتفت إلى رفيقه “الأزموري” الذي لم يسمع ما دار بينه وبين الضابط سوشون.

“لوبيز” المكلف بتنظيم العملية، قال في اعترافاته أمام قاضي البحث، وحتى أمام المحكمة، جملة أكدت ما نسجته الأبحاث في عقول الباحثين.. لقد قال “لوبيز”: ((عندما وصل المهدي بنبركة إلى بيت بوشسيش في فونتوني لوفيكونت، سألني بوشسيش عماذا سيقول للمعتقل إذا سأله، فقلت له: قل له إننا أخذناه إلى هنا لحمايته من محاولة اغتيال)).

لقد تجمدت حركات الطالب “الأزموري” أمام ما دار أمامه من أحداث سريعة في لحظات قصيرة، فلم يفطن إلا بضابط الشرطة سوشون يشير إليه أن يبتعد، ويرى شخصا غريب الأطوار، بنظاراته السوداء وشنباته البادية غير طبيعية، وهو “لوبيز”، يتقدم من سيارة الـ”بيجو” ويصعد بجانب سائقها الذي هو الضابط الذي تكلم مع المهدي بنبركة، بينما صعد شخصان آخران في السيارة أحاطا بالمهدي بنبركة، واحد من اليمين وواحد من اليسار – فواتو الشرطي مساعد سوشون، و”لوني” الإرهابي القتال المحترف – وتنطلق السيارة فيرجع الطالب “الأزموري” إلى الواقع، ويطلق ساقيه للريح، ليتصل فيما بعد بأقرب أصدقاء المهدي بنبركة، ويخبرهم بما جرى.

ولو لم يسق القدر هذا الطالب المغربي للحضور، ولو لم يمهد القدر لهذا اللقاء بين الطالب “الأزموري” والمهدي بنبركة، بعد أن كان الموعد محددا في الثالثة بعد الظهر، ولو لم يخبر “الأزموري” أصدقاء المهدي بنبركة، لما عرف أحد بقضية الاختطاف، ولما عرف العالم عن المهدي بنبركة إلا أنه اختفى في باريس.

جزئية أخرى هنا لابد من طرحها ووضعها في ميزان الأحداث، وتتعلق بالطالب “الأزموري”.. فلو كان الأمر يتعلق بمشروع اغتيال المهدي بنبركة بعد اختطافه، لما تركت مجموعة الإرهابيين المحترفين الذين اختطفوه، الفرصة لهذا الشاهد “الأزموري” ليذهب بعدما شهد الاختطاف، لو كان الأمر كذلك لاغتالوه قبل أن يخبر أصدقاء المهدي، ولو شهد هذا الطالب أن الأمر يتعلق باختطاف إجباري لصاح وطلب النجدة، فهو طالب في باريس ويعرف ظروف الحياة في هذه المدينة الصاخبة، ولكنه رأى أن المهدي توجه عن رضاه للسيارة، وشهد أمام المحكمة بما رأى، وفي جلسة 20 شتنبر، وصف ما رأى أمام المحكمة، وفي جلسة خامس أكتوبر، أكد أن المهدي بنبركة صرح له بأنه سيدخل للمغرب للمشاركة في حكومة ائتلافية.. لقد كانت الظروف التي أحاطت بالطالب “الأزموري” مريرة قاسية، ومضى يبحث في كنهها وقسوتها ممزقا بين توبيخ الضمير الذي يؤاخذ عليه وقوفه في تلك اللحظات التاريخية وقفة المتفرج، وبين التعمق في تحليل هذه الظروف القاسية المريرة التي تحول البشر المتحضر إلى حيوان مفترس، ولم يتحمل “الأزموري” قسوة هذا المصير الذي كتبه له القدر ليكون شاهدا وحيدا على حادثة فريدة من نوعها في التاريخ، ويقول أصدقاؤه أنه أصيب بذهول مستديم، وبضغط من الضمير ساوره شهورا عدة، وعند استدعائه من طرف المحكمة لجلسة 20 شتنبر 1966، وكان “الأزموري” يتكلم ببراءة ولكنه كان غير قادر على إخفاء تأثره، ووقف أمام المحكمة يروي بكلمات متزنة آخر ما سمعه من المهدي بنبركة في شكل أسرار لم يسمع نظيرها من قبل، وهو الطالب المعجب بأستاذه المهدي بنبركة، وقال للمحكمة وكأنه يستغرب ما جرى: ((قال المهدي أن هناك عروضا من طرف ملك البلاد تعتبر إيجابية، ومن الممكن أن نشارك في حكومة ائتلاف وطني مع قوات سياسية أخرى، وأعتقد أن هذا سيكون في مصلحة البلاد، لأن المعارضة الدائمة ليست في الواقع بالشيء الحسن.. لابد من مشاركة إيجابية بين الحين والآخر، لابد من المشاركة، وأظن أنه في الظروف الراهنة، هناك حاجة للوطن بنا، ولهذا قررت الدخول إلى المغرب)).. فأين تلتقي أفكار المهدي بنبركة الإيجابية مع المصير الذي لقيه؟ وهل يمكن أن يتحدث المهدي لطالب يؤمل أن يسهم مستقبلا في بناء وطنه بهذا المنطق لو لم تكن له ضمانات، أو لو لم يكن هناك مخطط. الكثير من التساؤلات بقيت تتردد في ذهن الطالب “الأزموري” إلى أن عثر عليه ذات يوم مشنوقا في بيته جثة هامدة.

وقد وصلت السيارة التي كان يسوقها الضابط سوشون إلى “فونتونيلوفيكونت” في ضواحي باريس، ودخلت بيت الإرهابي “بوشسيش” حيث كانت مجموعة الإرهابيين الآخرين في انتظارها، كان “بوشسيش” واقفا بالباب، وكان داخل البيت، الإرهابي “باليس” و”دوباي” اللذان حضرا الاختطاف بشارع “سان جيرمان”، ثم توجها على متن سيارة (د. س) “سيتروين” بسرعة فائقة ليسبقا السيارة التي تحمل المهدي بنبركة، وبعد أن سلم سوشون، وهو ضابط الشرطة الرسمية، المعتقل إلى “بوشسيش”، عاد من حيث أتى رفقة مساعده فواتو كما غادر “لوبيز” البيت، حيث إن سوشون صرح للمحكمة بأنه التقى “لوبيز” عند منعرج شارع “راسباي” فوقفا بسيارتيهما وتحادثا، حيث أخبرهما “لوبيز” بأنه يتوجه إلى التلفون للاتصال بأوفقير في المغرب، انطلاقا من المكتب البريدي غير البعيد والمتواجد في ساحة “لابورس”، كما أكدت اعترافات “لوبيز”، أنه اتصل عدة مرات بالرباط فلم يعثر على أوفقير، أما الدليمي فقد كان في الجزائر.

ويحكي “لوبيز” في تصريحات مؤكدة ومكررة، أن “بوشسيش” كان يتصل به تلفونيا عدة مرات طالبا منه نقل المهدي بنبركة إلى بيته، لأنه يريد إخلاء بيت “فونتونيلوفيكونت”، وكان “لوبيز” يهدئه ويردد له: “إن أوفقير قادم”، ولكن أوفقير لم يصل باريس إلا في الساعة الخامسة والنصف من مساء اليوم التالي، 30 أكتوبر 1965، أما الدليمي، فقد وصل إلى مطار “أورلي” قادما من الجزائر زوال نفس اليوم، وفي اعترافات “لوبيز”، فإن أوفقير طلب منه بمجرد وصوله، تسليمه مفاتيح بيته الواقع في “أورموي” بضواحي باريس، وأضاف “لوبيز” أثناء اعترافاته أمام المحكمة، أنه عندما ذهب إلى بيته في “أورموي” على الساعة العاشرة والنصف ليلا، وجد أوفقير جالسا في صالون البيت محاطا بالدليمي و”بوشسيش”و”دوباي”و”باليس”، ومرافق لأوفقير اسمه الحسيني، إضافة إلى “فيكون”، الدينامو المحرك للظروف التي حصلت فيما بعد.

وأعطى “لوبيز” للمحكمة الحجج المكتوبة على أن أوفقير غادر باريس من مطار “أورلي” في صباح اليوم الموالي، 31 أكتوبر على الساعة الخامسة صباحا، في اتجاه جنيف، وعاد أوفقير من جنيف بعد يومين على الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم 2 نونبر، حيث حضر حفلة عشاء كبرى أقامها سفير المغرب على شرف بعض الموظفين المغاربة التابعين لوزارة الداخلية.

أما الدليمي، فقد غادر باريس في نفس صباح يوم 31 أكتوبر، لكن في اتجاه المغرب، وعاد بدوره في اليوم الموالي، فاتح نونبر، وهي تحركات لها المفعول الكبير على الاحتمالات والتوقعات، إذ لو كان مصير بنبركة قد قضى بعد مجيء الدليمي وأوفقير يوم 30، فلماذا عاد لباريس بعد يوم بالنسبة للدليمي، وبعد يومين بالنسبة لأوفقير؟

لقد أجمع شهود عيان على صحة ما قاله “لوبيز” أثناء التحقيق، من أنه بعد انتظار طويل لوصول أوفقير، وبعد أن اتصل به عدة مرات بالتلفون دون أن يجده، وبعد أن أخبره أوفقير بأنه سيصل في الساعة الثالثة من صباح يوم 30 أكتوبر، وذهب “لوبيز” إلى المطار ولم يصل أوفقير، ولكنه جاء في طائرة الخامسة والنصف، ومنها نزل أوفقير وهو يكاد ينفجر من الغضب.. فلماذا الغضب؟

إن هاته التحركات الكثيرة، والمريبة، والمتناقضة، تستحق المتابعة القصوى للوصول إلى الاستنتاجات القريبة من الواقع.. هل كان أوفقير غاضبا لأنه سمع بوصول الدليمي قبله؟

إن مجموعة القتلة (بوشسيش، باليس، ولوني) بقيت تتنقل في باريسإلى يوم ثالث نونبر، ومادام العمل القذر هو قدرهم ونصيبهم، فإن اختفاءهم الذي جاء في أعقاب اعتقال “لوبيز” يوم رابع نونبر، لم يكن إلا خوفا من اعتقالهم هم أيضا، وإن ما عرفته الساحة الباريسية من أحداث كان بطلها الإرهابي “فيكون”، هي التي تبرر هذا الرجوع المستعجل للدليمي ولأوفقير إلى باريس، وتبرر الاقتناع بأن المهدي بنبركة سقط في بؤرة من الصراع الإرهابي والمزايدات جعلت حياته معلقة بخيط رفيع.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى