الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | شهادة الطالب “الأزموري” والأسئلة العالقة

في وصف اختطاف بنبركة "الحلقة 45"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    كان المهدي بنبركة قد اتصل، من جنيف، بالطالب المغربي الذي يحضر أطروحة في التاريخ واسمه “التهامي الأزموري”، وضرب له موعدا في الساعة الثالثة بعد الظهر – ظهر يوم 29 أكتوبر 1965 – ولكن الطالب “الأزموري” صرح أمام المحكمة بأن المهدي اتصل به تلفونيا صباح نفس اليوم، وطلب منه تغيير الموعد، ومقابلته في شارع “الشانزليزي” على الساعة الحادية عشر لمرافقته في جلسة تتعلق بإنجاز شريط سينمائي. مرة أخرى يظهر أن المهدي بنبركة كان يعتزم تقديم الطالب “الأزموري” إلى المجموعة المهتمة بالفيلم ليخلفه في الإشراف السياسي على ذلك الشريط، لذلك طلب منه الحضور. سؤال آخر هيمن على ظروف الاختطاف: لماذا أراد المهدي بنبركة تقديم موعده مع الطالب المغربي بدل الساعة الثالثة؟ هل لأن المهدي ارتبط بموعد آخر في نفس الساعة، هو موعد الاتصال السياسي الذي يستهدف رجوعه للمغرب؟ إن هناك سرا أخذه المهدي معه.. وإلى الأبد.

وقد وجد المهدي بنبركة في الساعة الحادية عشر بانتظاره الطالب “الأزموري” الذي رافقه إلى الموعد المحدد على متن سيارة تاكسي، أوصلتهما إلى جنبات شارع “سان جيرمان” قبل الوقت، فقرر المهدي بنبركة النزول بعيدا عن مكان الموعد، والمشي قليلا على الأقدام.. ماذا دار من حديث أثناء هاته الجولة التي استمرت إلى الساعة الثانية عشر وعشرين دقيقة؟ لا أحد يدري، إلا أن الطالب “الأزموري”، وهو المعني بالأمر، صرح لأحد الصحفيين الذين كان يعرفهم في المغرب، واسمه روجي موراتي، أن المهدي بنبركة قال له عندما كانا يتجولان في الأزقة المجاورة لشارع “سان جيرمان”: ((إن لدي النية في الدخول إلى المغرب، للمشاركة في حكومة ائتلاف وطني))، وقد سجل الصحفي الفرنسي موراتي هذا التصريح الصادر عن الطالب “الأزموري”.

وفي جلسة المحاكمة الأولى، يوم خامس أكتوبر 1966، طلب المحامي الفرنسي المشهور، تيكسيي فينيانكور، حضور الطالب “الأزموري” للشهادة، وعندما وقف “الأزموري” قدم المحامي ذلك الشريط، وطلب من الطالب “الأزموري” أن يؤكد أو ينفي ما ورد فيه، فأكد الطالب “الأزموري” تصريحه للصحفي موراتي. تيكسيي فينيانكور، أحد كبار المحامين الفرنسيين وكان محامي “لوبيز”، ثم ترشح بعد المحاكمة لمنافسة الجنرال دوغول في رئاسة الجمهورية الفرنسية أثناء الانتخابات الرئاسية.

ولكن العصابة التي كانت تنتظر وصول المهدي بنبركة في الساعة الثانية عشر وحيدا إلى مقهى “ليب”، طال انتظارها فأصيبت بشبه حيرة، خصوصا وأن ضابط الشرطة سوشون – حسب تصريحه – لا يعرف المهدي بنبركة، وإنما كان معتمدا على “لوبيز”، الذي كان متسترا بقبعة جلدية ومعطف جلدي وشنبات اصطناعية، لكي يشير معرفا بالمهدي بنبركة، وهو الذي رآه عشرات المرات، سواء في مطار “أورلي” أو ربما في المغرب، فوقف ضابط الشرطة سوشون ببوابة الفندق المجاور، فندق “طاران”، وأرسل خليفته الشرطي فواتو، إلى باب “الدروكستور”، فيم اقتعد “لوبيز”، المسير الرئيسي للعملية، طاولة في مقهى “ليب”. سئل “لوبيز” من طرف رئيس المحكمة عن سر تستره خلف نظارته وشنباته، فأكد أنه “لم يكن يريد أن يكتشف الصحفي بيرنيي وجوده في حالة إذا ما حصل شيء غير منتظر”، وبغتة، وقف “لوبيز” وقصد موقف ضابط الشرطة سوشون وأشار إليه لافتا نظره إلى المهدي بنبركة الذي ظهر بجانب الشارع، ولكن مفاجأة “لوبيز” وضابط الشرطة سوشون هي هذا الرجل الثاني المرافق للمهدي بنبركة، ولكن لم يبق لهما الوقت للتراجع.. فتقدم سوشون من المهدي بنبركة وطلب منه أن يبتعدا من الازدحام، ويتكلما عند بوابة فندق “طاران”، وفي نفس الوقت، أخرج من جيبه بطاقة الشرطة الفرنسية الرسمية، وأظهرها له تأكيدا لهويته، وهو العنصر الذي جعل المهدي بنبركة يمتثل للأمر الواقع دون احتياط. وعند بوابة الفندق، قام الشرطي الفرنسي سوشون بدوره الذي يفرضه عليه القانون، فطلب من المهدي بنبركة أن يدلي له ببطاقة تعريف وهوية – ليتأكد فعلا من أنه بصدد التحدث إلى الشخص بعينه – فأخرج المهدي بنبركة جواز سفر دبلوماسي جزائري، وقدمه لضابط الشرطة.

اعترف ضابط الشرطة سوشون لقاضي البحث بجزئيات المحادثة التي دارت بينه وبين المهدي بنبركة في تلك اللحظات، والتي أوجزها كما يلي:

سوشون: أستسمحكم بالإجابة، هل لكم أن تقولوا لي نوع المهمة التي جئتم من أجلها لباريس؟

المهدي: بكل تأكيد.. لقد جئت لفرنسا لمقابلة أشخاص مهتمين بإنجاز فيلم عن الاستعمار.

سوشون: ألا تظنون أنكم في باريس من أجل هدف سياسي؟

المهدي: لم أحضر لفرنسا من أجل العمل السياسي.

سوشون: بينما المؤكد أن لكم موعدا مع شخصيات سياسية، وقد طلب مني أن آخذكم عندهم، وإذا أردتم، فسأسوقكم إليهم.

هنا.. وبدون كبير تردد، أشار المهدي بنبركة إلى ضابط الشرطة بالقبول، وتوجه إلى سيارة “بيجو”، نوع 403 التي أشار إليها الضابط سوشون بيده، وقد فتح المهدي بنفسه باب السيارة قبل أن يترك للضابط سوشون تكليف نفسه عناء القيام بهاته الحركة، ولكن المهدي، وقبل أن يدخل السيارة، التفت إلى سوشون قائلا: ((أنتم فعلا من الشرطة الفرنسية؟)).

لماذا إذن، ركب المهدي بنبركة في السيارة لو لم يكن يعرف أن له موعدا سياسيا؟ ولو لم يكن له موعد، ولو لم يكن قد حضر إلى باريس إلا من أجل الفيلم، لفطن إلى أن ضابط الشرطة يكذب عليه، وكان بإمكانه أن يرفض، أو أن يصيح أو أن يستنجد.. فقد كان الشارع في تلك الأثناء غاصا بمئات المارة، ثم، وهذا هو الأهم، لماذا لم يبلغ لرفيقه الطالب “الأزموري” الذي كان واقفا ينتظر، جزئيات نقاشه مع ضابط الشرطة، بل لماذا لم يقل له: إني غيرت البرنامج وسأذهب إلى موعد سياسي، أو على الأقل، لماذا لم يطلب من “الأزموري” الاعتذار لدى الجماعة التي كانت تنتظره؟ أسئلة متعددة قد تدعو إلى التفكير بأن ظروف استنطاق المهدي بنبركة كانت مخالفة لما ورد في هذا السرد.

ولكن.. وعلى فرض عدم الثقة في اعترافات الضابط “سوشون”، وأن الأمر تعلق باختطاف المهدي بالعنف أو تخديره قبل صعود السيارة، فإن الحقيقة هي ما رواه الضابط سوشون، بحكم أن هذا الوصف تأكد من طرف الطالب “الأزموري”، رفيق المهدي بنبركة الذي كان واقفا.. ففي جلسة المحاكمة، وهي الجلسة الرابعة عشر، المعقودة يوم 30 شتنبر 1966، وخلال مواجهة بين الطالب “الأزموري” كشاهد وبين الصحفي بيرنيي، صرح “الأزموري” مؤكدا الوصف السابق، ومضيفا: ((عندما أخرج ضابط الشرطة بطاقة هويته ليضعها تحت عيني المهدي، أرسل بنبركة نظرة فاحصة على ضابط الشرطة، ولقد سجلت البطء الشديد الذي كان يلازم حركات المهدي بنبركة وهو يخرج بطاقة هويته وكأنه يكسب المزيد من الوقت للتفحص في ملامح ضابط الشرطة، كما لاحظت الفرق بين ثقل حركة يد المهدي بنبركة وسرعة نظراته الموجهة إلى الضابط، بينما لاحظت أن المهدي وكأنه فقد حيويته العادية، وأصبح يتصرف بطريقة بديهية. لا شك أنه كان منشغلا بما يجري، وذهب وكأنه يعمل شيئا لا يرضيه، أما الذي شغلني وآلمني، فهو كون المهدي بنبركة ذهب نحو السيارة دون أن يلتفت إلي ولو مرة واحدة، بل وكأنه يتجاهلني)).

مريبة إذن، تلك الظروف الغامضة التي جعلت رجلا يعتبر من أذكى رجال المغرب، ومن أبرز الشخصيات وأكثرها اطلاعا ودهاء وحنكة وخبرة، ينقاد لمصير غامض في ظروف هاته أوصافها.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى