الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | دور اليهود في قضية بنبركة “الحلقة 42”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    إذا كانت الأسطورة المغربية القديمة تقول: إن لكل رجل مهم، يهوديه، فإن كل وسط مغربي يوجد به يهودي، ولكل مغربي، فعلا، يهوديه.. فإذا كان “الترجمان” يهودي أوفقير، فإن لبنبركة أيضا يهوديه، كما أن للدليمي يهوديه، وحتى المحامي “لومارشان” له يهوديه.. وأين ما يولي الباحث في قضية بنبركة وجهه، يجد يهوديا.

وما دام رسم الحدود الالتزامية بين اليهودي والإسرائيلي لازال من الصعوبة بمكان، فإن ما قاله الطالب المعتقل، الماحي الغالي، عن السفر السنوي الذي يقوم به اليهودي “الترجمان” لإسرائيل، يزيد من صعوبة تحديد نقاط التماس بين اليهودي والإسرائيلي.

وإمساكا بخيط الارتباط، لا بد من توضيح ما وجب تبيينه عن اليهودي الذي كان يحظى بثقة المهدي بنبركة، وهل كانت هناك براهين ثقة أكثر من أن يتوجه المهدي بنبركة يوم 29 أکتوبر 1965، يوم اختطافه، رأسا من المطار إلى بيت صديقه اليهودي “جو أوحنا”، الواقع في 9 زقاق “جان ميرموز”، وهناك ترك المهدي حقيبته المتضمنة لكل وثائقه، وهناك ترك مشروع الفيلم ولم يأخذه معه، رغم أنه كان متجها لموعد مع منتج الفيلم ومخرجه. جو أوحنا هذا، من كبار رجال الأعمال، قام بمهام تجارية مرتبطة بالحكومة، وتقلد مهاما في وزارة التجارة، وفي بيته كان المهدي بنبركة ينزل في باريس، وقد صرح جو أوحنا أمام قاضي البحث بأن ((المهدي بنبركة كان يزوره بانتظام، وأنه في صيف 1965، في يوليوز، وشتنبر، زاره مرتين في باريس، وأنه كان يتجول معه في الشوارع، شاعرا بالأمن والاطمئنان)).

أما يهودي الدليمي، فهو أيضا لا يقل شهرة عن جو أوحنا، ويتعلق الأمر بيهودي من أصل هنغاري، كان يعيش بالمغرب حياة مترفة، في حماية الأمن الوطني، واسمه جورج تركالي، كان يتنقل ما بين باريس والمغرب وكأنه يتنقل بين الدور الأول والدور الثاني في بيت خاص.

وقد تكفل “جورج تركالي” بترتيب عملية وصول الدليمي إلى باريس ليلة 17 أكتوبر لصباح 18 أکتوبر 1966، على الساعة الرابعة صباحا، فقد نزل الدليمي في مطار “أورلي” واجتاز مراقبة الشرطة دون أن يفطن له أحد، رغم أن أمرا دوليا بإحضاره كان معلقا في نوافذ كل رجال شرطة الحدود الفرنسية، وقد استعمل الدليمي وسيلة من البساطة بمكان.. فقد قدم أوراق هويته باسم عائلة زوجته “بوسلهام”، وعندما اجتاز ممر مراقبة الحدود، استقبله جورج تركالي بالأحضان، ونقله إلى بيت صديقهما “ميشيل لوروا” بشارع “بيير دوسوربيي الأول”، وبذلك كشف الدليمي عن نوعية الوسط الذي يتعامل معه، فليس “ميشيل لوروا” إلا العميل المزدوج للمخابرات الفرنسية والأمريكية الحامل لبطاقة هوية تثبت أنه ضابط شرطة سري، وفي نفس الوقت رئيس لعصابة دولية كبرى، وبالمناسبة، فإن اليهودي جورج تركالي لم يكن إلا موظفا عنده، وقد سبق الحديث عن ميشيل لوروا ودوره في محاكمة السياسي الجزائري كريم بلقاسم.

ميشيل لوروا هذا، مات في حادث اصطدام غامض هو الآخر، فأراح واستراح، أما اليهودي تركالي، فماذا كان دوره في قضية اختطاف بنبركة؟

لقد حاول الكثيرون استفساره، وكان آخرهم الكاتب الفرنسي دانييل كيران، قابله واستفسره، فاستنتج منه ما أوجزه في كتابه “16 سنة من البحث” بالعبارات التالية: ((لقد أقسم لي جورج تركالي بشرف الأكروبول، بأنه كان أثناء الاختطاف في أثينا مع صديقه عبد القادر بنسليمان، الذي كان يقضي شهر العسل في أثينا)). عبد القادر بنسليمان أصبح وزيرا للمالية فيما بعد بالمغرب. بقي إذن، دور يهودي المحامي “لومارشان”، مايسترو العملية كلها.

لقد كان هذا المحامي الذي ارتسمت بصماته على كل مراحل العملية، مضطرا لأن يسافر إلى جنيف ـ کما سبق توضيحه ـ في 20 شتنبر، ليتتبع من بعيد مقابلة “فيكون” مع المهدي بنبركة، وفي الطائرة التي كان يركبها “فيكون” والصحفي “بيرنيي” في الدرجة السياحية، كان المحامي “لومارشان” في الدرجة الأولى يرتشف الشامبانيا، وبجانبه سيدة غامضة وجميلة اسمها أوسترويتز، أما وضعها الاجتماعي، فهي الزوجة السابقة ليهودي مغربي آخر اسمه إيلي ابيطبول وعائلة ابيطبول من العائلات اليهودية المغربية المشهورة، والمعروفة على مستوى عائلة “الترجمان”، أما وجودها مع المحامي “لومارشان” في الطائرة، فقد فسره المحامي لقاضي البحث، بأنه كان يرافقها للبحث في موضوع صهرها موريس ابيطبول المعتقل في جنيف، أما كيف تذهب مطلقة من دولة لدولة للبحث في قضية من زوجها المطلق، فهذا ما لم يستطع المنطق تفسيره لحد الآن، إلا أن وكيل النيابة العامة في محاكمة قضية المهدي بنبركة، الأستاذ طوبا، وضح ما خفي، وأبان ما استتر، وفي مرافعته أثناء المحاكمة الأولى قال الوكيل العام طوبا: ((إن السيدة أوسترويتز تعتبر عنصرا هاما في الجهاز الذي اختطف المهدي بنبركة)).

إسرائيلية أخرى، إذن، في المجموعة، ويد إسرائيلية أخرى إذن في العملية.. فهل هناك عناصر إسرائيلية أو يهودية أخرى؟ طبعا هناك اليهودي زوريتا الذي لعب دورا أساسيا في عملية المزايدة بين الشرطة الفرنسية و”فيكون”، وتعهد بالعثور على المهدي بنبركة، وبقي دوره غامضا إلى أن عاد إلى المغرب مرتاح البال، وفتح ملهى كبيرا على شاطئ الدار البيضاء.

لقد كان زوريتا يتحرك في نونبر 1966 بباريس، مدعيا قدرته على العثور على المهدي بنبركة، رفقة صديقه وشريكه، يهودي مغربي آخر اسمه جودا أزویلوش، وليس جودا أزویلوش بغريب على المغرب، فقد كان هو أيضا موظفا ساميا بوزارة التجارة المغربية بعد الاستقلال، وهو شاب أنيق، معروف بتأثيراته الكبرى في مجالات الاتصالات العامة، وأثناء الحملة النفسية التي كان يخوضها “فيكون” ضد القضاء الفرنسي، كان “جودا أزویلوش” على اتصال بـ”فيكون” وبمجلة “باري ماتش” في محاولة لإقناع عائلة المهدي بنبركة بضرورة الضغط على الحكومة الفرنسية لقبول شروط “فيكون” (أداء الخمسمائة مليون) لإرجاع المهدي بنبركة، ولكن موت “فيكون” وضع حدا لادعاءات جودا أزویلوش.

فهل ينسينا هذا كله، منطلق هذا الفصل، عن الفضيحة التي هزت الرأي العام الإسرائيلي والتي اعترف فيها الإسرائيليون بدورهم الكبير في قضية المهدي بنبركة؟ هل الأطراف المذكورة كلها تعتبر غريبة أو بعيدة عن عملية الاختطاف؟ وهل بلغ الاستعباط بأجهزة مخابرات إسرائيل حدا يجعلها لا تعرف أي شيء عن ملابسات قضية المهدي بنبركة، سواء أثناء التحضير لها أو بعد تنفيذها، إذا لم يكن لها دور في ذلك التنفيذ؟

إن فضيحة “بول” كشفت بما فيه الكفاية عن الدور الإسرائيلي الذي يجيب عن كل التساؤلات، ويضع نقط تفسير أمام كل نقط الاستفهام.

لقد أقدمت السلطات الإسرائيلية، في إطار المرات القليلة التي تخرق فيها القانون الإسرائيلي، على حجز عدد من صحيفة إسرائيلية تسمى “بول” وترجمتها من العبرية إلى العربية “الهدف”، وكان العدد المحجوز قد صدر في 11 دجنبر 1966، وقد غطيت الصفحة الأولى منه بحروف بارزة، تتضمن العنوان التالي: “الإسرائيليون في قضية بنبركة”، وقد كان بالإمكان حجز العدد والاكتفاء بذلك، لولا أن خطورة الأسرار التي تضمنها الموضوع، جعلت الحكومة الإسرائيلية تقدم على خرق آخر، هو اختطاف رئيس تحرير الجريدة شامويل مور، ونائبه في التحرير ماكسیم كيلان، وليست “الديمقراطية الإسرائيلية” هي التي كانت وراء الكشف عن هذه الخروقات، ولا هو البرلمان الإسرائيلي الذي طالب بفتح بحث في الموضوع.. ومن هنا تبرز حقيقة الخطورة القصوى لما نشره الصحفيان الإسرائيليان الجريئان.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى