الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المشاركة الإسرائيلية في قضية بنبركة بالأحداث والأسماء “الحلقة 41”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    اعترف الإسرائيليون أنفسهم بالدور الفعال الذي لعبته مخابراتهم في قضية اختطاف السياسي المغربي، بل إن القضية اكتست طابع فضيحة كبرى اهتز لها الكيان الإعلامي الصهيوني خلال فترات طويلة..

والفضيحة الإسرائيلية التي أصبحت تعرف بفضيحة “بول” والتي سنطرح جزئياتها، إنما تؤكد ما توفر من معلومات، وتضع النقط على الحروف الضائعة، وعلى ضوء فضيحة “بول” تنكشف تلك الخلفيات الغامضة التي بقيت منذ حادث الاختطاف، تطفو على صفحة الأحداث، ثم تعود لتختفي تحت الضغوط الإسرائيلية الكبرى.. تلك الضغوط التي طمست معالم الحقيقة، وطمست معها فضيحة “بول” التي لم تعرف محاكمة ولا متابعة، وهو أمر ليس بالغريب ولا بالمريب، فقد احتل الإسرائيليون على مدى السنين الطوال، صدارة النجاح في مجالات الطمس والإقبار.

لقد ورد النطق بالدور الإسرائيلي لأول مرة في تاريخ قضية المهدي بنبركة، علنيا ورسميا وقانونيا، في جلسة المحكمة أثناء الدورة الأولى للمحاكمة، حين وقف السينمائي “فيليب بيرنيي”، الذي أقنع المهدي بنبركة، عن حسن نية، بالمشاركة في إنتاج شريط “باسطا”، وانطلق يحكي للمحكمة في جلسة 8 شتنبر 1966، ظروف تقديمه للإرهابي “فيكون” إلى السياسي بنبركة، وبعد أن ذكر أنه لم يفكر في “فيكون” إلا لتحمس هذا الأخير لإنجاز الفيلم، واستعداده لتمويله، بينما يعرف “فيليب بيرنيي” أن “فيكون” تعوزه الأموال الضرورية لإنتاج فيلم من هذا النوع.

وقد سجلت في محاضر جلسات ذلك اليوم، هذه الاعترافات التي أدلى بها “بيرنيي” والتي قال فيها عن اليد الإسرائيلية: ((لقد سأل الرئيس بنبركة، مخاطبه فيكون بعد أن تحدث عن استعداده لتوفير الأموال الضرورية، عن مصدر هذه الأموال، فأجابه فيكون بأن هذه الأموال مصدرها إسرائيل))، وتوقف “فيليب بيرنيي” مرتبكا، ثم استمر في كلامه: ((لا أتذكر بالضبط، هل قال فيكون أن مصدرها إسرائيل، أم عنصر إسرائيلي.. فقد تحدث فيكون عن ممثلة كانت وقت تلك المحادثة، بصدد تصوير فيلم في إسرائيل، ولكني أعتقد أن فيكون تحدث عن مصدر إسرائيلي، حيث إن الرئيس بنبركة سارع للرد عليه قائلا: إنه يصعب علي أن أساهم في إنتاج فيلم تموله رؤوس أموال إسرائيلية)).

قد يتسارع إلى الأذهان ذلك السؤال المحرج: “لماذا استمر المهدي بنبركة في تعامله مع فيكون”؟ ولكن الجواب المنطقي نجده في التصريح الذي أدلى به “لوبيز” لرجال الشرطة الفرنسية، والذي قال فيه: ((إن عدم حضوره إلى جنيف في الاجتماع المقرر عقده بين بنبركة وفيكون وبيرنيي، في 20 شتنبر 1965، جعله يكلف عملاءه ومراسلين بتتبع أعمـال هـذا الاجتماع، وفعلا، كان له في صالة فندق “بريزيدان” بجنيف، مراسل يشتغل في مقصف الأوتيل، ويتتبع اجتماع بنبركة وفيكون، وينقل لرئيسه لوبيز كل الجزئيات.. وقال جاسوس لوبيز، إنه رأى فيكون يخرج دفتر شيك من جيبه محاولا ملأه، ولكن بنبركة أشار إليه رافضا، ثم أخرج فيكون من جيبه رزمة أوراق مالية، رفضها بنبركة))..

“فيليب بيرنيي” الذي كان حاضرا، أكد للمحكمة أن المهدي بنبركة رفض فعلا تسلم الأموال، کما رفض احترام العقد المذيل بإمضائه، والذي ينص على كل الجزئيات المالية المرتبطة بهذا التعاقد الممضى في 6 أکتوبر 1965 في نسختين بمدينة جنيف، والذي توجد نسخة منه في الوثائق التي وجدت في حقيبة المهدي بنبركة بعد اختطافه، وينص هذا العقد على ((أن يحصل المهدي بنبركة على نسخة مجانية من الفيلم، وعلى اثنين في المائة من مداخيله، وعلى أنه يتوفر على حق الرقابة، وعلى حق سحب اسمه من تقديم الفيلم أو الاحتفاظ به، كما ينص العقد في جملة مضافة في أسفل الورقة، على أن المهدي بنبركة يحصل على تعويض قدره خمسة عشر ألف فرنك فرنسي (مليون ونصف سنتيم) في حالة ما إذا لم ينجز الفيلم بعد مرور سنة على إمضاء العقد)).

ويظهر من جزئيات هذا العقد، أن “فيكون” أراد خلال اجتماعه الثالث مع المهدي بنبركة يوم 20 شتنبر 1965، أن يضغط على بنبركة لتسلم قيمة نصف مليون سنتيم كتسبيق يحرج به السياسي المغربي الذي رفض ذلك. لقد كان المهدي بنبركة إذن، رافضا الاستمرار في إنجاز الفيلم منذ أن عرف أنه من تمويل إسرائيلي، وربما كان ينوي الحضور إلى باريس لإبلاغ رفضه رسميا للمجموعة كلها.

تلك إذن، جزئية من الأهمية بمكان، توجز الرفض القطعي للمهدي بنبركة تسلم أموال من “فيكون” بعد أن أخبره هذا الأخير أن مصادر الأموال إسرائيلية. وبصرف النظر عن كون مصدر الأموال هو سبب الرفض في الاستمرار، فإن عنصرا آخر أكد قرار المهدي بنبركة رفضه للاستمرار في مشروع الفيلم.. ففي الشهور الأخيرة من سنة 1980، خمسة عشر عاما على اختطاف المهدي بنبركة، أصدر أحد ضباط المخابرات الفرنسية القدماء، واسمه “روبير لوموان”، كتابا عن حياته كضابط للشرطة السرية، وعنوان الكتاب هو “المهنة باربوز”، وتحدث “لوموان” عن المعلومات التي جمعها عن قضية بنبركة، والدور الذي لعبه فيها، وبعد أن أكد أن ((أوفقير كان يدبر القضية لأغراض في نفسه، أظهرتها مؤامرته في سنة 1972، أكد أنه حصل على معلومات مؤكدة تفيد أن محاولة الاتصال ببنبركة من طرف أوفقير، دامت سنتين، كان أوفقير فيها يحاول تمويل كل مشاريع بنبركة، وكان يبحث عن أموال بمختلف الطرق، بما فيها الأعمال اللاأخلاقية، وقد حصل يوما أن علم بنبركة بمصادر تلك الأموال، فقرر التوقف عن التعامل مع كل العناصر التي عرف مصادر تمويلها)).. فهل كان أوفقير وراء عملية تمويل الفيلم بأموال إسرائيلية؟ 

إن علاقة أوفقير بالعناصر اليهودية في المغرب، وعن طريقها حتما بالأجهزة الإسرائيلية، ليس ضربا من الادعاء، ومن المؤكد أن عددا من اليهود الذين كانوا يدورون في فلك أوفقير قد اختفوا بعد موته، بل إن هناك يهودا غادروا المغرب في عهد أوفقير، وتوجهوا إلى إسرائيل ليصبحوا نوابا برلمانيين، وساسة مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.. “ليفي” كان أخيرا مرشحا لرئاسة حكومة إسرائيل من مواليد الرباط، ولا داعي للغرق في الاحتمالات، فقد لعب أحد اليهود المغاربة دورا أساسيا في المرحلة التي سبقت اختطاف المهدي بنبركة، وفي الكتاب الذي نشره “لوي سوشون”، الشرطي الذي أوقف بنبركة، ودعاه للركوب في سيارة الشرطة، تحدث عدة مرات عن يهودي غامض اسمه “الترجمان”، لعب دورا حاسما في قضية الاختطاف، ولم يكن كتاب “سوشون” هو المنفرد بهذا الاكتشاف، فمن خلال استنطاق “لوبيز”، المتهم الرئيسي في القضية، سألته المحكمة عن هذا “الترجمان”، وقدمت الشرطة الفرنسية مذكرة لهيأة المحكمة تتضمن تحركات المسمى “الترجمان”، الذي كان يرافق أوفقير كظله، والتفت الرئيس بيريز إلى الطالب المغربي الذي كان يعمل مع الشرطة، واعتقل هو أيضا في القضية واسمه “الغالي الماحي” فسأله: ماذا تعرف عن الترجمان؟ فأجاب الماحي: “لا أعرف إلا أنه يتوجه سنويا إلى إسرائيل لزيارة بقاعه المقدسة”، ولكن الترجمان لم يكن في إسرائيل خلال تلك المرحلة الحاسمة في تاريخ المهدي بنبركة.. لقد أكدت محاضر الشرطة للمحكمة أن هذا “الترجمان” وصل لباريس يوم 13 أکتوبر 1965، ونزل في فندق (الأوتيل الكبير المذهب) بشارع “دومينيل”، وقال “سوشون” في كتابه: “إن الترجمان اتصل بي تلفونيا من ذلك الأوتيل”، وشاهدت الشرطة هذا اليهودي المغربي يتناول العشاء رفقة “لوبيز”، المتهم الرئيسي، ومعهما على نفس المائدة، الإرهابي “بوشسيش” الذي نقل المهدي بنبركة إلى بيته في “فونتوني لوفيكونت”، وقالت محاضر الشرطة أنه قام بأنشطة عدة، وأنه بقي مشرفا على شبه عملية وكأنه في مهمة رسمية إلى غاية يوم 4 نونبر، حين جمع حقائبه بغتة وغادر الأوتيل.. فقد سمع في الإذاعة أن الشرطة اعتقلت “لوبيز”، الذي كان يكلمه تلفونيا دون انقطاع.

وليست عائلة “الترجمان” مجهولة في المغرب، فهي إحدى أكبر العائلات اليهودية، المعروفة منذ القدم في إقليم تافيلالت جنوب شرق المغرب، وهي المنطقة التي كانت مرتع شباب أوفقير، وبها دفن بعد موته، كما توجد عائلة “الترجمان” في الدار البيضاء، معروفة بنشاط تجاري هام.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى