الرأي

الرأي | خلفيات أول تقرير رسمي ينتقد المجلس الأعلى للحسابات

بين التصريح بالممتلكات وتكلفة الفساد

((ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاس لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِي عملُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الرّوم الآية 41).
في الوقت الذي كثر فيه حديث الناس ولغط الرأي العام حول تنامي وتيرة الفساد في البلاد بشكل مهول أمام ضعف الآليات الكفيلة والهادفة إلى الحد من أثاره السلبية على المجتمع، عبر تجفيف منابعه، صدر مؤخرا تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها لعام 2020، ليقدم خريطة طريق واضحة واستراتيجية متكاملة للعمل ضمن تقرير موضوعاتي، منتقدا المقاربة التقليدية المتجاوزة للمجلس الأعلى للحسابات في التصدي للإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد بناء على تقييمها الشامل لضعفها وهشاشتها (المقاربة) فيما يخص قدرة هذا المجلس على رصد حالة الأمكنة ومنظومة مراقبة التصريح  الإجباري بالممتلكات، منهجا وممارسة، مناديا إلى مراجعتها مراجعة جذرية شاملة، استراتيجية وهادفـة في تقييم المخاطر وفق مبادئ النجاعة والأداء، في اتجاه توطيد دورها الطلائعي في إذكاء الدينامية اللازمة في درء الفساد وتوطيد الممارسات الفضلى للحكامة الديمقراطية والمسؤولية في تدبير الشأن العام.

وتزامن هذا الإصدار شاهدا على ظروف صعبة تميزت بالتأثير الملموس للإجراءات الاستثنائية المرتبطة بتدبير جائحة “كورونا”، وتداعياتها السلبية على الاقتصاد والطبقات الهشة على السواء، والبدء في تطبيق مضامين النموذج التنموي الجديد.

وقد استهل التقرير عرضه، بمقتطف من الخطاب الملكي الموجه إلى القمة 31 لرؤساء وحكومات الاتحاد الإفريقي المنعقدة بنواكشوط في فاتح يوليوز 2018، والذي مفاده أن “مشكلة الفساد لا يمكن اختزالها في بعدها المعنوي أو الأخلاقي، فالفساد ينطوي أيضا على عبء اقتصادي يلقي بثقله على قدرة المواطنين الشرائية، لاسيما الأكثر فقرا، فهو يمثل 10 في المائة من كلفة الإنتاج في بعض القطاعات، وعلاوة على ذلك، يساهم في الانحراف بقواعد الممارسة الديمقراطية، وفي تقويض سيادة الحق والقانون، كما يؤدي إلى تردي جودة العيش وتفشي الجريمة المنظمة وانعدام الأمن والإرهاب”.

 

بقلم: محمد حركات

 

مميزات وفضائل البحث الموضوعاتي المقدم من طرف الهيئة: 

1) الوقوف على مختلف الإكراهات ومظاهر القصور العميقة للمنظومة المغربية للتصريح بالممتلكات.

2) اعتبار التصريح بالممتلكات حجر الزاوية في مكافحة الإثراء غير المشروع عبر تحصين المال العام من الضياع. 

3) تبني مقاربة التجارب الدولية في سبيل استقراء سقف تفاعل مختلف التشريعات مع المواصفات العلمية المطلوبة، لاسيما فيما يخص علنية التصريحات وولوج قاعدة المعطيات بشأنها، حيث تم انتقاء تسعة تجارب دولية تهم كلا من فرنسا، تونس، الشيلي، الصين، رومانيا، أوكرانيا، ليتوانيا، إسبانيا والجزائر، وذلك على أساس ما توفره تشريعاتُها من إمكانيات للاستفادة والاستئناس في مراجعة التشريعات المغربية في الموضوع. 

4) الدفاع عن رقمنة التصريح بالممتلكات، باعتبارها رافعة الشفافية ومكافحة الفساد، حيث أبرز هذا الاستقراء أن مختلف التشريعات تعتمد نظام التصريح الإلكتروني بالممتلكات، كما أبقت تشريعات أخرى على نظام التصريح الورقي في حالات محددة مع توجه كل التشريعات إلى ضبط هذه المسطرة بما يضمن الوثوقية حين تبنت دولة ليتوانيا نظاما خاصا يتيح للهيئة المعنية القيام بالتعبئة المسبقة لاستمارة التصريح الخاصة بكل الملزمين، اعتمادا على المعطيات المتعلقة بممتلكاتهم لدى مختلف المؤسسات المعنية، والانصراف بعد ذلك إلى دعوة الأشخاص الملزمين لتأكيد ولإكمال تعبئة الاستمارة بعناصر الثروة غير المضمنة بها، عند الحاجة.

5) اعتماد النوعية فيما يتعلق بلائحة الأشخاص الخاضعين، فقد اتجهت مختلف التشريعات في تحديدها، إلى اعتماد معيار درجة المسؤولية في التدبير أو في اتخاذ القرار، أو في مزاولة مهام معرضة لتحقيق مكاسب، وامتدت لائحة بعض التشريعات لتشمل الأجهزة العسكرية، في حين ألزمت تشريعات أخرى أصحاب المهن الحرة، بالتصريح بممتلكاتهم.

6) ضرورة الاستثمار الأمثل للعامل الزمني في تسريع الانتقال إلى المرحلة الجديدة لمكافحة الفساد ببلادنا، وفق مستلزمات التعبئة والتعاون والتكامل المؤسسي، وتعزيز انخراط المواطنين والمجتمع برمته، الشيء الذي من شأنه تجفيف بؤر هذه الآفة وتحجيم أثارها ومحاصرة امتداداتها على مستوى الوقاية والزجر والتنشئة والتوعية، بلوغا إلى إرساء مقومات بناء الثقة التي تشكل ركيزة أساسية لضمان الانخراط الجماعي.

 بعض مظاهر القصور والإكراهات العميقة للمنظومة المغربية للتصريح بالممتلكات:

1) يقر التقرير أن المنظومة تعاني من أعطاب هيكلية تطال تدني منسوب تجاوب الآليات التي اعتمدتها القوانين، حيث ما فتئ المجلس الأعلى للحسابات يؤكد بشكل خاص، على الإكراهات المتعلقة بالقاعدة الواسعة للملزمين، والتي ينتج عنها إيداع أعداد كبيرة من التصريحات لدى المجلس، علما أنه في غياب نظام معلوماتي قادر على استيعاب هذه الأعداد من خلال التصريح عن بعد والمعالجة الأولية للمعطيات، تصبح عملية المراقبة والتتبع شبه مستحيلة وغير فعالة. 

2) تأكيد التقرير على محدودية منظومة التصريح بالممتلكات التي تتميز بتدني منسوب تجاوب الآليات التي اعتمدتها القوانين الوطنية لتأطير هذا المجال مع المواصفات المعيارية والتطبيقات الدولية الفضلى ذات الصلة.

3) تجاوز الوضعية الحرجة ما رصده المجلس من مظاهر القصور، لأن هذه المنظومة تعاني من أعطاب هيكلية، سواء على مستوى الأشخاص الملزمين، أو التتبع والمراقبة، أو متطلبات الشفافية، أو مساطر البحث والتحري، أو المخالفات والمعاقبة عليها.

4) قيام التقرير الموضوعاتي بإنجاز تقييم نوعي للتشريع المغربي على قاعدة تنقيط معياري على أساس “خمسة عشر” مواصفة معيارية، بمعدل نقطة واحدة لكل تفريع من تفريعات تصريف كل مواصفة معيارية، وقد أفضى هذا التقييم إلى رصد نسبة تجاوب التشريع المغربي مع المواصفات المعيارية أساسا في العناصر الآتية:

أ) توسيع نطاق الأشخاص الملحقين بالمصرح، علما أن التشريع الوطني، لم ينص على أي مقتضى لتدبير التوازن بين مبدأ الاستقلالية المالية للأزواج وبين ضبط النقل المحتمل للأصول لفائدة الأقرباء والأزواج على الخصوص: نسبة التجاوب 64 %؛

ب) ترسيخ مبدأ استقلالية الهيئة المكلفة بالمراقبة مع مراعاة مبدأ تظافر جهود الهيئات المعنية: نسبة التجاوب 62.5 %؛

ت) استجابة عناصر الثروة الواجب التصريح بها للأهداف المتوخاة من التصريح: نسبة التجاوب 73 %؛

ث) توخي الدقة والتفصيل في المعلومات المتعلقة بالممتلكات: نسبة التجاوب 80 %؛  

ج) اعتماد وتيرة موضوعية للتصريح، علما أن وتيرة تجديد التصاريح تبقى مثار تساؤل: نسبة التجاوب 70 %؛    

ح) ضمان العقلنة والنجاعة في معالجة ومراقبة والتحقق من المعطيات المتضمنة بالتصريحات، علما أنه في غياب نظام معلوماتي ملائم، يصعب الحديث عن عقلنة مراقبة وتتبع التصاريح، بالنظر للاعتبارات المتعلقة بالعدد والوسائل وغياب التقاطع المعلوماتي مع الإدارات والمؤسسات المتوفرة على المعلومات ذات الصلة: نسبة التجاوب 100 %. 

من خلال هذا التقييم، خلصت الهيئة إلى وضوح الأعطاب الحقيقية التي يعاني منها نظام التصريح بالممتلكات، حيث تبين لها غياب الخيط الناظم لهذه المنظومة والناتج عن عدم وضوح الأهداف ومحدودية النجاعة القانونية، وضعف منسوب شفافية المنظومة، الناتج بالأساس عن الانغلاق الواضح لنظام التصريح بالممتلكات، وتذبذب المعايير المعتمدة في تحديد لائحة الملزمين، والذي جعل هذه اللائحة مستوعبة لأشخاص ليسوا على قدم المساواة من حيث مستوى تعرضهم لشبهات الفساد وارتباطهم بالأموال العامة، وجعل دائرة الملزمين أوسع من قدرات التتبع والمراقبة، خاصة في ظل النظام الورقي الحالي، وغياب آليات مضبوطة وناجعة للإحالة ولتبادل المعلومات، وضعف تناسب الجزاء المقرر مع حجم المخالفة المرتكبة، وعدم التنصيص على مبدأ نشر العقوبات الشامل لجميع الملزمين.

 نحو بلورة استراتيجية شاملة للنهوض بتقييم منظومة التصريح بالممتلكات: 

1) اقتراح مجموعة من الإجراءات لتنزيل التوصيات المتعلقة بمراجعة المنظومة المتعلقة بالتصريح الإجباري بالممتلكات، والتحفيز على التبليغ عن أفعال الفساد، وإصلاح منظومة الوظيفة العمومية، ومواصلة إصلاح منظومة غسيل الأموال، وتعزيز شفافية الأحزاب السياسية.

2) تحديد عناصر الثروة المتعين التصريح بها بما يشمل على الخصوص العقارات الشخصية والقابلة للقسمة والمشاعة، العقارات المبنية وغير المبنية، القيم المنقولة، الأسهم والسندات، التأمين على الحياة، الحسابات البنكية الجارية أو حسابات التوفير، الأموال النقدية، دفاتر الحسابات والفوائد الناتجة عنها، المنقولات التي تتعدى قيمتها مبلغا معينا، العربات ذات المحرك والسفن والطائرات، الأصول التجارية والتكاليف الناتجة عنها، الممتلكات العقارية والمنقولة والحسابات المملوكة بالخارج، القروض، الإرث، التحف الفنية، والحلي والجواهر.

3) استحضار مخاطر الفساد، إضافة إلى توخي الشمولية في المعلومات الشخصية وفي المعلومات المتعلقة بالثروة، ومراعاة الوضوح والدقة والمقروئية من طرف الفئات المستهدفة.

4) ضبط مسطرة إحالة التصاريح التي تؤكد المواصفات بخصوصها على مطلب الإحالة الإلكترونية، وعلى أهمية التوفر على سجل متكامل يتضمن لائحة جميع الملزمين، واعتماد آليات فعالة للتواصل بين المصرحين والهيئة المعنية بتلقي التصاريح، والاشتغال بمساطر واضحة لتعبئة وإحالة نماذج التصاريح.

5) تمكين الجهة المكلفة بالتلقي والمعالجة من أنظمة متطورة وآمنة للتكنولوجيات مع الإدارات التي تتوفر على المعلومات المستهدفة “التشبيك المعلومياتي”، ومن الآليات القادرة، بحكم اختصاصاتها، على رصد تطور الثروات، لتسهيل العمل على تتبع ثروات الملزمين بالتصاريح.

6) تثبيت علنية التصاريح وإتاحة المعلومات المتعلقة بعمل الهيئة المختصة، والتي ينبغي أن يؤطرها مبدأ نوع المعلومات المتعين إتاحتها، وكيفيات الولوج إليها، ومكان الحصول عليها، ومبدأ تبادل المعلومات بين الهيئة المتلقية، من جهة، والمؤسسات الوطنية والدولية المعنية بموجب الاتفاقيات والمعاهدات ذات الصلة، ومبدأ مراعاة الثقافة والإطار القانوني الجاري به العمل داخل كل بلد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى