تقرير فرنسي يكشف عن لقاء سري للحسن الثاني بالسفير الفرنسي حول قضية المهدي بنبركة

وكأن التاريخ يعيد نفسه، والحسن الثاني يذهب لبيت وزير خارجيته بنهيمة ليبلغ السفير الفرنسي، أنه لن يستجيب لطلب القاضي الفرنسي، بالاستماع إلى وزير داخليته الجنرال أوفقير.
حصل هذا سنة 1966، سنة بعد اختطاف المهدي بنبركة، تماما كما حصل في عهد ولده محمد السادس، والقضاء الفرنسي يريد الاستماع لمدير الديسطي المغربية، الحموشي. الحسن الثاني هو أيضا قال للسفير الفرنسي إن الإنصات إلى مسؤول مغربي هو من اختصاص القضاء المغربي.
——————————-
طال الحديث حول موضوع اغتيال المهدي بنبركة في أكتوبر 1965، الذي شغل الرأي العام في مرحلة من المراحل ومازال إلى الآن، وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكان السؤال هو من قتل المهدي بنبركة؟ وكيف قتل؟ غير أنه أهملت تماما مواضيع أخرى لا تقل أهمية عن هذا السؤال المركزي المطروح، وهي من قبيل لماذا لم يُقْدِم الحسن الثاني على إقالة محمد أوفقير؟ وكيف نظر الفرنسيون إلى العلاقة بين أوفقير والحسن الثاني في تلك الفترة؟ وكيف توقعوا إمكانية اشتغال أوفقير لوحده دون علم الحسن الثاني؟ وموقف الحسن الثاني من الأزمة الفرنسية المغربية؟ وهل كان الرئيس الفرنسي يتوصل بكل المعلومات حول قضية المهدي بنبركة؟ أم كانت تتدخل جهات أخرى لتوصل له معلومات مغلوطة؟
كل هذه الأسئلة، ما كان لنا أن نجد لها أجوبة محددة لولا توفر بعض الوثائق الرسمية التي ظلت سرية إلى عهد قريب. وما يزيد الموضوع أهمية هو مصدر الوثيقة التي نقترحها على قرائنا، لأنها من الأرشيف الفرنسي، بمعنى من الدولة المعنية مباشرة بالأزمة، وهي التي قتل على أرضها المهدي بنبركة. وهي آخر عمل قام به السفير الفرنسي بالمغرب قبل عودته إلى فرنسا، وذلك بعدما قررت هذه الأخيرة سحب سفيرها من المغرب في أعقاب قضية المهدي بنبركة.
هذه الوثيقة عبارة عن تقرير حول لقاء سري جمع السفير الفرنسي بالمغرب، والملك الحسن الثاني بتاريخ يوم الإثنين 24 يناير 1966. وقد تم هذا اللقاء بمنزل أحمد الطيب بنهيمة وزير الخارجية والتعاون المغربي (20 غشت 1964 إلى 23 فبراير 1966). أما الحضور فقد كان مكونا من رئيس الديوان الملكي إدريس المحمدي، بينما حضر الملك لوحده إلى المنزل وبصفة سرية، على الساعة السابعة مساء، ودام اللقاء ساعة كاملة من المباحثات.
ويشير السفير الفرنسي من خلال هذا التقرير إلى أن اللقاء تناول عدة مواضيع رئيسية ومختلفة، وكذلك أفكارا معقدة نظرا لطبيعة المرحلة، وطبيعة العلاقة التي كانت تمر منها العلاقات المغربية الفرنسية في تلك المرحلة. وقد سجل النقط التالية حول أهم ما تطرق له اللقاء وهي:
أسباب عدم إقالة الحسن الثاني لأوفقير
حول مشكلة محمد أوفقير وزير الداخلية، الذي طالبت فرنسا بعد اغتيال المهدي بنبركة بإقالته من منصبه، حيث ذكر السفير في هذا التقرير أن للملك الحسن الثاني رأي واضح بخصوص هذا الطلب، حيث يرى الملك أنه من غير المعقول إقالة الرجل، ولو كان ذلك على حساب رفض طلب رئيس دولة تربطها بالمغرب علاقات وطيدة، وهي فرنسا. واعتبر الحسن الثاني أن من أبرز أسباب رفض هذا الطلب وهو أن إقالة أوفقير بناء على طلب من الرئيس الفرنسي دوغول يعتبر في حد ذاته تدخل سافر في شؤون المغرب الداخلية. ورأى الملك أنه كانت هناك بخصوص هذه المسألة اعتبارات وطنية وكرامة إنسانية كان على باريس أن تأخذها بعين الاعتبار. كما لم يخطر بباله أن كون دوغول أو أي رئيس دولة آخر قد يتفهم هذه الأمور، التي تعتبر مسألة داخلية وخاصة بالمغرب، وأن من شأن الإقدام على أية خطوة أو مبادرة يقترفها أي رئيس دولة أخرى من شأنه أن يسقط هيبة الحكومة في أعين الرأي العام المغربي، وباقي المكونات الأخرى.
شك في عدم وصول كافة المعلومات إلى الرئيس الفرنسي
لقد أكد الملك بشدة أنه لا يعتقد أن المعلومات التي تصل إلى دوغول حول الموضوع وتطور الأحداث ليست كاملة، ومن الممكن أن تكون هناك بعض الجهات تتعمد فعل ذلك، ويطرح السفير السؤال التالي: كيف لا يعتقد الملك الحسن الثاني أن الرئيس الفرنسي دوغول لم يتم إخباره بكل تفاصيل هذه القضية؟
تأسف الملك من حملات الإعلام ضد النظام المغربي
منذ أحداث 23 مارس 1965 بالدار البيضاء، شنت صحافة اليسار الفرنسية حملة مسعورة ضد النظام المغربي. ولم تكد هذه الحملة تتوقف حتى جاء حادث مهم آخر وهو اغتيال المهدي بنبركة، الأمر الذي جعل الصحافة بكاملها بما فيها اليمين واليسار تتوحد ضد المغرب بل وحتى الإعلام الرسمي. ويشير هذا التقرير إلى أن الحسن الثاني أبدى شديد التأسف من جراء هذه الحملة، خاصة وأن الإعلام الرسمي صار يقوم بحملات عدائية ضد المغرب. حتى إذا تعلق الأمر بتقديم برنامج إعلامي عن المغرب فإنه تخللته لقطات حول مظاهرات 23 مارس 1965 بالدار البيضاء. كما أنها تقدم معطيات ومعلومات إيجابية ومنحازة لعبد الرحيم بوعبيد والمعارضة بصفة عامة، حيث إن كل هذه الخطوات حسب التقرير في حد ذاتها موجهة ضد الملك بصريح العبارة.
عدم وجود أدلة لتورط أوفقير في الاغتيال
يشير التقرير إلى أن الملك طلبت منه فرنسا أن يقيل أوفقير من منصبه، ولكن الملك تساءل خلال هذا اللقاء عن الفائدة من ذلك في هذه الظرفية خاصة إذا كانت التحقيقات ستستمر، كما أشار إلى أن هذا القرار في حد ذاته لن يحل المشكلة أبدا ويشير السفير إلى أنه أخبر الملك خلال هذا اللقاء بأن قضية بنبركة لها وجهين: وجه سياسي ووجه قضائي.
كما أنه ومن جهة أخرى، فقد طلب منه أن يقيل أوفقير من منصبه دون أن تقدم له حجج إدانته، خاصة وأن اتهام أوفقير جاء بناء على ادعاءات مغرضة من طرف أحد القتلة وهو جورج بوشيسييش George Boucheseiche، ويتساءل السفير بدوره حول هذه النقطة بكون هل يعقل أن يكتفي القضاء الفرنسي بتصريحات هذا القتال لاتخاذ قرار خطير من هذا الحجم والقاضي بإقالة الجنرال أوفقير من منصبه.
أسباب رفض تطبيق البند 28 من الاتفاقية القضائية المغربية الفرنسية
لماذا تم رفض تطبيق المسطرة المنصوص عليها في البند 28 من الاتفاقية القضائية المبرمة بين المغرب وفرنسا بتاريخ 5 أكتوبر 1957؟ يشير صاحب التقرير في هذا الشأن بأن المغرب لم يستجب للجنة القضائية المتعلقة بأوفقير، لأن الأمر يتعلق بإجراء يدخل في إطار السيادة الفرنسية، حيث أن النص القانوني كان من تحرير قاض فرنسي، وهو الذي حدد الأسئلة التي كان على أوفقير أن يجيب عنها. لكن في إطار الفصل 28 من الاتفاقية الفرنسية المغربية بخصوص التعاون القضائي المسطرة تختلف تماما، ذلك أن طلب المتابعة القضائية لم يكن إلا أن تقبله السلطات القضائية المغربية، غير أنها هي التي درست الملف على أساس ما تتوصل به من وثائق في هذا الشأن. وبناء على هذه المعطيات يشير صاحب التقرير إلى أنه في هذه الحالة فإن المغرب هو من يتحمل المسؤولية أمام الرأي العام الوطني والدولي بخصوص القرار الذي سيتخذ بشأن أوفقير. ويشير أن فرنسا من جهتها ستقوم بكل الإجراءات القانونية طبقا لما تخوله لها الاتفاقيات الجاري بها العمل في هذا الشأن.
ويشير التقرير إلى أمر التشكيك في غياب نتائج إيجابية من جراء اللجوء إلى هذه المسطرة، ويشير السفير الفرنسي إلى أن الملك ألح إلحاحا قويا حول هذا الجانب من القضية، ملتمسا من السفير الفرنسي توضيح مدى أخذ باريس بعين الاعتبار التقرير الذي قدمه له أحمد بنهيمة بخصوص تلك القضية.
رفض الملك مثول أوفقير أمام القضاء الفرنسي
منذ أن ذكر أحد المشاركين في اغتيال المهدي بنبركة اسم أوفقير كأحد المشاركين معه في العملية، حتى صار مطلب القضاء الفرنسي مثول أوفقير أمامه. ويشير التقرير إلى أن أوفقير ألح في كثير من الأحيان على الملك أن يذهب إلى باريس، وذلك بهدف التعبير عن براءته وكذلك الإجابة عن الاتهامات الموجهة إليه، غير أن الملك رفض هذه المقترحات قطعا.
تأكيد الملك على الحفاظ على العلاقات المتميزة مع فرنسا
يشر التقرير إلى أن الملك حرص خلال هذا الاجتماع على تكذيب ما تداولته بعض الأخبار حول نيته في التخلي عن فرنسا وربط علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. كما عبر الملك عن حزنه، وطلب من السفير أن يخبر الرئيس الفرنسي بذلك، حيث حرص على التأكيد وبقوة على سعيه في الحفاظ على علاقته بهذا الأخير بالرغم من المشاكل التي طغت على العلاقات بين البلدين، وذلك رغم الأزمة الخطيرة والعميقة التي تمس علاقاته الشخصية مع الجنرال دوغول.
رأي السفير الفرنسي في بعض القضايا المتعلقة بالمغرب
أشار السفير الفرنسي في هذا التقرير إلى ملاحظة يقول من خلالها بأنه امتنع في الجزء الأول من هذا التقرير عن ذكر الأجوبة وجهة نظره التي قدمها للملك وملاحظاته الخاصة خلال هذا اللقاء، وذلك حتى لا يثقل التقرير بآرائه. ويرى أنه من الضروري إبداء ملاحظات حول هذه القضايا في وقت وصلت فيه مهامه بالرباط إلى النهاية، وكانت ملاحظاته كالتالي:
تأثر الملك بالأزمة الفرنسية المغربية
يرى السفير أن الملك متأثر صراحة بفعل تلك الأزمة، حيث أخبره أحمد بنهيمة وزير الخارجية بأن الملك تأثر كثيرا من جراء استدعاء باريس لسفيرها من الرباط، وأكد له أن الملك ظل يتحدث عن الأمر طيلة شهر رمضان، كما عكف على الاضطلاع ومراجعة الصحف الفرنسية والبيانات الرسمية الصادرة من باريس. كما يشير إلى أن الملك استفسره حول السياسة الفرنسية تجاه دول العالم الثالث، وموقع المغرب فيها، حيث أشار له أن المغرب كملكية محافظة ألم تعد له مكانة بين الدول التي تدعمها فرنسا.
أما بخصوص الجانب المتعلق بتطبيق المسطرة القانونية المتعلقة بالمادة 28 من الاتفاقية القضائية الفرنسية المغربية فإن السفير يشير إلى أنه أخبر بنهيمة بأن المسطرة ليست معقدة، حيث من جهة هناك قضية المحافظة على أوفقير في الحكومة، ومن جهة أخرى مثول أوفقير أمام القضاء فهل تصدر إدانته. أما بخصوص المزايدات السياسية فلا توجد لها مكانة في هذه القضية حيث أكد السفير أن المساعدات الفرنسية لن تنقطع عن المغرب أبدا.
هل كان أوفقير يطلع الملك على كل ما كان يقوم به؟
يتساءل السفير بحيرة حول هذه القضية حيث أن خبرته ومعرفته بخبايا المغرب وهو الذي يتقلد أعلى منصب دبلوماسي فرنسي بالمغرب، جعله يشك في علم الملك بكل ما يقوم به أوفقير، حيث قال في التقرير “لا يمكن القول بأن الملك على علم بكل ما قام به أوفقير“، غير أنه لم يستبعد على أساس إخلاص أوفقير للحسن الثاني، أن الأول كان يخبر الثاني بمجريات وتفاصيل الأحداث. ولكن إمكانية عدم اطلاع الملك من طرف أوفقير تبقى واردة وبقوة. كما ذكر السفير أن أوفقير مقتنع تمام الاقتناع بأن أي حجة حقيقية بخصوص إدانته في قضية بنبركة لم توجه إليه، وأنه من الممكن أن يكون قد أقنع الملك بهذا الشعور. غير أنه حسب السفير فإن هذا الشعور يكتنفه بعض الحذر لعدم معرفة المغاربة لما يحتويه الملف القضائي. وهذا ما يفسر موقف الملك سواء من خلال محادثاته مع السفير، أو من كونه لم يدل بأي تصريح يدين من خلاله إدانة فرنسا لأوفقير.