الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | عندما رفض الحسن الثاني تصفية القذافي

ملف أوفقير "الحلقة 12"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    قليلون هم الذين قرأوا مذكرات مؤرخ المملكة، عبد الوهاب بنمنصور، أثناء كتابتها، وقد نشرت سنة 1970، ولكن لا شك أن مدلولها ظهر فيما بعد، مثلما ظهرت جزئيات أكبر وأخطر، تثبت كلها نوعية التفكير الذي كان يخامر أوفقير منذ شبابه، إذ لم يكن تكوينه الاجتماعي ولا المدرسة التي تخرج منها، وهي المدرسة العسكرية والسياسية الفرنسية، من صنف المدرسة الوطنية المعادية للاستعمار الذي نفى ملك البلاد وأفراد عائلته، والتي أعطت رجال الحركة الوطنية المغربية التي كان المهدي بنبركة أحد أقطابها.

لقد قال الملك الحسن الثاني عن أوفقير: ((إن والده هو الذي سلم عبد الكريم الخطابي للفرنسيين، وجده كان يعمل مع الروكي (أحد المتمردين ضد العرش سنة 1907)، وكانت كلها أسرة للخيانة أبا عن جد))، وأضاف العاهل المغربي في إحدى ندواته الصحفية المعقودة يوم 21 غشت 1972: ((لا ننسى أن أوفقير شب وترعرع في الإقامة العامة الفرنسية.. فقد كان مرافقا عسكريا للجنرال دوفال، ثم عمل مع بواييدولاتور. لقد عاش حقبة من تاريخنا، حيث واكب كافة مراحل المشروعية، ومجلس العرش، ومجلس الثلاثة، وعلم تمام العلم في ذلك الوقت، أن المواطن المغربي لا يقبل بعدة أشياء، ولما كان ينبغي له ألا يخرج عن إطار المشروعية والشرعية، كان اختفائي ضروريا بالنسبة إليه، حتى يتمكن من المجيء بولي العهد من إفران، وتتويجه، وفي ذلك نسخة مكررة لأحداث عهد بن عرفة (السلطان الذي نصبه الفرنسيون بعد نفي الملك محمد الخامس)، وبوسعكم طرح السؤال على الكثير من الناس، ذلك أن أوفقير كان له ضلع من قريب في جميع هذه القضايا، خصوصا وأنه هو الذي انصرف للبحث عن بن عرفة ليوصله إلى الطائرة، لذا يمكن القول أنه من تكوين الإقامة العامة الفرنسية)).

إن أكبر تلك القضايا، كانت ولا شك، قضية اختطاف المهدي بنبركة، لا وفاء للمشروعية ولا حفظا للملكية من أخطار المهدي بنبركة، وإنما استمرارا للمهمة التي وكلت إليه منذ تم حقنه في الجسم المغربي المستقل، لينفذ مخطط الرافضين لاستقلال المغرب، وبذلك، فهو يلتقي مع الإمبريالية العالمية، ومع أجهزة المخابرات العالمية، وبعد تصفية المهدي بنبركة على الطريقة التي سيأتي الحديث عنها، أراد تصفية العقيد القذافي، ولا يمكن القول بأن القذافي كان أحد رجال المعارضة المغربية، رغم أنه كان يدعمها، إلا أنه قدم مشروعه يوما للملك الحسن الثاني، الذي قدمه للصحافة العالمية في ندوة 21 غشت 1972، بقوله: ((لقد صادف ذلك الجولة التي قمت بها في الجنوب، وكنت آنذاك في أكادير، فقال لي الجنرال أوفقير: إن الرئيس القذافي يتوجه إلى نواكشوط (عاصمة جمهورية موريطانيا)، فلو تمكنت من معرفة برنامج تحليق طائرته، فما رأيكم لو بعثنا بطائرة من طراز “ف 5” لتضربه في عرض الصحراء ثم تعود، فكان جوابي: هل أصابك مس من الجنون، هناك شيئان لا يعقلان، لنفرض أننا على علم ببرنامج رحلة الطائرة وطريقها، وأننا أصبناها.. ألا تفكر في التحقيق الذي سيتبع ذلك، سيعثرون على أثار قذائف “الروكيت” التي تستخدمها طائرات “ف 5″، علما بأن هذا النوع من الطائرات لا يوجد بالمنطقة إلا في المغرب.. فهل تتصور الضجة التي ستثار على الصعيد الدولي، إذ سيقال أنه وقعت قرصنة جوية ضد رئيس دولة؟ وثانيا، فإن هذه الفعلة فيها ما ينافي التقاليد المغربية، لا، لا، إنني لآسف جدا، فقال أوفقير: آه لو عرفت))، وكان الملك الحسن الثاني قد ذكر اسم أحد الشهود الذين حضروا هذا الحوار، فعلى ماذا كان يتحسر أوفقير لكون الملك الحسن الثاني لا يعرفه؟

تتمة المقال بعد الإعلان

إنها مجموعة حقائق تكون رصيد الرجل الذي ارتبط اسمه باختطاف المهدي بنبركة، وكشوف هويته، وعروض لطريقة تعامله، ولم يتوفر وضوح أكثر، ولا جلاء أفصح من تحسر العاهل المغربي أمام ضباطه، يوم 19 غشت 1972، وهو يتحدث عن قضية المهدي بن بنبركة بهذه التعبيرات: ((المسألة الثانية لا يعرف أحد منكم أبعادها، لأنني أعرف أوفقير، وأعرفه معرفة ضرورية، لأنني دافعت عنه وحميته أكثر من اللازم، وأكثر من هذا، جمدت علاقتي بفرنسا من أجله، وأضررت بالمصالح المشتركة بين البلدين، ليس من أجله شخصيا، ولكن دفاعا عن بذلته العسكرية، ودفاعا عن ضابط سام في الجيش ودفاعا عن وزير مغربي)).

قد يصعب على القارئ أن يفهم أبعاد هذه التصريحات، ولكن سبر أغوار ملف اختطاف المهدي بنبركة، هو وحده الكفيل بتجلية خلفياتها.

بعد نشوب الحرب المغربية الجزائرية، في أكتوبر 1963، بين جارين شقيقين، من أجل حفنة رمل، لكن بالنسبة للمغاربة من أجل حدودهم، نتيجة خطأ ارتكبه الرئيس الجزائري بنبلة، لم يكن هناك شك بأن الأيادي السرية، في الجزائر، حيث كانت مخلفات الاستعمار الفرنسي لا زالت متواجدة، وفي المغرب حيث كان أوفقير واحدا من تلك المخلفات، هو صاحب الأمر والنهي، ظهر على ميدان المعارك احتياج المغرب ونقصه للأسلحة الحديثة، ورغم أن المطوعين المغاربة دخلوا الحدود في تلك الحرب، فإن أوفقير أرغمهم تحت تهديد السلاح على مغادرتها، كما أنه هو الذي سجن مجموعات كبرى من الطلبة والمواطنين الصحراويين غفي جنوب المغرب، داخل معتقلات بطرفاية، وكان من بينهم شبان أمثال الالي مصطفى السيد، مؤسس البوليساريو، وكانت تلك هي القنبلة الموقوتة التي خلفها أوفقير في المنطقة، ولم يكن أحد وقتها يعرف لماذا التنكيل بالطلبة الصحراويين القاطنين بالرباط والدار البيضاء ونفيهم والتنكيل بهم، والتي هربت من ضغوط أوفقير ولجأت بالصحراء، وأسست الفلول الأولى لمنظمة البوليساريو، ومن بينهم رجل اشتغل في إذاعة “العيون” لفائدة إقامة دولة صحراوية في ظل النفوذ الإسباني، ودخل للمغرب بعد الوحدة، وهو الآن موظف بوزارة الداخلية، ويسمى علي عبد الله.

تتمة المقال بعد الإعلان

عنوان آخر لمؤامرة أخرى، ولكن هذه اللعبة أخطر وأكبر من أن تتحول من تخطيط شخص بسيط مثل أوفقير، ولكن الجهة التي كان أوفقير يعمل لصالحها، وهي الجهة الفرنسية، سرعان ما اصطدمت مع الجهة التي كانت لها مطامع كبرى في المنطقة، وهي القوة الأمريكية. فبعدما اكتشف المغرب حاجته إلى السلاح، على ضوء حرب الحدود سن 1963، أوعزت المخابرات الأمريكية، التي كانت وقتها تعطف على المعارضة المغربية، على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعلى منظمة الاتحاد المغربي للشغل عبر صداقة أمينه، العام المحجوب بن الصديق، مع الكاتب العام للنقابات الأمريكية، براون، الذي كان له ضلع كبير في منظمة “سي. آي. إي”، (أوعزت) بأن يرتبط تقديم الأسلحة الأمريكية للمغرب بانفتاح سياسي في المغرب وتصالح مع المنظمات التقدمية، ورغم أن المهدي بنبركة ارتكب غلطة العمر التي وصمت شعبيته، حين أعلن تأييده للجزائريين أثناء حرب الحدود سنة 1963، مما تسبب في الحكم عليه غيابيا بالإعدام في أكتوبر 1963، ورغم الحكم على قادة الاتحاد الوطني، محمد البصري ومومن الديوري وعمر بنجلون، بالإعدام في 14 مارس 1965، فإن الملك الحسن الثاني سارع إلى تخفيف ذلك الحكم بالإعدام في شتنبر من نفس السنة، ورغم أحداث مارس 1965 بالدار البيضاء والتي سجل فيها أوفقير شخصيا تجاوزات لا مبرر لها، إلا توسيع شقة البعاد بين العرش والقوات الوطنية، فإن الملك الحسن الثاني، والاعتراف للتاريخ، قد وقف شخصيا في وجه أوفقير، وبعد استقباله لعبد الرحيم بوعبيد، وإخباره بالمخطط الجديد الذي يقضي بالتصالح الوطني، وبالدخول  في اتصالات مع اللاجئين بالخارج للعودة إلى المغرب، وعلى رأسهم المهدي بنبركة، فإن العاهل المغربي اتبع قوله بالعمل، وفي 13 أبريل، عشرين يوما بعد حوادث مارس 1965، قرر العفو العام وإطلاق سراح جميع المعتقلين، والعفو عن جميع المحكومين. وقتها واجه أوفقير ملك المغرب بمنتهى الصراحة، وعارضه في إطلاق سراح المعتقلين، وعندما اختار أوفقير طريقة أخرى وميدانا آخر لمنازلة الاتحاديين، أخبره مراسلوه في باريس، بأن هناك اتصالات سرية تجري بين سفير الملك الحسن الثاني في ألمانيا، الأمير مولاي علي، وبين المهدي بنبركة.

إن الحزب المعارض المغربي الوحيد، لا ينازع ولا يناقش أبدا في الاختيار الملكي للمغرب، مغرب يتعاون فيه الملك الحسن الثاني مع القوات الحية يدا في يد، لا مكان فيه لأوفقير، ولن يمكن في تلك الحالة تنفيذ المخطط الذي كان مرسوما، لكن على المدى الطويل، إذا وجب قطع رأس المعارضة، وإذا وجب استعمال الوسائل الكبرى.

يتبع

تتمة المقال بعد الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى