الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | عندما نفذ أوفقير إعداما سريعا للجنرالات خوفا من تراجع الحسن الثاني

الصخيرات المجزرة السياسية "الحلقة 32"

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية
((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)) صدق الله العظيم.
يقول القيدوم الراحل أستاذنا مصطفى العلوي: ((وما كان لأحداث على مستوى خطورة هجوم الصخيرات أن تدرج في مسالك النسيان، دون أن نستخلص الدرس منها، وكان الملك الحسن الثاني رحمه الله، حريصا على إقبار أخبارها وأسرارها، تفاديا لاستمرار البحث عن دوافعها وأسبابها والمسؤولين عنها، بقدر ما يحرص كتاب “الصخيرات المجزرة السياسية” على استخلاص الدرس مما خطته دماء الضحايا، ودموع الثكالى على جبين التاريخ المغربي المعاصر.
فيما يلي، تقدم “الأسبوع” أقوى ما كتبه الراحل مصطفى العلوي عن محاولة انقلاب الصخيرات، عبر حلقات ضمن ركن “الحقيقة الضائعة”.
بقلم: مصطفى العلوي

  في اليوم العاشر من شهر غشت، أي شهرا واحدا يوما بيوم بعد حوادث الصخيرات، كان الكولونيل أمقران يفسّح الجنرال أوفقير في جنبات القاعدة العسكرية بمدينة القنيطرة، وكان وفدهما متبوعا بعدد من الضباط الكتاب، كان أوفقير يملي أوامره وهم يكتبون: هنا ستبنى مدينة سكنية، هنا سنعمل كذا.. هنا سنبني كذا.. يجب صرف ميزانية لكذا.. يجب تأسيس جمعية لكذا… والأوامر تعطى، وعيون الضباط تزداد اتساعا وأفكارهم تزداد انفتاحا لهذا الرجل الذي جاء لينفذ لهم كل مطالبهم.

وهبطت السيارات المحملة بوفد وزير الدفاع في الطريق المنحدر المؤدي إلى مخازن الطائرات، وأخذ الجنرال يتفحصها واحدة واحدة، ويدخل بعضها واضعا بعض الأسئلة الفنية وكأنه طيار مثل الطيارين، الشيء الذي زاد إعجاب الكل به.. ثم التفت إليهم قائلا: لماذا تتعجبون.. أنسيتم أني أقود طائرتي بنفسي.. وإني أحب الطيران؟

وأرسل أوفقير نظرة طويلة على سرب الطائرات النفاثة “ف 5″، ثم انتقل بنظره إلى الكولونيل أمقران الذي استقبل نظرة رئيسه بابتسامة.. وكان التفاهم بالنظرات فقط.

واستمر هذا التفاهم ينمو على مر الأيام، بل الساعات، وكان المستفيد بالدرجة الأولى من هذا التفاهم هم ضباط القاعدة وجنودها.. وزاد إعجابهم برئيسهم أمقران، وزاد إعجاب رئيسهم برئيسه أوفقير.

وبعد أيام قليلة، ومع دخول شهر شتنبر، كانت الاجتماعات تتكرر بين أوفقير وأمقران، كان أوفقير بمحضر أعضاء اللجان يتحدث عن الإصلاح: إصلاح الجيش عماد الأمة، وتوحيد الجيش، وخلق روح التعاون بين عناصر الجيش.

وكانت بعض البلاغات الرسمية تصدر بين الفينة والأخرى معلنة عن “الإجراءات الإصلاحية التي يجريها معالي وزير الدفاع، الماجور العام للقوات المسلحة الملكية، في صفوف الجيش”، لكن الجنرال أوفقير كان يقف في تصريحات أمام إطارات الجيش عموما وأمام مساعدي أمقران خصوصا، عند النقط التي كان يجب أن يقف عندها.

وأخذت نقط الاستفهام تتعاظم في ذهن الكولونيل أمقران عن سر هذا الاتجاه الجديد، وأخذ يتساءل هل لهذا من سبب.. وهل ستعقبه أشياء أخرى..؟ لكن أوفقير لم يترك الكولونيل يستسلم لتساؤلاته ولحيرته، فدعاه في أواخر شهر شتنبر لسهرة في طنجة، ولقيه رأسا لرأس ليحدثه بصراحة متناهية، وليطلعه على حقيقة نواياه وأهدافه.

لقد كان الجنرال أوفقير يخطط للانقلاب المقبل ليلة انقلاب الصخيرات، ولم يكن هناك، بحكم الهلع، مجال لاستطلاع نواب أوفقير، فحتى يوم استنطاق الجنرالات قبل إعدامهم غداة هجوم الصخيرات، حرص أوفقير على أن لا يكون هناك استنطاق شرعي، وكان يحضر الجنرالات وعلى رؤوسهم أكياس من الخيش، ولم يكن الاستنطاق كاملا، وحيث أن المفتش الأعلى للقوات الجوية بلغه أن قائد قاعدة القنيطرة، عبابو، قد شحن طائرات “ف 5” بالصواريخ ساعة الهجوم على الصخيرات، فقد تم اعتقال جميع ضباط القنيطرة وعلى رأسهم أمقران، وقدموا للتحقيق من طرف الجنرال إدريس بنعمر، إلى الجنرال أوفقير في ثكنة مولاي إسماعيل، ولكن أوفقير لم يعتقلهم، وكانوا حاضرين ساعة الإعدام في الصباح الموالي، فتقدم منهم الجنرال إدريس وهو مغتاظ أمام الضباط ساعة الإعدام وقال لهم: كان لي اعتقاد راسخ بأنكم مشاركون في الانقلاب، والآن آمركم بإطلاق الرصاصة الأخيرة على المعدومين، وفعلا حمل ضباط القنيطرة، ومعهم ضابط للأمن، الكولونيل يدر، حملوا المسدسات وأفرغوها في رؤوس المعدومين، نفس ضباط القنيطرة الذين نظموا الانقلاب الموالي في 16 غشت 1972، من بين الضباط الذين أطلقوا الرصاصات الأخيرة أيضا، إضافة إلى أمقران والكويرة، كان هناك الكولونيل عبد السلام بنعمور، الذي عينه الجنرال أوفقير فيما بعد جنرالا.

ورغم أنه كان مقررا كما هي الأصول، أن يعدم كل جنرال وحده، الأول بالأول، فإن أوفقير أسرع وسط بولوطون الإعدام وكان يصيح: أطلقوا النار، أطلقوا النار، فقد كان يخشى أن يصدر الملك أمرا بإلغاء الإعدامات، لأنه كان حاضرا.

أوفقير قبل الانقلاب الثاني بشهور، كان يلعب “البوكير” في بيت الأميرة عائشة أخت الحسن الثاني، وكان بجانبه عدد من الضباط، فألقى يده على الأوراق الخمسة وطلعت له خمسة أوراق متناسقة رابحة، فأظهرها لضابط كان جالسا جنبه (السعيدي) فرحا مستبشرا، ولكنه ومن كثرة الثقة بنفسه، رمى أربعة أوراق، فشك رفاقه في أن يده فاسدة، وزادوا في المزاد، وحصل على أربعة أوراق جديدة، فطلعت له خمسة أوراق من لون واحد، وجمع مليونين كانت على الطاولة، وقال: إنه فصل الحظ.

في تلك الأمسية، نادى أوفقير على الكولونيل حسن اليوسي قائلا: إيوا يا حسن، أنت حسن كم؟ أجابه اليوسي: أنا حسن طروا، فقال له أوفقير: أنت حسن زيرو (بشهادة الكولونيل السعيدي رحمه الله).

أثناء عملية متابعة مهاجمي أهرمومو الذين كانوا تائهين في شوارع الرباط وإطلاق الرصاص مستمر، نادى أوفقير على الكولونيل السعيدي ليلتحق به في معسكر مولاي إسماعيل، ونزل السعيدي بعد أن استأذن رئيسه الجنرال بنعمر إدريس، ولم يجد سيارته فركب سيارة زوجته، وعندما جاء سائقه التحق به، وصل السعيدي لمعسكر مولاي إسماعيل وقال له أوفقير، وكان مشدوها: إنما أردت أن أخبرك بأن الأمور على أحسن ما يكون، ولكن سائق السعيدي الذي كان في طريقه للالتحاق بصاحب السيارة السعيدي، تعرض لكمين أطلق عليه الرصاص بغزارة، ونجا بعد أن هرب ودخل في باراج عسكري، مما يدل على أن النية كانت في اغتيال السعيدي، وعلى أن كل عمليات التصفيات التي شاهدها سكان الرباط صباح يوم 11 يوليوز 1971، لم تكن كلها حقيقية.

“يتبع”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى