غير مصنف

وجهة نظر | ألا يعتبر موقف الحكومة ومن صوت على المادة 9 تمردا وعصيانا لأوامر الملك؟

بقلم: ذ. عبد الواحد بن مسعود*

ثار نقاش حاد حول صياغة ومفهوم وتطبيق المادة 9 من مشروع قانون المالية لسنة 2020، وأسباب نزول تلك المادة التي كانت تنص في صيغتها الأولى على ((عدم الحجز على أموال الدولة والجماعات الترابية أو المحلية والمؤسسات العمومية))، ووصل الأمر إلى حد عدم تنفيذ الأحكام القضائية، وذلك النقاش في نظرنا، لم يتطرق لعمق الإشكالية وعواقبها، ولم يناقش الأساس الشرعي والقانوني الذي وقع الاعتماد عليه في سن هذه المادة، وحتى الندوات التي كانت عبر القنوات القضائية، كانت تدخلاتها سطحية وغير مقنعة، وعباراتها محتشمة، كأن هناك خوفا أو حذرا من معارضة ما ورد في تلك المادة.

سبب النزول كما ورد في تدخل رسمي، أنه صدرت أحكام عن القضاء الإداري وحكمت على الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية بأداء تعويضات وصلت إلى ملايير الدراهم، ويرى ذلك المصدر من أصحاب الكفاءات، أن العلاج يتمثل في تعطيل نفاذ الأحكام القضائية، وهدر حجيتها، بل والأخطر من ذلك، عدم الامثتال للصيغة التنفيذية التي تذيل بها الأحكام، ونصها وكما ورد في الفصل 433 من قانون المسطرة المدنية: ((وبناء على ذلك، يأمر جلالة الملك جميع الأعوان، ويطلب منهم أن ينفذوا الحكم المذكور (أو القرار)، كما يأمر الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك لدى مختلف المحاكم، أن يمدوا يد المعونة لجميع قواد وضباط القوة العمومية، وأن يشدوا أزرهم عندما يطلب منهم ذلك قانونا)).

يستنتج من موقف هذه الحكومة المقتدرة، أن الأحكام القضائية، سواء صدرت عن القضاء الإداري أو القضاء العادي، رغم تذييلها بالصيغة التنفيذية وما جاء في الأمر الملكي، لا تنفذ، ولا يمكن للوكلاء العامين للملك ولا لوكلاء الملك لدى مختلف المحاكم، ولا للقوة العمومية، أن تتدخل لتنفيذ حكم أمر جلالة الملك بتفيذه؟

ألا يعتبر موقف الحكومة المشكلة من ذوي الكفاءات، ومن صوت على هذه المادة، تمردا وعصيانا لأوامر الملك؟

ألا يعتبر الوقوف في وجه ضباط القوة العمومية ومنعهم من مد يد المساعدة لتنفيذ الأحكام، شقا لعصا الطاعة ومسا خطيرا بمهام جهات يجب عليها أن تمتثل وتنفذ الأوامر بدون مناقشة؟

ألا تعتبر الدعوة لتعطيل تنفيذ الأحكام أنها تنطوي على اعتداء السلطة التنفيذية والتشريعية على أعمال السلطة القضائية، وخرق فاضح لما ورد في الدستور الحالي والدساتير السابقة التي تنص على وجوب احترام السلطة القضائية واحترام استقلالها، واحترام هيبة أحكامها؟

لقد غابت عن حكومة الكفاءات القواعد الأساسية التي ينص عليها دستور المملكة، وهو قانون يعلو جميع القوانين ويجسم إرادة الأمة المغربية، لذلك لا بد من التذكير ببعض تلك القواعد، ومنها، أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وأن المغرب دولة الحق والقانون، وأن التكاليف العمومية لا يتحملها المواطن إلا إذا كانت وفق الإجراءات المنصوص عليها في الدستور، وأخيرا، نذكر أن الفصل 124 من الدستور ينص على أن ((الأحكام تصدر وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون)).

وأمام صراحة هذا الفصل، فإن حكومة الكفاءات بتلك المادة، وقفت في وجه تنفيذ الأحكام التي تصدر باسم الملك، وهي التي لم يمض على تشكيلها وأداء اليمين أكثر من شهر وفي قاعة العرش أقسمت على احترام القانون.

قيل منذ زمن سحيق، أن العدل أساس الملك، وإذا وقع التطاول على الأحكام التي تحقق العدل وترفع الظلم وتحمي الحقوق، فإن ميزان العدل سيختل، وكلمة العدل لها مفهوم واسع، ومنه المقومات التي تقوم عليها الدولة، فإذا انهار العدل تنهار الدولة.

الحكومة عللت عدم الحجز على أموال الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات بتعليل فاسد، عللته بما صدر عليها من أحكام تلزمها بأداء مبالغ مالية لمن صدر الحكم لصالحهم، وتلك الأحكام وتنفيذها سيربك سير ذلك المرفق، وأنه يجب إقامة توازن بين الحقوق وبين المحافظة على سير المرافق العمومية.

إن الحكومة خجلت من ذكر الأسباب الحقيقة التي أدت إلى صدور تلك الأحكام، ولم تعط مثالا واحدا لحكم صدر ظلما ومخالفا للقانون وأثقل كاهل الدولة بأداء التعويضات للمتضررين من التصرفات الطائشة لبعض مسيري المرافق العمومية.

الأسباب واضحة، وأضرارها تفوق كل وصف، وطرحت على القضاء في جميع مراحله، وقال فيها كلمته المنصفة والعادلة، ومنها أن الدولة ومرافقها غير معفاة من المتابعة القضائية، ولا يوجد ما يمنع من الحكم عليها إذا انتهكت حرمة القانون، وتسأل الدولة ومرافقها على أساس ما هو معروف، أي إما بمقتضى المسؤولية العقدية، أو المسؤولية التقصيرية.

الأسباب يا حكومة الكفاءات، تكمن في أن بعض المسؤولين في الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، يرتكبون أخطاء فادحة في تسييرهم الإداري، ويخرقون القانون، ويستغلون السلطة والنفوذ، ولا يحترمون ما أبرموه من عقود، ويتسلطون على ممتلكات المواطنين ويحتلونها دون أداء أي مقابل أو تعويض، وكل ذلك، يشكل شططا في استعمال السلطة، ولا بد من تدخل القضاء لرفع الظلم والاعتداء وإعطاء الحماية القانونية لمن يستحقها، فالفصل 117 من الدستور ذكر أن ((القاضي يتولى حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون))، فالعدالة كما نحت تمثالها، معصوبة العينين وترفع في يدها ميزان العدل، ولا تبالي بمن يقف أمامها.

من القضايا التي عرضت على المحاكم الإدارية:

– قضايا تتعلق بطرد الموظفين  أو المستخدمين أو العمال، دون تمتيعهم بحق الدفاع، ولا إخبارهم بأسباب الطرد، ولا إحالتهم على المجلس التأديبي.

– قضايا تتعلق بالميز والتحيز في الترقية، وتخطي ترقية موظف رغم أحقيته في تلك الترقية.

– قضايا تتعلق (وما أكثرها) بالاعتداء المادي على أملاك وعقارات المواطنين والاستيلاء عليها دون أداء مقابل أو تعويض عادل.

– قضايا تتعلق بإبرام الصفقات العمومية والامتناع عن أداء مستحقات المكلف بإنجاز الصفقة، ومنهم من انتحر بدافع الظلم والامتناع عن تنفيذ عقد الصفقة.

– قضايا تتعلق بالتجاوزات في مجال تحصيل الجبايات والضرائب.

– قضايا تتعلق بامتناع الإدارات عن تسوية الوضعية الإدارية الفردية للموظفين والمستخدمين في المكاتب والمؤسسات العمومية.

– قضايا تتعلق بالتزوير والتلاعب في العلميات الانتخابية، وهدر أموال الدولة في الحملات الانتخابية.

فهل سيقف القضاء الإداري مكتوف الأيدي أمام هذه الفضائح الإدارية؟

وإذا كانت الأحكام الإدارية تصدر على بعض الجماعات المحلية أو الترابية، فلأن رؤساءها لا يتوفرون على الكفاءة لتسيير تلك الجماعات، وبعضهم لا يزيد مستواه العلمي عن مستوى الشهادة الابتدائية، وبعضهم قام بتزوير تلك الشهادة، وبعضهم جمع من الأموال غير المشروعة ما تسد به الدولة جانبا من عجزها المالي، والكل تابع مراحل محاكمة هؤلاء.

ولو كانت الأمور تسير في مجراها الطبيعي، ووفق القانون، لما وصلت المنازعات للمحاكم الإدارية، ولكن لما تصل المنازعة للمحكمة، يتعين عليها أن تفصل فيها، فالفقرة الأولى من الفصل 2 من قانون المسطرة المدنية تنص على ما يلي: ((لا يحق للمحكمة الامتناع عن الحكم أو إصدار قرار، ويجب البت بحكم في كل قضية رفعت للمحكمة)).

هل تريد الحكومة، لما ترفع الدعوى لطلب الحكم بما هو مستحق، أن تحكم المحكمة برفض الطلب وتعلله بكون الحكم وفق الطلب من شأنه أن يرهق ميزانية الجهة المعنية ويعرقل سير المرفق العمومي، وأنه لا مصلحة للمتقاضي في رفع الدعوى ما دام الحكم سيجد صعوبة في تنفيذه؟

لقد سيطر مبدأ التضامن الحكومي على الوزارة الوصية، ولم نسمع أي رد فعل قوي سوى ما جاء في الندوة المتلفزة حول مناقشة هذه المادة وكان رد الفعل غير مقنع، ومن ذلك، لا يوجد مسؤول كيفما كان موقعه يعارض تنفيذ الأحكام، والحالة أن تلك الوزارة لم تتخذ موقفا صارما وحازما لحذف تلك المادة من مشروع قانون المالية لسنة 2020، وإنما قيل أيضا أن جميع الدول تضمن مبدأ التوازن بين حقوق المواطنين ومبدأ المحافظة على سير المرفق العمومي، ولم يذكر ذلك المصدر دولة جاءت في قانونها مقتضيات تماثل ما جاء في مقتضيات المادة 9 موضوع النقاش وبنفس الصيغة.

نتذكر جميعا ما راج حول إحداث المحاكم الإدارية، ونتذكر خطابات صاحب الجلالة، المرحوم الحسن الثاني، لما قال بأن الدولة ستستكمل سيادتها وبناء صرحها القانوني، بإحداث المحاكم الإدارية، لمواجهة تعسفات الإدارة كما هو الشأن في مجالس الدولة في الدول الراقية.

خطورة هذه المادة، أنها ستكون حجر عثرة بالنسبة للاستثمارات الأجنبية في بلادنا، فإذا عرف المستثمر أنه إذا طالب بمستحقاته فإن الحكم لن ينفذ أو ينفذ على سنوات، فلن يتأخر في إغلاق أبواب مؤسساته الاستثمارية ويغادر البلاد ويصبح العاملون في المؤسسات الاستثمارية الأجنبية في عداد العاطلين؟

بالأمس القريب، عقد في مراكش مؤتمر تحت شعار “الاستثمار والعدالة”، وخرج المستثمر بأن حقوقه ستكون محل حماية قضائية، واليوم، نقول له أن الحكم بمستحقاتك لن ينفذ، لأنه يثقل كاهل الدولة، وعليك أن تنتظر انصرام أجل ثلاث سنوات على طلب تنفيذ الحكم.. أليس في هذه السياسة نوع من الارتباك والتخبط؟

وذكر مسؤول في ندوة تلفزيونية، أن تلك المادة يقصد بها عدم الحجز على أموال من شأنها أن تعيق سير المرفق العام، وأعطى مثالا، كون الحجز قد ينصب على سيارة إسعاف أو شاحنة لجمع النفايات، لكنه لم يعط مثالا واحدا أو أدلى بحكم واحد أمر بحجز سيارات الإسعاف وشاحنات جمع النفايات، فمثل هذا القول يمس بحرمة القضاء ويقلل من أهمية رسالته.

إن الحجز يقع على الأموال الغير مخصصة لسير المرفق العام، وهو ليس بحجز حيازي، بل تبقى الأشياء المحجوزة في يد صاحبها إلى أن يقع تنفيذ الحكم.

نعم، يمكن حجز سيارة المدير الفخمة الإدارية، لأن حجزها لا يعيق سير المرفق العمومي، ويمكن للسيد المدير أن يتواضع وأن يلتحق بمكتبه بامتطاء وسيلة من وسائل النقل العمومي.

لقد اهتم الفقهاء بموضوع الحجز الإداري، ومن هؤلاء الفقهاء، المستشار مصطفى مجدي هرجه في كتابه “التعليق على قانون الحجز الإداري” طبعة 1993 دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية، وجاء في الصفحة 109 ما يلي: ((لا يجوز الحجز ولا اتخاذ إجراءات أخرى على المنشآت والأدوات والآلات الأخرى والمهمات المخصصة لإدارة المرافق العامة، والمستفاد من هذا النص أن الحجز الذي يوقعه الدائن على الآلات والمهمات المخصصة لخدمة المرفق العام، يعتبر باطلا بقوة القانون، ولذلك، يتعين على قاضي التنفيذ، بوصفه قاضيا للأمور المستعجلة عند طرح المنازعة عليه، القضاء بعدم الاعتداد بالحجز المذكور إذا ما استبان له أن ما حجز عليه لازم لسير المرفق العام، وذلك إذا ما توافر وجه الاستعجال في المنازعة)).

وهكذا، فإن ما يمنع حجزه هو الآلات والأدوات و المنشآت اللازمة لسير المرفق العمومي، وليس الأموال التي رصدت له في ميزانيته، كما أن الأمر بيد القضاء وليس بيد المتصرف أو الآمر بالصرف، فالقضاء هو الجهة المختصة للحكم بصحة الحجز أو الحكم ببطلانه.

* من هيئة المحامين بالرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى