المنبر الحر | الأحزاب السياسية المغربية والطريق نحو التغيير


في خضم التحولات التي يشهدها العالم، أصبحت المجتمعات أكثر وعيا بأهمية وجود مؤسسات سياسية قوية تضمن حقوق المواطنين وتسهم في تحقيق التنمية، ومع ذلك، تظل الأحزاب السياسية في العديد من البلدان، بما فيها بلادنا، تحت المجهر، حيث يُنتقد دورها في قيادة عجلة التغيير، بسبب غياب الإرادة السياسية الفعلية لدى بعض منها.
فالإرادة السياسية هي جوهر العمل الحزبي الناجح، والإرادة السياسية تعني الالتزام الجاد باتخاذ قرارات حقيقية ومستدامة، مهما كانت صعبة، من أجل تحقيق المصلحة العامة، وهي تعكس وعيا عميقا بالمسؤولية تجاه الوطن والمواطن، ومع ذلك، فإن غياب هذه الإرادة يترجم إلى برامج حزبية ضعيفة، ووعود انتخابية جوفاء، وخطاب سياسي يفتقر إلى الواقعية.
وتتجلى مظاهر ضعف الإرادة السياسية في العمل الحزبي، في الاعتماد على الشعارات بدل العمل الميداني، فكثيرا ما نجد أحزابا تُركز على شعارات براقة لجذب الناخبين، لكنها تفتقر إلى برامج حقيقية وآليات لتنفيذ وعودها.
وكذا الانخراط في الصراعات الداخلية.. فبدلا من توحيد الجهود لخدمة الوطن، تنشغل بعض الأحزاب بصراعاتها الداخلية أو تسوياتها السياسية الضيقة، ثم الابتعاد عن هموم المواطنين، بحيث تجد هناك فجوة واضحة بين الخطاب السياسي لبعض الأحزاب واحتياجات المواطنين، ما يجعلها غير قادرة على كسب ثقة الجماهير أو تحقيق تطلعاتهم.
وأخيرا، التقاعس عن مواجهة القضايا الكبرى، فالأحزاب التي تخشى مواجهة القضايا الحساسة أو التي تتردد في اتخاذ مواقف جريئة، تُفقد الساحة السياسية زخمها وتعيق التقدم.
لماذا إذن، نحتاج أحزابا بإرادة سياسية فعلية ؟
بلادنا تحتاج إلى أحزاب جادة تضع خططا مدروسة لإصلاح التعليم، الصحة، الاقتصاد، والقضاء، ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية، فالإرادة السياسية ضرورية للتعامل مع التغيرات الجيوسياسية وحماية المصالح الوطنية، وتعزيز ثقة المواطنين في العمل السياسي بوجود أحزاب ملتزمة وشفافة يُعيد الثقة بين المواطن والمؤسسات السياسية، مما يُشجع على المشاركة الفعالة في الحياة العامة.
وكذا ترسيخ دولة الحق والقانون، فأحزاب ذات إرادة سياسية حقيقية، تضع سيادة القانون فوق كل اعتبار، مما يُعزز الاستقرار والعدالة، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
يجب إعادة هيكلة العمل الحزبي، إذ على الأحزاب مراجعة نفسها، بدء من اختيار القيادات، مرورا بآليات اتخاذ القرار، وصولا إلى صياغة برامج واقعية قابلة للتنفيذ، وأيضا التواصل المباشر مع المواطنين، إذ على الأحزاب بناء علاقة قوية مع القواعد الشعبية لفهم التحديات الحقيقية.
ثم الاعتماد على الكفاءات الوطنية، فالاستفادة من الخبرات الشابة والكوادر المؤهلة، يعزز من كفاءة الأحزاب وقدرتها على الابتكار، أضف إلى ذلك التركيز على الإنجازات بدل الشعارات، حيث يجب أن تُقاس نجاحات الأحزاب بمدى قدرتها على تحقيق نتائج ملموسة، لا على وعودها فقط.
وفي إطار تحديث العمل الحزبي، لطالما أكد الملك محمد السادس في خطاباته على دور الأحزاب السياسية كركيزة للديمقراطية والتنمية، ودعا الأحزاب إلى التركيز على العمل الميداني والابتعاد عن الصراعات الضيقة، مشددا على ضرورة التفاعل المباشر مع المواطنين والاستماع إلى همومهم والعمل على حل مشاكلهم بدل الانشغال بالحسابات الانتخابية، كما أكد الملك أن نجاح أي حزب يقاس بمدى قدرته على تحقيق النتائج الملموسة على أرض الواقع، داعيا الأحزاب إلى تجديد نخبها واستقطاب الكفاءات المؤهلة والشابة التي تواكب تطورات العصر.
إن بلادنا اليوم في حاجة ماسة إلى أحزاب تحمل إرادة سياسية فعلية تسعى إلى خدمة المواطن والوطن بعيدا عن الحسابات الضيقة، أحزاب تجعل مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، وتحمل مشعل التغيير الحقيقي نحو مستقبل أفضل.
فإذا ما قارننا بين أحزاب الأمس وأحزاب اليوم، سنجد من الوطنية إلا المصالح الضيقة، فعندما نعود إلى أحزاب الأمس، نجد أنها كانت تتمتع بروح وطنية صادقة، حيث لعبت دورا محوريا في تحقيق الاستقلال والدفاع عن القيم الوطنية، وكانت تلك الأحزاب تحمل هموم الوطن والمواطن، وتضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وتناضل من أجل ترسيخ العدالة الاجتماعية وبناء دولة حديثة، ثم إن قادة تلك المرحلة كانوا رجال مبادئ، اختاروا طريق التضحية ونكران الذات، وقدموا نموذجا يحتذى به في العمل السياسي.
أما اليوم، فقد أضحى المشهد السياسي في كثير من الأحيان مسرحا للتنازع على المصالح الشخصية أو الفئوية، وأصبحت بعض الأحزاب تفتقر إلى البوصلة الوطنية التي وجهت أحزاب الأمس، فتغلب مصالحها الضيقة على حساب القضايا الكبرى للوطن، وبدلا من الانخراط في حل مشاكل المواطنين، نجدها تركز على الحسابات الانتخابية أو التسويات السياسية التي تُكرس استمرارها في الساحة، دون تحقيق نتائج ملموسة.
هذا التحول من العمل السياسي الوطني إلى تغليب المصالح الخاصة، يُفسر تراجع ثقة المواطنين في العملية السياسية، ويدعو إلى ضرورة مراجعة المسار وإحياء القيم التي قامت عليها أحزاب الأمس، فالبلاد اليوم في أمس الحاجة إلى عودة الروح الوطنية الصادقة في العمل الحزبي لمواجهة التحديات الراهنة وتحقيق تطلعات الأجيال القادمة، بإرادة سياسية فعلية.
إن بلادنا، كما قلنا، في حاجة إلى أحزاب سياسية تتبنى إرادة سياسية فعلية وتعيد الاعتبار للعمل الحزبي النبيل بعيدا عن الشعارات الفارغة والمصالح الضيقة، لأن مستقبل الوطن يتطلب أحزابا تضع خدمة المواطنين فوق كل اعتبار، وتسعى إلى إحداث تغيير حقيقي يقود إلى تنمية شاملة ومستدامة، فالأحزاب ليست فقط وسيلة للتعبير السياسي، بل هي قوة حقيقية للتغيير إذا ما استثمرت طاقاتها في خدمة الوطن والمواطن، وكما قال الملك: “لا سبيل إلى تحقيق التنمية دون انخراط فعال للأحزاب في أداء دورها”.