المنبر الحر

المنبر الحر | التجديد.. المطلب الملح في المجتمعات العربية

بقلم: بنعيسى يوسفي

 

    ليس من باب الغلو في شيء القول أن المجتمع الذي يستطيب حياة الجمود، ويتمسك بالتقليد مُعرضا عن التجديد والإصلاح، مجتمع يحكم على نفسه بالموت البطيء، وكل مجتمع يعجز عن تجديد نفسه وعن الإبداع والابتكار في الوقت المناسب، وعندما تتغير الظروف والأحوال من حوله داخليا وخارجيا، فهذا إعلان صريح أن ثمة كوابح حقيقية مستحكمة في مفاصيل هذا المجتمع لا تسمح لعجلة التجديد والإصلاح بالدوران، فالمجتمع الذي لا يجدد نفسه على جميع المستويات، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ودينيا، تتجمد الحياة في شرايينه، ويقترب قلبه من التوقف عن النبض، فمثلما يمكن الحديث عن المجتمعات الفاشلة في الميدان السياسي، كالتي تعيش حروبا أو حالة من عدم الاستقرار والفوضى، يمكن أن نتحدث عن المجتمعات الراكدة والجامدة التي لا يعرف إليها التغيير والتجديد سبيلا، ولا مراء أنه حينما نتحدث عن التجديد في هذا المقام فنحن لا نقصد مجالا أو ميدانا بعينه، بل نتحدث عن ذلك في إطار من الكلية، أي أن يشمل كل مناحي الحياة والمجالات المعروفة دون استثناء، والتجديد في أبسط تعاريفه هو إطلاق العنان للتفكير والخلق والإبداع في كل مجالات الحياة لإلباسها حلة جديدة، وإضفاء عليها طابعا جديدا، وليس ترديد أو اجترار لما سبق قوله أو الوصول إليه، لأن كل ما قد تم الوصول إليه في الماضي، ما هو إلا انعكاس لسياق ثقافي واجتماعي وتاريخي معين، أو انسجاما مع بيئة معينة تختلف في الكثير من تفاصيلها عن السياق والبيئة التي نحياها اليوم، ولهذا فالتجديد دائما مرتبط بالسياق الذي يفرضه، فالتجديد كما يقول المفكر المصري ناصر حامد أبو زيد: “لا ينبع من رغبة شخصية أو من هوى ذاتي عند هذا المفكر أو ذاك، وهو أيضا ليس تحليقا في سموات معرفية أو عرفانية، بل ينبت في أرض الحياة، كما أنه ليس حالة فكرية طارئة، بل يجسد الفكر في تجاوبه مع الأصل الذي ينبع منها، ويتجاوب معها بوسائلها الخاصة”.

تتمة المقال تحت الإعلان

ومن دون شك في الوقت الراهن، تبدو الحاجة ماسة لهذا التجديد في المجتمعات العربية بالخصوص، فالسياق العام اليوم يفرض ذلك، والجميع يكاد يتفق على أن هناك ضرورة ملحة له، فالواقع العربي المأزوم اليوم يفرض قراءة جديدة له، يمكن من خلالها الانتقال من حالة الركود والاستعصاء التي ترخي بأسجافها عليه، إلى حالة من النهوض والإقلاع على درب التقدم والديمقراطية الحقيقية والمساواة والعيش الكريم.

صحيح أن العالم العربي والإسلامي عرف حركات تجديدية وتنويرية كثيرة على امتداد تاريخه الطويل، لكن يبقى أهمها تلك التي قادها مثلا المصلح الكبير محمد عبده، الذي حاول نقل النهضة العربية نقلة منهجية كبرى تجاوز بها ثورية الأفغاني إلى محاولة بناء “عقلانية إسلامية” على غرار العقلانية الغربية التي أسست لمجتمعات ديمقراطية متقدمة، هذا إضافة إلى الحركة التنويرية التي كان من ورائها كل من علي عبد الرازق والطاهر عاشور والكواكبي وآخرين ممن تركوا بصماتهم واضحة بفضل أطروحاتهم الفكرية في سيرورة الإنتاج الفكري العربي والإسلامي، لكن للأسف، كل تلك الإصلاحات التي نادى بها هؤلاء المفكرون لم تجد طريقها نحو التبلور والنجاح على أرض الواقع رغم وجاهتها وثقلها المعرفي، ووقفت السلطتان السياسية والدينية، المتحالفتان، سدا منيعا أمام نفاذ أفكار وتصورات هؤلاء إلى أعماق المجتمعات العربية والتأثير فيها، وعلى الرغم من أن كل الأفكار التجديدية والتنويرية التي ناضل من أجلها هؤلاء المفكرون العظام ودافعوا عنها دفاعا مستميتا، لم تجد صدى كبيرا لدى السلطتين السياسية والدينية العربية بالخصوص، إلا أنها بقيت راسخة وملهمة ومرجعية لكل حركة تجديدية يشهدها العالم العربي والإسلامي لاحقا، وتأثير خطابهم لا زال ظاهرا وجليا إلى اليوم في فكر النخبة المثقفة في هذا العالم وما فتئت تسترشد به في كتاباتها وأطاريحها، وحتى في فكر ثلة من الطبقة المتعلمة والمتنورة والمهتمة بالشأن السياسي والديني بالخصوص فيه، وإلى حدود الزمن الراهن، لا زال الكثير من المثقفين والمفكرين الذين يقودون حركات تجديدية وتنويرية ممن يعتبرون تتمة للسلف الذين كانوا سباقين في هذا الإطار، نذكر منهم الجابري والعروي والشرفي والطالبي وحامد أبو زيد وهشام جعيط وطرابيشي واللائحة طويلة.. ورغم وأن أغلب هؤلاء عاشوا في ظل أنظمة تضع رقابة كبيرة على حرية الرأي والتعبير، إلا أنهم مع ذلك استطاعوا أن يواكبوا الواقع وما يستجد فيه، ويعبرون عنه ويصفوه، ويطرحون البدائل والحلول، أكيد أن صور التجديد كما يطمح ويتصورها هؤلاء لم تكتمل بعد، ودائما تصطدم بقوى الممانعة، لكن كل ذلك لم يجعل اليأس يتسرب يوما إليهم، فالتغيير والتجديد آت لا محالة، وكل ما يحدث اليوم ومع تعاقب السنين، هو بمثابة تراكم معرفي وفكري يمكن أن يساهم في إنضاج شروط هذا التجديد والتغيير وفي وقت من الأوقات سيؤدي دوره، ويتحقق المراد، فالمهم هو الاستمرارية وعدم ترك الفراغات، قد لا نصل في الأسس الفكرية للتجديد والإصلاح إلى ما وصل إليه السابقون، لكن هذا لا يعفينا من القول أن العديد من المجتمعات تعرف دينامية حقيقية في مجالات عديدة، وبدأ التجديد يقتحم مجالات بعينها، ومنها من وصل فيها شأوا بعيدا، وهناك منها من فتحت أبواب هذا التجديد ولو بحذر كما هو الحال في المغرب حاليا، الذي يبدو أنه سائر في طريق التجديد رغم ما قد يثيره ذلك من نقاش سياسي أو فقهي في قضايا معينة شائكة، فالأساس هو أن المجتمع يتحرك ويتطور، ببطء أو بسرعة لا يهم، الأهم هو الانطلاقة والانخراط، فتارة نصيب وتارة نخطئ، وبذلك يتم التأسيس لفلسفة وثقافة التجديد والإصلاح ومراكمة التجارب في ذلك، فالتجديد لا يأتي بين عشية وضحاها، ولا يمكن أن يأتي دفعة واحدة، بل إن التجديد معركة حقيقية بين قوى مجتمعية تتوق إليه وتراه مهما وملحا لأن السياق يفرضه، ومتغيرات كثيرة داخلية وخارجية تحتاج إلى مجابهتها وإيجاد مداميك حقيقية للتعايش معها ومسايرتها، وبين قوى خائفة على مصالحها، تستكين إلى الماضي والتقليد أو إلى ما هو قائم وسائد في أحسن الأحوال تحت مسميات ومبررات معينة، ولذلك فالمسألة تحتاج إلى مكابدة وتوافقات واجتهادات وبعد نظر، ونقاش علمي رصين وهادئ، وترجيح كفة المصلحة العليا لهذه المجتمعات تحاشيا لأي ارتدادات أو اهتزازات نحن في غنى عنها.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى