الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الاحتلال.. ومخطط اغتيال الدولة المغربية القوية

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 108"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    لست أدري ما هو أقرب الأوصاف إلى الوضع الذي كانت عليه فيالق الجيوش الفرنسية في المغرب في الشهور الأولى لسنة 1908، فيالق الجنرال درود في الدار البيضاء، وجيوش الجنرال داماد في الشاوية، وجحافل الجنرال فيجي في تافيلالت وفجيج، وإشراف الجنرال ليوطي على كل التحركات، وقال بعد هذا بأن المغرب طلب الحماية الفرنسية، وأن الفرنسيين جاؤوا للمغرب بطلب منه.

لعلها أشبه ما تكون لحماية الجزار لهيكل البقرة المذبوحة المسلوخة وهو ينقله من المجزرة إلى السوق ليبيعه بالتقسيط وهو في الطريق يمارس على الهيكل اللحمي نوعا من الحماية حتى يصل إلى البطون في أحسن حال.

بينما هذا التشبيه هو أقرب التعبيرات التي تناسب الحماية الفرنسية للمغرب، وإذا لم يقبل أحد هذا الواقع واستكبر هذا التشبيه، فإنه سيكون من الجائز أيضا أن القتلى الفرنسيين والجزائريين وهم يواجهون فيالق الجهاد، إنما كانت أرواحهم تزهق لفرط الفرحة التي كانوا يشعرون بها وهم محمولون على أعناق المغاربة.

تتمة المقال تحت الإعلان

لقد توسعت الحلقات السابقة في نقل الوقائع التي تم بواسطتها تنفيذ المخطط الفرنسي لغزو المغرب، واتضح من خلال الأحداث أن كل ما جرى في المغرب منذ موت السلطان الحسن الأول إلى شهر أبريل 1908، إنما كان من جهة، اغتيالا لدولة المغرب القوية التي خلفها الحسن الأول مترامية الأطراف شاسعة الجنبات قوية مهابة، ومن جهة أخرى، اغتصابا لما تبقى من ذلك المغرب المغتال.

ولقد وضعت فرنسا وإسبانيا في حسابهما وفي مخططهما معادلات متكاملة، واعتمدت على عناصر محضرة ومراحل مسطرة، كانت تصل إلى المغرب كالتمائم المكتوبة في وهران على يد الرهباني ليوطي، ويكفي فتح تلك التمائم في الوقت المناسب والمحل المناسب لتصنع المعجزات، إذ كانت ظروف السلطان المولى عبد العزيز من أهم العناصر التي اعتمد عليها الفرنسيون بعدما حولوه من سلطان شاب طموح، إلى أسير للوعود، مدين للأبناك، فاقد للعون، فارغ الصناديق، مهزوم الجيش، فهو إذن، عنصر طيع لن يؤثر مطلقا على المخطط الفرنسي.

إلا أن المفاجأة كانت هي حركة الجهاد وانضمام المولى عبد الحفيظ لصفوفها وتزعمه لها، وتوليه العرش باسمها، ثم وهذه الفكرة، فكرة الجهاد التي لم تكن أبدا في حساب الفرنسيين.

تتمة المقال تحت الإعلان

وهذا ما يفسره دخول الجنرال ليوطي إلى سطات في بداية سنة 1908.. لقد جاء ليدرس الموقف عن قرب، ويقرر التغييرات التي يتطلبها الموقف لتعديل المسار، وتغيير العجلات المطاطية، واستبدالها بزناجر حديدية تناسب صعوبة الأرض ووعورة الطبيعة.

ولقد اكتسب الجيش الفرنسي خبرة كبرى في ميدان المعرفة العسكرية للمناطق المحتلة، وهم الذين انطلقوا في احتلالهم للمغرب من خلال دراسات المؤرخ ويز بيرغر، وديلبيريل، مستشار السلطان، وغيرهما ممن كانوا يقومون بدراسات طوبوغرافية لفائدة الجيش والمخابرات الفرنسية.

أما في الأشهر الأولى من سنة 1908، فقد كان الجيش الفرنسي قد أصبح على بينة من كل المناطق والجبال والوديان والسهول والكهوف، وكان مكسبا كبيرا للجيش الفرنسي.

تتمة المقال تحت الإعلان

أما المكسب الثاني له، فهو هذا الاتجاه الذي اتخذه الجهاد، جهاد المولى عبد الحفيظ، هذا الجهاد الذي أصبح مزدوجا: جهاد ضد الجيش الفرنسي الغازي وجهاد ضد جيش مولاي عبد العزيز.

وإذا استطاع الفرنسيون أن يؤرجحوا الوضعية ويزيدوا من عمق الهوة بين الأخ وأخيه، ويزيدوا المولى عبد العزيز ضعفا ليزداد المجاهدون كراهية له، فإنهم قد يفرضون واقعهم ويكسبون ورقة التعايش، بل ولماذا لا يعدون هذا الطرف بالدعم والمساعدة ضد الطرف الثاني، ولربما توفقوا في تقديم هذا الوعد للطرفين معا، وهذا فعلا ما حصل.

حصل هذا كخطوة مرحلية أولى وكسياسة استعمارية عاجلة، أما آجلا، فلا شك أنهم كانوا يستهدفون دعم المولى عبد الحفيظ بصفته يترأس الجهاد وزعيم المعارضة، ويدخلونه في قفص الحكم ليكون لقوة شخصيته أثر على تقوية قراراتهم، وكان هذا هو جوهر المناورة.

تتمة المقال تحت الإعلان

التعتيم الكامل

ليس الجيش المحتل، ولا العدو الغازي، ولا المدافع القاصفة.. هي العدو الأوحد لشعب من الشعوب، فلم تكن قوات الجنرال ليوطي وهي تغزو جبال المغرب وتقتل أبناءه وتفتك بنسائه وأطفاله، هي العدو الوحيد الذي كان المغرب يواجهه في السنوات الأولى من القرن العشرين، بل كان هناك عدو آخر يضاهي العدو الأول في قبحه وخطورته، ويعيث مثل الجيش المحتل فسادا في أركان البلاد طولها وعرضها، ألا وهو الجهل بما يجري، وانعدام وسائل الاطلاع.

وأقبح وضع يمكن أن يوضع فيه شعب من الشعوب مهما كانت ظروفه وأحواله، هو وضع التعتيم الإخباري، فالناس تسمع عن الحرب لكن لا تعرف أين هي، وتسمع عن الغالب والمغلوب ولكن لا تعرف من أي طرف هي، وتسمع عن المؤامرات والمناورات ولكن لا تعرف إلى متى ستبقى بعيدة عنها.

تتمة المقال تحت الإعلان

وعندما يكون العدو بالباب – كما يقال – تكون الأعناق مشرئبة نحو الباب، والحذر منصب على الباب، والتجنيد مستمر حول الباب ودهاليز الباب وكواليس الباب، أما والعدو دخل من عدة أبواب وسط تعتيم إعلامي رهيب، فإن ذلك من شأنه أن يسهل مهمة العدو الأول، بل وإن ردود الفعل الجماهيري التي كثيرا ما تكون سلبية، تجعل العدو الأول في غنى عن خوض بعض المعارك التي يكتفي الانتصار فيها بعد أن يكون قد ترك للعدو الثاني – عدو الجهل الإعلامي – مهمة خوض معارك طاحنة ضد الأخلاق والقيم والمبادئ، فيتم الانهيار الفكري والانحطاط المعنوي، وهو أقصى ما يرمي إليه العدو الأول، العدو الغازي.

وفي هذا الجو المختنق المظلم، لم يكن الرأي العام المغربي سنة 1908 يصب جام غضبه إلا على تهاون المولى عبد العزيز، وكيف يسمح له الرأي العام بالإهمال في حماية التراب الوطني من الاحتلال، ومنعه من دخول الباب.

إلى هذا الحد كانت مسؤولية المولى عبد العزيز صعبة، وليس الرأي العام المغربي في الجبال والسهول والموانئ والصحاري بقادر على أن يسبر غور المناورات الدولية والمؤامرات الاستعمارية، ولا بإمكانه تقدير حاجة الدولة إلى المال لمواجهة الموقف، ولا هو بقادر على أن يجد الأعذار لمسؤولين حكوميين خونة ومتآمرين، ولا لجواسيس أجانب مندسين.

تتمة المقال تحت الإعلان

في إطار هذا التعتيم الإعلامي إذن، خاض المغرب معركة مقاومة الاحتلال الفرنسي في الجنوب والإسباني في الشمال.
وبعد أن كانت آفاق المجابهة واضحة في الأول، حيث كان التمركز الاستعماري في الدار البيضاء ووجدة، أصبحت مظلمة بعد أن أقيمت مراكز الجيش الفرنسي في عدة مناطق، فأصبح الضرب والجهاد أقرب إلى الخبط الأعشى منه إلى المقاومة المنظمة، وقد سجلت الوثائق العسكرية الفرنسية وبعض المخلفات المغربية، مراحل من المواجهة مع الاستعمار فاقت في عنفها ما كان عليه الوضع في بداية المقاومة.

وهل هناك ضرب أقوى وأكثر إيلاما من ضرب الأعمى في الظلمة؟ ولكن من سوء الحظ كان المغرب هو الذي يعيش في ظلام، وكان المستعمرون قد أخذوا معهم من المشاعل والمجاهر ما يجعلهم أسياد الموقف، وهذا ما فسره البعث النضالي بعد سنوات قليلة، حينما أخذت قناديل الحركة الوطنية والنوافذ المفتوحة على العالم العربي والإسلامي ترسل أضواء خافتة أنارت طريق هذا الشعب، وزادت شعلة الوعي الوطني اتقادا، فتوفر الكثير من تكافؤ الفرص في الرؤيا بين الاستعمار والمقاومة الوطنية، سرعان ما جعلت الشعب المغربي يفتح عينيه جليا على العدو الغازي فيطرده، ويسترجع المغرب استقلال بعض أجزائه، ليستمر الاستعمار في سياسة تعتيم جديد عله يكسب مرحلة جديدة.

وعلى ضوء هذا التفتح وفي جلاء هذا الوضوح، أمكن لنا الآن أن نرى بدون لبس ولا شائبة حقيقة ماضينا المظلم، ونسترجع بإباء ونخوة مناظر ذلك الصراع الذي خاضه آباؤنا ضد الاستعمار عند دخوله سنة 1907، ونتبين كيف كان آباؤنا يخبطون خبط الأعشى، لكن بإصرار وثبات من شأنهما أن يشرفا ماضي المغرب وينزعا عنه كل الشوائب التي أراد الاستعمار أن يلصقها بشعب الحسن الأول ومغرب 1880.

ولنتحول قليلا وفي يدنا قنديل من قناديل 1980 – ونحن أسياد لموقف أمتنا مجردون من مركبات النقص – في مغرب 1908، لنرى المعركة الضارية بين قوات الاحتلال الفرنسي والإسباني وبين جيوش الجهاد المغربي الأعشى، دون أن نزيل عن ذاكرتنا أن كل جزئيات ذلك الوضع وخلفياته كانت من صنع الاستعمار وجزء من مناوراته.

ولقد رأينا كيف جاء ليوطي سنة 1908 ليتدارك المخطط الفرنسي من الانهيار، ويواجه الثورة الشعبية التي كانت إلى حد سنة 1908 تجعل من المولى عبد الحفيظ سلطان الجهاد، ويأتي ليوطي بإصرار كبير لضرب هذه الفكرة وتشتيت هذا الرباط وتحويل سلطان الجهاد المولى عبد الحفيظ إلى سلطان المشاكل، ويلفه بالإطار القائم المضعضع الذي كان عليه المولى عبد العزيز.

وسنرى في هذه المرحلة كيف انبرت للجهاد قبائل مغربية كانت آمنة مطمئنة، وكيف هبت جيوش الصحراء وتافيلالت والأطلس لتضرب العدو دون تنسيق ولا سابق اتفاق، وإنما ضربا أقرب ما يكون إلى الخبط الأعشى.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى