تقرير | القانون التنظيمي للإضراب.. من الحق الدستوري إلى الواجب الوطني

يعرّف الحق في الإضراب بأنه بناء دستوري دولي وداخلي للدول الديمقراطية يعترف من خلاله للطبقة العاملة بالحق في المطالبة بحقوقهم المرتبطة ارتباطا وثيقا بالشغل، هذه البنية الدولية المنظمة بمقومات قانونية، تربط الحق بالواجب وتضمن كرامة العامل، وذلك من خلال تمتيعه بحقوقه، سواء منها المادية أو المعنوية.. ونحن نتحدث عن حق ممارسة الإضراب بالمغرب، لا بد من الإشارة إلى تشبث البنية المؤسسية الدستورية بهذا الحق العالمي، ومن ثمة تكريسه عبر بوابة دستورية قوامها الاعتراف بالحق في ممارسته لما يربو عن 58 سنة.

نص دستور 2011 المعمول به حاليا في المغرب، ضمن الفصل 29، على أن ((حق الإضراب مضمون، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته))، وبعد مضي 5 سنوات، صادق المجلس الوزاري في شهر شتنبر من سنة 2016، على أول مشروع قانون تنظيمي ينظم هذا الحق في المغرب، لكنه لم ينه بعد المسطرة التشريعية ليصبح ساري المفعول.
وقد نصت مختلف الدساتير المغربية على الحق في الإضراب، وهو ما تم تكريسه في المضامين الدستورية لكل من:
• دستور 1962، الذي نص في الفصل 14 على أن حق الإضراب مضمون، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات اللازمة لممارسة هذا الحق؛
• دستور 1970، الذي نص عليه في الفصل 14، والذي أكد بأن حق الإضراب مضمون، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق؛
• دستور 1972، الذي أكد في الفصل 14 منه على أن حق الإضراب مضمون، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق؛
• وفي دستور 1992، تم التنصيص على الحق في الإضراب، وذلك في مقتضيات الفصل الرابع عشر منه، والذي أكد بأن حق الإضراب مضمون، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق. ناهيك عن تضمين كل من دستوري 1996 و2011 بهذا الحق كذلك، حيث تم التنصيص على حق الإضراب في دستور 1996، وذلك انطلاقا من مقتضيات الفصل 14، الذي أشار إلى أن: ((حق الإضراب مضمون، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق))، وتم تأكيده في مقتضيات دستور 2011 من خلال الفصل 29.
لذلك، واعتبارا للتراكم الدستوري لهذا الحق، وانطلاقا من كونه يحظى بهذا الحجم الكبير من الإجماع، فلماذا تم التأخر في تنزيل الشق الثاني للمقتضى الدستوري ويتعلق الأمر بإخراج القانون التنظيمي للحق في الإضراب إلى حيز الوجود.
ثمان وخمسون سنة – كما أشرنا إلى ذلك سابقا – من الانتظارية وما تبعها من تعاظم سلة عريضة من الإشكالات المرتبطة بممارسة هذا الحق الدستوري، والتي ما فتئت تصطدم بمعادلة الأجر مقابل العمل، ومن ثمة اللجوء إلى الاقتطاعات من الأجور من جهة، وكذا مبدأ استمرارية المرافق العمومية الدستورية من جهة أخرى.
لأجل ذلك، ونحن نتحدث عن الحق في ممارسة الإضراب، كان لا بد أن نستحضر تلكم التجاذبات التي شابت تدبير هذا الحق الدستوري وتنزيله على أساس تنظيمي، وخاصة بين النقابات العمالية والسلطة التنفيذية، أي الحكومة.. ففي هذا السياق، واعتبارا لاستراتيجية هذا المطلب الدستوري، عرفت البنية القانونية الإعلان عن ميلاد مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، مشروع قانون تنظيمي بقي حبيس رفوف الغرفة التشريعية الأولى لما يربو عن ثمان سنوات، مما ساهم في حالة كر وفر بين هذه النقابات والحكومات المتعاقبة، ومعهما استغراق وقت طويل من أجل شد عضد هذا الحق الدستوري ببنيته التنظيمية.
وبخصوص مقتضيات القانون رقم 97.15، فإنه من اللازم التذكير بأنه قد عرف مرحلة جديدة قوامها تكريس حيز من الزمن الحكومي الحالي من أجل مدارسة النقاط الكفيلة بتنزيله في وقت زمني قصير، غير أن الأمر لم يكن سهل المنال، ذلك أنه ومع مضي أكثر من نصف الولاية الحكومية 2021-2026، فإننا لا زلنا أمام مرحلة حاسمة قوامها التوافق النهائي حول مقتضيات هذا القانون التنظيمي.
نقاش لم ينته بعد، ذلك أن هناك نقاطا خلافية لا زالت تعكر صفو العلاقة بين الحكومة والنقابات العمالية، وخاصة فيما يتعلق بـ: خطوات تفعيل الإضراب؛ الإضراب والنظام العام؛ والعقوبات.
وتفاعلا مع هذه النقاط الاستراتيجية، فإنه من اللازم التطرق إلى الفحوى الدستوري لهذا الحق في الإضراب، الذي هو مضمون دستوريا، وفي هذه الضمانة تأكيد قوي على تشبث المملكة المغربية بهذا الحق وممارسته عبر بوابة المؤسسات، غير أن الإشكال العريض يصطدم بشروط تؤثر بالسلب على بينة الممارسة، ذلك أن التنظيم لا يعني التقييد وإنما التيسير بهدف تطبيق هذا المقتضى الدستوري، وفي هذا الباب، نقترح أن يتم تعويض التقييد بمبدأ استمرارية المرفق العمومي ذي الصبغة الدستورية وبممارسة هذا الحق في جو تطبعه المسؤولية المواطنة التي يجب أن تدبر هذا الحق عبر بوابة النقابات العمالية، والتي من الواجب عليها أن تضع نصب أعين الحكومة خارطة طريق للممارسة عنوانها التناوب بين المضربين في ممارسة الحق في الإضراب، وعلى أساس برنامج إضرابه واضح المعالم لا يمس أولا وقبل كل شيء استمرارية أو ولوجية المرافق العامة للدولة.
كما أن ممارسة الحق في الإضراب وفي اضطراد تام مع النظام العام، يمكن أن يتم من خلاله تجاوز تلكم النظرة الضيقة التي تنظر إلى الإضراب على أنه يهدد النظام العام، ذلك أنه نابع من حق دستوري وقبله حق معترف به دوليا، ومن ثمة فمن الواجب على كل من الحكومة والنقابات العمالية أن تأخذ على عاتقها حماية النظام العام، ولكن من دون الإجهاز على الحق في الإضراب والإجهاز عليه بشروط تعجيزية لن تفيد الطرفين في الدفع قدما بهذا الورش المجتمعي ذي الصبغة الاستراتيجية، وبالتالي، وجب القول أن ممارسة الحق في الإضراب هو من النظام العام وأن هذا الحق لا يمكن النظر إليه على أنه معطل للبنية الموفقية، ذلك أن التعاطي التقليدي مع هذا الحق قد أصبح متجاوزا مما يؤدي بنا إلى القول بضرورة استحضار المصلحة العامة التي يعتبر النظام العام جزء لا يتجزأ منها.
ينضاف إلى هذا التوجه التحليلي ما يتعلق بالعقوبات، ذلك أن ممارسة الحق الدستوري المضمون لا يمكن أن يواجه بعقوبات، وهذا يحيلنا إلى القول بضرورة تجاوز تلكم النظرة المبنية على المواجهة السلبية بين الحكومة والنقابات العمالية، وتعويضها ببناء محكم عنوانه النقاش المبني على النتائج الذي يتجاوز فيه توجه الغلبة ويعوض بمنطق التقارب المؤسسي لا لشيء إلا من أجل بلوغ المصلحة العامة للوطن والمواطن.